مرة أخرى يحقق اليورو رقماً قياسياً تاريخياً منذ اعتماده كعملة أوروبية موحدة مع بداية عام 1999، وما انفك الدولار يتراجع أمام مجمل العملات الكبيرة في السوق المالية الدولية. فقد سجل الجنيه الاسترليني مقابل الدولار أكبر ارتفاع له منذ العام 1981. ومن جهته حقق الدولار النيوزيلاندي معدلا جيدا آنفا منذ العام 1985. هناك عوامل عدة تسهم في الوقت الحاضر في تراجع العملة الأمريكية، بدءاً بالآفاق حول معدلات الفائدة على ضفتي الأطلسي. ويفضل الصرّافون شراء اليورو بهدف استغلال حركة ارتفاع معدلات الفائدة من قبل البنك المركزي الأوروبي. إنهم يتخلون عن الدولار مع العلم أن الخزينة الفيدرالية الأمريكية (البنك المركزي الأمريكي) لم تغير معدلات الفائدة منذ ثلاثة أشهر، بل إنها من الممكن أيضاً أن تخفضها. ولكن ما هو أبعد من مستوى معدلات الفائدة، فإن التوترات السائدة على صعيد سوق الدائنين المرتهنين في الولاياتالمتحدةالأمريكية هي التي تضغط على العملة الأمريكية. فهناك العديد من العائلات الأمريكية التي اقترضت كثيرا من أموال شراء مساكن، بدأت تواجه صعوبات لدفع استحقاقاتها المالية مع هبوط سوق العقارات. ومن جراء هذا الغش في الآليات المالية، تم هيكلة هذه القروض المسجلة في الأصل في موازنات البنوك، في شكل عوامل مالية ذات مكافأة عالية، وبيعت ثانية لمستثمرين. واشترت العديد من صناديق المضاربات هذه الأموال، وهي الآن تتحمل المخاطر في المحصلة النهائية. والحال هذه، حذرت الوكالات الأمريكية للتدوين هؤلاء المستثمرين، وأحاطتهم علما بالمصاعب التي سيواجهونها لاستعادة أموالهم المخصصة لهذه العوامل المالية، مسهمة بتحليلهم هذا في هبوط أسعار الدولار. وأعلنت المجموعة الأمريكية “بير ستيرنس” أخيرا أن اثنين من صناديق الاستثمار هذه التي اشترت بشكل واسع هذه العوامل المالية من هذه الطبيعة، أصبحت لا قيمة لها الآن. وزادت بنوك أمريكية عدة من حجم أرصدتها لمواجهة الأخطار. وبفعل تأثير العدوى، أصبح الدخول إلى سوق القروض (إلزامات بنيوية، قروض للشركات، قروض مخصصة لإعادة تمويل شراء الشركات) مكلفاً جداً من الآن فصاعداً بسبب زيادة المخاطر وحذر المستثمرين. ويخشى هؤلاء من الآن فصاعدا، أن يتعرضوا لخسائر جديدة تقدر في الوقت الحاضر ما بين 50 و100 مليار دولار- الأمر الذي يزيد في تدهور الورقة الخضراء بصورة عامة. ويلاحظ الخبير في العملات أشرف العيدي أن “المؤشر المعتدل من قبل المعاملات التجارية للدولار في مواجهة ست عملات بلغ أدنى مستوى له منذ عام 1992، الأمر الذي بدأ يقلق الخزينة الفيدرالية الأمريكية”. وعندما سئل حول مداخلته نصف السنوية في الكونجرس، قال رئيس الخزانة الأمريكية،بن برنانكي، إنه لا يقدم تعليقات حول معدلات الصرف، إذ تعود المسؤولية في ذلك للخزينة. ومع ذلك، أكد أنه لا يتوقع أن تحدث أزمة للدولار مشابهة للأزمة التي حصلت ما بين 1979 و1980. ويتوقع العديد من الاقتصاديين اليوم، استمرار تراجع الدولارحتى يصل إلى سعر 1,40 لليورو الواحد، بل تذهب التقديرات لأكثر من ذلك.وحسب العيدي، “فإن وتيرة تقدم اليورو تفتح الطريق له لكي يصل سعره 1,24 دولار من الآن وحتى نهاية سبتمبر/ أيلول المقبل”. أما خبراء البنك الوطني الباريسي: باريباس فأكدت تقديراتهم حول ارتفاع سعر اليورو مقابل الدولار من 1,40 الى 1,420 ويراهن المضاربون حول سوق الصرف على هذا الاتجاه. وأشار المحللون من الشركة العامة أن الأموال المضاربة استثمرت بشكل مكثف في الفترة الأخيرة لكي تربح من ضعف العملة الأمريكية. لاشك في أن التقدم الأخيرللعملات يعمق الخلاف الفرنسي الأوروبي حول اليورو القوي. وتجد فرنسا في الوقت الحاضر نفسها معزولة في مواجهة شركائها الأوروبيين والبنك المركزي الأوروبي عبر إبداء رأيها أن العملة الأوروبية مرتفعة جدا وضارة بالاقتصاد. إذا كان اليورو القوي يثير توترات في أوروبا، فإن الدولار الضعيف يمثل تقريبا الإجماع في الولاياتالمتحدة. وإن كان السياح الأمريكيون يتذمرون من ضعف الدولار عندما يتوجهون إلى القارة الأوروبية. لكن هذا لم يمنع أن يكون الدولار في أدنى مستوى تاريخي له أمام اليورو، وفي أدنى مستوى له أمام الدولار الكندي منذ عقود ثلاثة، وأمام الجنيه الاسترليني منذ 26 سنة. ولم تتدخل الإدارة الأمريكية لمساندة عملتها. وخسر الدولار قياساً لمجموع العملات التي تمثل 38 شريكا تجاريا الأكثر أهمية للولايات المتحدةالأمريكية، %2,13 من قيمته منذ وصول جورج بوش إلى سدة الرئاسة في واشنطن. بينما ربح الدولار ما نسبته %3,18 في عهد بيل كلينتون. ويقدم ضعف الدولار لواشنطن وول ستريت اليوم مزايا عدة. “في البداية كان جورج بوش يريد فعليا دولاراً قوياً، كما يوضح ذلك بول سامويلسون، الحائزعلى جائزة نوبل في الاقتصاد. ومع مرور الوقت، غير الرئيس رأيه”. العملة الضعيفة تدعم النمو الأمريكي، الذي يتباطأ منذ نهاية سنة 2006، وتزيد من إنتاجية الشركات الأمريكية عندما تعيد ترحيل الأرباح التي تجنيها من الخارج إلى داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية. وعلى سبيل المثال، ترجم ضعف الدولار بزيادة أرباح شركة كوكاكولا بنحو60 مليون دولار في الربع الثاني، وبزيادة بنحو 198 مليون دولار من مبيعات شركة كاتربيار خلال الفترة عينها. ويسمح تراجع الدولار أيضا بتخفيف العجز التجاري من خلال تعزيز الصادرات الأمريكية التي بلغت مستوى قياسيا بنسبة 132 مليار دولار في مايو الماضي. وحصل هذا أمام الشريكين التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدةالأمريكية، وهما :اليابان و الصين. ويعتقد ريتشارد شريدا السكريتير المساعد السابق للخزينة الأمريكية: “أن الدولار سيستمر في الهبوط خلال السنوات المقبلة”. ويمثل هذا السيناريو مخاطر حقيقية، إذ إن رؤوس الأمول الأجنبية المتحدرة من الفوائض التجارية، الصينية، واليابانية، والشرق أوسطية، ستكف عن تمويل العجز في ميزان المدفوعات للولايات المتحدةالأمريكية. في الوقت الحاضر، هذا السيناريو ليس وارداً. فقد اشترى المستثمرون الأجانب في شهر مايو الماضي مبلغاً قياسياً من السندات بقيمة 126 مليار دولار. *كاتب اقتصادي أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني.