وزيرة الصناعة تشارك في فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    العاصمة: مئات الطلبة يتظاهرون نصرة لفلسطين    النجم الساحلي يتعاقد مع خالد بن ساسي خلفا لسيف غزال    دوز: حجز 10 صفائح من مخدر القنب الهندي وكمية من الأقراص المخدرة    درة زروق تهيمن بأناقتها على فندق ''ديزني لاند باريس''    هذه الدولة الافريقية تستبدل الفرنسية بالعربية كلغة رسمية    المجمع الكيميائي التونسي: توقيع مذكرة تفاهم لتصدير 150 ألف طن من الأسمدة إلى السوق البنغالية    نادي تشلسي الإنجليزي يعلن عن خبر غير سار لمحبيه    الجامعة التونسية المشتركة للسياحة : ضرورة الإهتمام بالسياحة البديلة    تعرّض سائق تاكسي إلى الاعتداء: معطيات جديدة تفنّد روايته    نائبة بالبرلمان: ''تمّ تحرير العمارة...شكرا للأمن''    التونسيون يستهلكون 30 ألف طن من هذا المنتوج شهريا..    الرابطة الأولى: تفاصيل بيع تذاكر مواجهة النادي الإفريقي والنادي الصفاقسي    بنزرت: النيابة العمومية تستأنف قرار الافراج عن المتّهمين في قضية مصنع الفولاذ    فيديو : المجر سترفع في منح طلبة تونس من 200 إلى 250 منحة    عاجل : وزير الخارجية المجري يطلب من الاتحاد الأوروبي عدم التدخل في السياسة الداخلية لتونس    رئيس الجمهورية يلتقي وزير الشؤون الخارجية والتجارة المجري    إنهيار سد يتسبب في موت 42 شخصا    مليار دينار من المبادلات سنويا ...تونس تدعم علاقاتها التجارية مع كندا    عاجل/ هذا ما تقرر بخصوص محاكمة رجل الأعمال رضا شرف الدين..    بنزرت: طلبة كلية العلوم ينفّذون وقفة مساندة للشعب الفلسطيني    إصابة عضو مجلس الحرب الصهيوني بيني غانتس بكسر    "بير عوين".. رواية في أدب الصحراء    بعد النجاح الذي حققه في مطماطة: 3 دورات أخرى منتظرة لمهرجان الموسيقى الإلكترونية Fenix Sound سنة 2024    سليانة: 4 إصابات في اصطدام بين سيارتين    17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    وزير الخارجية الأميركي يصل للسعودية اليوم    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان المغربي يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    نشرة متابعة: أمطار رعدية وغزيرة يوم الثلاثاء    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    ما حقيقة انتشار "الاسهال" في تونس..؟    تونس : ديون الصيدلية المركزية تبلغ 700 مليار    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    هام/ بشرى سارة للراغبين في السفر..    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    زيارة ماسك تُعزز آمال طرح سيارات تسلا ذاتية القيادة في الصين    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    العثور على شخص مشنوقا بمنزل والدته: وهذه التفاصيل..    عاجل/ تفكيك شبكة مُختصة في الإتجار بالبشر واصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن في حق أعضائها    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد مزالي (في كتابه): مغامرات الوحدة القذافية في تونس والمغرب العربي


البحث عن الوحدة!
إن للعالم العربي عدة مؤهلات للنجاح في انطلاقة مصيرية تكون في مستوى ماضيه المجيد وتراثه الحضاري العظيم بعد أن ظفرت أكثر أقطاره بالاستقلال ودفعت في سبيل ذلك ثمن باهضا، خصوصا وهو واقع في مفترق ثلاث قارات ومتمتع لذلك بموقع جغرافي واستراتيجي متميز.
ولمجموعة البلدان العربية مساحة هامة (14 مليون كيلومتر مربع أي 2.10 من مساحة المعمورة كلها) وعدد من السكان كبير (300 مليون نسمة أي 5% من سكان العالم) منه نسبة لا بأس بها من الشباب (38% أقل من 14 سنة)، أما اقتصاد هذه البلدان فهو متكامل في معظمه، الفلاحة عند شق والوسائل المالية عند شق آخر والموارد البشرية عند شق ثالث، وكان من المفروض أن تكون وحدة اللغة والمراجع التاريخية والحضارية المشتركة عاملا حاسما لإنجاز تناسق سياسي ذي بال ولكن للأسف وبالرغم من البيانات المبدئية والتاريخية والتصريحات الحماسية والمدوية فإن بناء الوحدة العربية التي تصبو إليه كل الشعوب العربية لم يتحقق.
إيديولوجيات متنافرة متعاقبة!
في هذا الباب نجد إيديولوجيتين تدعيان التفرد بإنجاز الوحدة العربية، من جهة حزب البعث الذي آمن بأن الأمة العربية تمتد من المحيط إلى الخليج والذي أسسه مشييل عفلق المسيحي والأستاذ السوري في مادة التاريخ وقد واصل دراسته العليا بباريس أثناء حرب 1940، وتفترض النظرية البعثية أن هذه الوحدة واقع ملموس، أمة واحدة من المحيط إلى الخليج ذات رسالة خالدة وتنفي بجرة قلم كل المحاولات التي تميل إلى دراسة واقعية للوضع أي لعالم جزأه انحطاطه الذاتي بعد القرن الحادي عشر عندما انهزم القول بالعقل مع المعتزلة [i] وانطفأت الأنوال منذ أواسط القرن الثالث الهجري فعلمت شياطين الفرقة عملها حتى حل الاستعمال وكان ما كان مما هو معلوم ولا فائدة في الرجوع إليه.
وفي أواسط القرن العشرين فضل حزب البعث الخيال الإيديولجي على التحليل الموضوعي وإثارة العواطف على حساب العقل.
وأتذكر وأنا في باريس أواصل دراستي العليا، طالبا سوريا عرفته هناك هو (إيميل شويري) كان يقرأ علي بلهجة كلها حماس مختارات من كتابات زعيمه ميشيل عفلق وخصوصا محاضرة ألقاها بدمشق سنة 1946، بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وختمها بصورة خطابية قائلا: ( منذ ثلاثة عشر قرنا – كان- محمد كل العرب فليكن كل العرب محمدا!)
إن هذه الإيديولوجية ترى أن قدر هذه الأمة العربية يفرض عليها أن لا تعترف بالحدود الموروثة من الحقبة الاستعمارية وأن تكون طلائع حزب البعث رأس الحربة في توحيد هذه الأمة بالتسرب في صفوف الجيوش العربية وحبك المؤامرات وتزعم الانقلابات وكذلك أن تتسلح لتصبح قوة قادرة على مجابهة الصهيونية والامبيريالية، فهذه البساطة السياسية التي غذت روح الانتقام
أفضت إلى سلسلة مدهشة من الانقلابات العسكرية في سوريا والعراق جلّها كان سريع الزوال وأتاح لعدد من العقلاء أن يحل الواحد بعد أشهر قليلة مكان الآخر، فسامي الحناوي خلف أديب الشيشكلي الذي هو نفسه أزاح حسني الزعيم وأخذ مكانه ثم أعدمه، وهذا هو الأول الذي دشن سلسلة الانقلابات في المنطقة [ii].
ونجح حافظ الأسد في أن يحفظ لنفسه حكما طويلا مع أنه لم يحل أي مشكل من المشاكل التي ادعى البعث فضها بعصا سحرية بل إن سوريا خسرت معه الجولان ولم تسترده إلى اليوم وكذلك صدام حسين لم يصل إلى فض هذه المشاكل ولا تحقيق تلك الأهداف بل تعقدت الأوضاع وصارت اليوم في طريق لا يعلم إلا الله كيف ستخرج منه الأمة العربية الإسلامية سالمة!
أما الإيديولوجية الأخرى التي تدعي أيضا إضفاء هذه الوحدة الأسطورية على الأمة فهي الناصرية ولكن هناك فرق بينها وبين الانقلابات البعثية التي كانت من صنع غفّل أميين سياسيا والتي أفضت إلى انقسامات مشهودة مثل ما وقع بين البعث السوري والبعث العراقي بينما كان استيلاء عبد الناصر على الحكم ناجحا بل أن عملية تأميم قناة السويس في صيف 1956 أعطتها نفسا كبيرا ، إذا كان عبد الناصر زعيما نظيف اليدين لامعا مهيبا أمكن له بهذا التأميم أن يكسب مكانة وشهرة لا مثيل له في العالم العربي بأكمله خاصة بعد التدخل العسكري الثلاثي الفرنسي الإنجليزي الإسرائيلي الغبي والإجرامي في أكتوبر 1956، والذي انتهى بالخيبة المرة بسبب الفيتو الأمريكي ثم السوفييتي دعم عبد الناصر وزاد في تألقه حتى أصبح زعيم العروبة ولكنه لم يحسن توظيف هذه الزعامة كأحسن ما يكون وارتكب أخطاء استراتيجية قاتلة من سوء حظه وحظنا نحن العرب.
فلقد فشلت الوحدة المصرية السورية (1958 – 1961) المجسمة بالجمهورية العربية المتحدة العابرة القصيرة العمر فشلا ذريعا، وعوض أن يستخلص عبد الناصر العبرة شن حربا على اليمن دامت ثمان سنوات لم يحالفه النصر أيضا مثلما أشرت إلى ذلك في باب (الإذاعة والتلفزة).
ولم يصغ عبد الناصر لنصائح بورقيبة الحكيمة لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حلا يعتمد على الشرعية الدولية، بل عرض للخطر العلاقات الدبلوماسية مع تونس وترك المجال فسيحا لوسائل إعلامه القوية لشن حملة دعائية ضد النظام التونسي واتبع نفس السلوك لمهاجمة بلدان عربية أخرى والتدخل في شؤونها (المملكة العربية السعودية، لبنان، السودان .. ) وفشل في كلها، وأخيرا كانت كارثة حرب الأيام الستة في يونيو 1967 التي ذهبت أدراج الرياح بآخر أوهام عبد الناصر وحطمت حلم العروبة والحلم الاشتراكي والشيوعي وانهارت معنويات تلك الأجيال الطلائعية التي ملأت أرجاء العالم العربي بضجيج الشعارات الرنانة الجوفاء ففقدوا آمالهم الأرجوانية الخلابة وتبخرت أحلامهم التي راودت أجفانهم بالخمسينات والستينات في إقامة الوحدة العربية فتهافت الآلاف والآلاف منهم على الغرب والمادة والتقارب والتودد إليه وربما الاستعداد لخدمته، منذ ذلك الوقت وبعد فشل التيار القومي أو القرمزي ظهر أو قويِِ خيار جديد، هو الأصولية الإسلامية التي برزت بمظهر البديل لشفاء الأنفس المهزومة والأرواح الجريحة.
وإني كلما تذكرت هزيمة 67، أشعر بالمرارة بل بألم كبير لا لإنها قسمت ظهر عبد الناصر وأصبابته بشتى الأمراض وقضت عليه في عز كهولته عن عمر يناهز 52 عاما فقط بل لأنها كشفت عن أخطاء قاتلة وأكاذيب فاضحة ليس هنا المقام المناسب لذكرها، أكتفي بالتذكير بأن الإذاعات المصرية والسورية ظلت كامل اليوم الأول تتغنى بأن مئات الطائرات الإسرائيلية قد أسقطت وأن الجيوش العربية في طريقها المظفر إلى غزو مواقع العدو، بينما خاطبي الحبيب بورقيبة حوالي الساعة الثامنة من صباح 5 يونيو لإعلامي بأن طائرات العدو حققت (شيش كباب) في عشرات الطائرات المصرية المصطفة في المطارات كأنها تنتظر قنابل العدو بمزيد الشوق.
وذكرت الملكة نور في كتابها (ذكريات حياة غير منتظرة صفحة 81 صدر في باريس عن دار كوشي – شاستال)، أن المشير عبد الحكيم عامر أوهم الملك حسين بأن الطيران المصري أسقط أكثر من 75% من الطائرات الإسرائيلية وأن الجيش المصري دخل التراب الإسرائيلي وأضافت أن عبد الناصر أكد له صحة هذا الخبر بعد ساعات قليلة مما حمل الملك على الدخول في الحرب فخسر وخسرنا القدس والضفة الغربية.
ولكن الحلم الناصري سيبقى حيا مؤقتا لدى أهم مريديه ألا وهو مهندس انقلاب الفاتح من سبتمبر 1969 العقيد معمر القذافي ولم يخف طويلا اختياراته بل أعلن سنة 1970 في الجزائر مصرحا لا وجود لمغرب ولا لمشرق بل هناك أمة عربية تسعى لوحدتها من المحيط إلى الخليج وكان مصرا على إنجاح وحدة ثورية بكل الوسائل ومؤمنا بأنه خليفة عبد الناصر في زعامته للعالم العربي، أما اليوم ..... فسبحان مبدل الأحوال !!!! ..
بداية الغواية التونسية!
وسعى في تسرع غريب لتحقيق الوحدة مع مصر في حكم السادات وفشل في ذلك فطرد آلاف المصريين دون أن يصرف لهم مرتباتهم أو تعويضا لهم وأعلن عبد السلام جلود أن المقصود هو ضرب الاقتصاد المصري ولم ينس حاكم ليبيا هذا الفشل حتى أنه ألقى يوم نشوب حرب أكتوبر التي هي فخر العرب أجمعين بيانا أعلن فيه أن مصر ستخسر الحرب ثم قاده فشله إلى الالتفات إلى تونس وكان بورقيبة شارك غرّة سبتمر 1973 في الاحتفالات التي أقيمت في الذكرى الرابعة للثورة الليبية وجشع القذافي على الكف عن الاتجاه نحو المشرق وأخذ مكانه الطبيعي في المغرب العربي القادر على أن يصبح مجموعة متناسقة عاصمتها القيروان.
بورقيبة ناصحا القذافي: لا تنفخ أوداجك، ستتعرض لطريحة!
وكان القذافي زار تونس قبل ذلك عن طريق البر واستقبله بورقيبة بحرارة في (حمام الأنف) وبهذه المناسبة ألقى العقيد خطابا في قاعة البالماريوم تحدث فيه طويلا عن الوحدة العربية وكان بورقيبة ينصت إلى الخطاب في غرفة نومه بواسطة الراديو فامتطى أول سيارة وجدها في قصر قرطاج ودخل البالماريوم فجأة وافتك الميكروفون من يد الزعيم الليبي قائلا: إنه اكتسب شرعيته لا بالمدرعات والانقلابات بل استمدها من الشعب وهو إن تكلم فباسم وطنه تونس لا باسم الأمة العربية ولاحظ قائلا : قبل كل شيء .. العرب لم يكونوا موحدين أبدا إذ الوحدة تحتاج إلى قرون لتتحقق إذا سلكنا الطريق الصحيح ونصح القذافي بالبدء أولا بتوحيد مختلف مقاطعات بلاده كطرابلس والسرت وفزان وأهاب به ألا ينفخ أوداجه متشدقا ومتحديا لأنه في إمكانها أن تعطيه طريحة !
وكنت أنظر إلى القذافي وقد ملك من نفسه ما ملك ... واكتفى بابتسامة متشجنة وكاد الأمر أن يؤول إلى فساد العلاقات بين البلدين ولكن ذلك لم يفت في عزم (محمد المصمودي) وزير الشؤون الخارجية فاغتنم فرصة غياب الوزير الأول (الهادي نويرة) الذي كان في زيارة رسمية في إيران[iii] وكذلك (وسيلة بورقيبة)[iv] التي كانت في ضيافة سوريا والكويت لينضم يوم السبت 12 يناير 1974 قمة بين بورقيبة والقذافي بحومة السوق بجزيرة جربة.
الجمهورية العربية الإٍسلامية، ولادة قيصرية ميتة!
وكان برفقة الرئيس التونسي محمد المصمودي والحبيب الشطي مدير ديوانه، ومحمد الصياح مدير الحزب الحاكم، والطاهر بالخوجة وزير الداخلية، وحسان بالخوجة مدير البنك الفلاحي وزير المالية الذي وجد صدفة في الجهة بمناسبة تفقد الإدارات الجهوية الراجعة النظر إليه، وإثر محادثة على حدة بين الرئيسين دامت أقل من ساعة، أعلن عن قيام وحدة اندماجية بين البلدين وتكوين حكومة موحدة فأصبح بورقيبة بذلك رئيس دولة جديدة اسمها (الجمهورية العربية الإسلامية) والقذافي نائب الرئيس ووزير الدفاع، وفيما يخصني فقد بقيت في منصبي في التنظيم الحكومي الجديد كوزير للصحة.
ثلاث عواصم للمرحومة!
وهكذا إعلان جربة دولة جديدة ودستور واحد وعلم ورئيس واحد وجيش واحد ومجلس شعب واحد يجمع ممثلين عن ولايات البلدين ومؤسسات موحدة تشريعية وتنفيذية وقضائية وتم اختيار علم الدولة الجديدة ذي ثلاثة ألوان أبيض وأحمر وأسود مع وجود الهلال والنجمة رمزا لتونس وأصبح لهذه الدولة ثلاث عواصم، طرابلس في الشتاء وقرطاج في الصيف والقيروان عاصمة شرفية .... هي رحلة الشتاء والصيف، وفي الساعة الخامسة من نفس اليوم قرأ المصمودي على موجات الأثير إعلان (جربة) وبالرغم من كوني وزيرا وعضوا بالديوان السياسي فإنني فوجئت مثل جميع المواطنين بسماع الخبر مثلهم عن طريق الإذاعة.
ولما دعاني مدير المراسم إلى استقبال الرئيس عند نزوله من الطائرة بمطار تونس قرطاج، لاحظت أن جميع زملائي شاطروني ما أحسست به من اندهاش وريبة ولم تبدو على بورقيبة أي علامة من علامات الانشغال بل بالعكس ظهر مرتاحا لأنه وجد نفسه على رأس بلد أصبح أكثر ثراء بسبب عائدات النفط وارتفاع المساحة ولم يخف الوزراء الذين رافقوه ارتياحهم لأنهم اشتركوا معه في لحظة تاريخية، أما أنا فقد كنت مندهشا ...لا لأني ضد مبدأ الوحدة، بل بالعكس لأن الارتجال والتسرع الذين صاحبا هذه الولادة القيصرية كانا بالنسبة إلي أمرا فاقدا للمعقولية إن لم تمهد لهذه الوحدة أي دراسة جدية ولا تم أي تشاور ولا حتى مجرد إعلام مسبق فكان الانطباع أننا نعيش مؤامرة دبرها بعضهم مستغلين مرض بورقيبة وغيابه عن الوعي فجر جرا للمشاركة في صنع حدث مهول فهذه الوحدة المترجلة المتسرعة والمهيئة على عجل لم تقرأ حسابا لما بين النظامين من تباين اقتصادي واجتماعي و لا من تناقض بين نظامهما الدستوري والمؤسساتي وكان رد فعل الجزائر سريعا وعنيفا ظهر في بلاغ رسمي ندد بهذه الوحدة المرتجلة المتسرعة المصطنعة فاضطر بورقيبة لإرسال بالخوجة والشطي على عجل لدى الحكومة الجزائرية لتهدأة الخواطر فاستقبلا ببرودة تامة ورفض الرئيس بومدين أي عرض أو اقتراح وكان جوابه حاسما إذ قال: الجرائر لا تمتطي القطار .. . وما أن عاد الهادي نويرة إلى تونس في نهاية زيارته الرسمية لإيران حتى بادر بأخذ رأيي في الموضوع كما فعل ولا شك مع بقية زملائه فأكدت من جديد معارضتي للحدث لما اتسم به من تسرع وارتجال مع أني من أنصار من توحيد المغرب العربي عندما ينجز بطرق عقلانية طبعا.
القذافي يطارد بورقيبة في سويسرا!
وفي شهر يناير 1974، أعلمني الهادي نويرة بأن القذافي قرر الالتحاق ببورقيبة حيث يقضي أياما للاستجمام وكان قصد العقيد إقناع الرئيس بالتمسك بالاستفتاء المنصوص عليه في إعلان جربة، وتقرر أن يصحب الوزير الأول وفد يضم الصادق المقدم رئس مجلس الأمة، ومحمد مزالي ومنصور معلّي والفرجاني بالحاج عمار والحبيب عاشور لئلا يبقى الرئيس وحده على انفراد مع القذافي .
وفي الساعة الخامسة مساء وصل القذافي إلى مقر إقامة السفير التونسي محمد بن فضل، وفاتح الرئيس بدون مقدمات (قائلا) : أنت أمضيت وثيقة تلزمك .. ويحب عليك احترام تعهداتك، وحاول بورقيبة التملص من الموضوع متعللا بصعوبات دستورية تخص تنظيم استفتاء، وأراد الدكتور المقدم التدخل فبادره القذافي بملاحظة نابية قائلا كنت أظن أنك دكتور في الطب لا في العلوم السياسية ودخل عاشور في النقاش قائلا: هو اتفاق في القمة ولكنه يلزم الشعبين فلابد من استشارتهما، ثم بين كل واحد من الحاضرين وجهة نظره مركزا على هذه الصعوبة أو تلك، ورجع لبورقيبة وعيه ولكنه خيّر ترك كل واحد يعبر عن رأيه وحوالي السابعة والنصف مساء دعا بورقيبة الجميع لتناول العشاء فتم في جو عمت فيه الكآبة وقل أثناءه الحديث ولزم بورقيبة والقذافي الصمت، وحاولت (وسيلة ) بث شيء من المرح ولكن من دون جدوى فانتهى كل شيء بسرعة ولم يتجاوز الأمر نصف ساعة وهمهم القذافي منسحبا وحوالي العاشرة ليلا رن الهاتف وأعلمنا سفيرنا لدى المنظمات الدولية بأن القذافي يرجو مزيد التحادث مع (معلّي ) و (مزالي) وتحولنا بموافقة الوزير الأول إلى نزل انتيركونتينتال حيث كان يقيم الزعيم الليبي واستقبلنا على انفراد وكانت مقابلة ودية واتجه باديء ذي بدء نحوي متسائلا عن أسباب تحويلي من وزارة التربية القومية إلى وزارة الصحة وكان ينتظر مني أن أجيبه بأني ضحية سعيي لتعريب التعليم ولكنني تعللت بثقل أعباء الوزارة وأحسب أني خيبت ظنه بجوابي وانبرى القذافي يدافع بحماس عن اتفاق (جربة) وتناقشنا معه على مهل معددين العراقيل التي تعترض هذا التمشي المتسرع والمرتجل وذكرناه بانفراد تونس بإصدار مجلة (ملزمة قانونية) الأحوال الشخصية التي تعتبر تعدد الزوجات جنحة يعاقب عليها القانون وبعض فصولها الأخرى وبالطبع لم نصل إلى أي اتفاق وانتهى الاجتماع بعد منتصف الليل.
ولما كان الغد عاد الوفد إلى تونس ولكني بقيت في سويسرا ثلاثة أيام أخرى بدعوى من بورقيبة الذي كان يزمع التحول إلى منتجع (قثتاد) للاستجمام بها مدة أسبوعين ورافقته مع عللالة العويتي كاتبه الخاص والدكتور الكعبي طبيب القلب وهو رجل لين العريكة ولم يفتني أن أقتني جزمات وطاقية لمجابهة المناخ الشتوي الذي يختص به هذه الموقع الرائع الجمال، كنا نمشي طويلا صباحا وعشية ونلعب الورق لعبة الشكوبّة ولعبة الراويند، وكان بورقيبة يحذق اللعب ويحسن الإشارة الخفية إلى شريكه في اللعبة (عللالة العويتي) ويأنف الخسارة ويتضايق لأن كنت ألعب من دون أجامله وكان سعيدا عندما يكتب له الفوز ..
مشروع الوحدة يسمم الأجواء
أما مشروع الوحدة الليبية التونسية الفاشل فقد بقى طويلا مسمما لأجواء العلاقات بين البلدين ونتيجة لذلك شنت على الهادي نويرة حملة شعواء من التنديد والتحقير والتشهير تلتها محاولة اغتيال لشخصه من طرف مجموعة مسلحة وقع القبض عليها وحوكمت في أبريل 1979 ووصل عداء ليبيا إلى أوجه بمؤامرة قفصة التي تمت بالليلة الفاصلة بين 26 إلى 27 يناير 1980 وتلا ذلك نهب وحرق سفارة تونس في طرابلس بحيث أنه لما عينت أبريل 1980 وزيرا أول، كانت العلاقات مع ليبيا متدهورة جدا وتكاد تكون مقطوعة ولما يمر أقل من أسبوع على تعييني حتى قدت الوفد التونسي إلى القمة الأفريقية بلاغوس في نيجيريا التي فتحت أشغالها بيوم 27 أبريل 1980، وكان جدول أعمالها اقتصاديا أساسا وكنت مرفوقا بمحمود المستيري كاتب الدولة لشؤون الخارجية وكان رحمه الله مناضلا ودبلوماسيا ممتازا.
وحدث في افتتاح هذه المقمة حادث جدير بالذكر، ذلك أنه لما أراد حسني مبارك، وكان نائبا لرئيس الجمهورية أخذ الكلمة، غادرت الوفود العربية القاعة ولاحظ لي المستيري الأمر فقرر أن لا أقاطع خطاب الزعيم المصري واعتبرت موقف الوفود العربية بهذه المناسبة عبثيا ثم إنه لم يقع التشاور في الموضوع، وكنت قبل ذلك قد انتقدت موقف الرؤساء العرب أو من مثلمهم عندما انسحبوا من قاعة الاجتماع لما بدأ أنور السادات يلقي خطابه في قمة مونروفيا بليبيريا عام 1979، فأحرج هذا السلوك الرؤسا الأفارقة الآخرين وبهذه المناسبة استقبلت علي عبد السلام التريكي وزير خارجية ليبيا بطلب منه، واتفقنا على تحسين العلاقات بين البلدين على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون المحلية للبلدين وتمنيت في خطاب منهجي أمام مجلس النواب في نفس السنة أن ترجع العلاقات الودية بين الجيران وأن يتمتن التعاون لفائدة الجميع ولكن العقبة التي كانت تمثلها رسالة القذافي التبشيرية لم يقع تخطيها وشتان بين ليت ولعل ...
مناورات "وسيلة بورقيبة وحمادي الصيد" الخفيّة!
وما إن كلفت بتنسيق العمل الحكومي يوم السبت أول مارس 1980، حتى جاءني يوم الاثنين 3 مارس، حمادي الصيد مستشار الشاذلي القليبي الذي أصبح أنذاك أمينا عاما لجامعة الدول العربية وقد نقل بعد مقرها إلى تونس واقترح علي أن أكلفه بمهمة شبه رسمية لدى القذافي لمحاول رتق الفتق بين القطرين وأعلمني أن السيدة وسيلة بورقيبة موافقة على هذا التمشى فرفضت العرض مدللا على أن اتصالات حسن الاستعداد لم تتوفر وأنه من الأحسن أن تواصل بالطرق الدبلوماسية ولم يخف الصيد خيبة أمله وأعاد الكرة رغم ذلك يوم 8 مارس دون نتيجة وبينما كنت بصدد تطبيع العلاقات مع ليبيا بدون ضجة.
عمر المحيشي وإدخاله المستشفى العسكري عنوة قبل تسفيره للمغرب! بعدما رصد القذافي الملايين لاغتياله! ونهايته بعد مشروع وحدة مع الملك حسن!
وفجأة إذا بقضية عمر المحيشي تأخذ أبعاد جديدة عندما أهدر دمه والمحيشي هو أحد الضباط الذين قاموا بانقلاب أول سبتمبر 69، وكان وصل تونس قبل تعييني وأعلمتني المصالح المختصة يسعى إلى اغتيال رفيقه القديم مقابل بضعة ملايين من الدولارات يعد بها الرجال وحتى النساء ولا فائدة بذكر تفاصيل لا يليق ذكرها ... وكان المحيشي يقيم بفندق خليج القردة بقمرّت وذات يوم ذهب إلى نزل السندباد مع حرسه الخاص لتناول الغداء فصادف أن رأى (فيفا) وزوجته يتغديان فانهال على الوزير يشتمه وينعته بعميل الامبيريالية والصهيونية فاضطرننا لإدخاله المستشفى العسكري في تونس وتلافيا لتعكير الجو مع القذافي عندما يكتشف أن معارضه يقيم في تونس، كلفت أحمد بالنور كاتب الدولة للأمن الوطني بالذهاب إلى المغرب طالبا من السلطات المسؤولة الموافقة على نقل المحيشي إلى هذه البلد الشقيق وكللت هذه المهمة بالنجاح ونقل المحيشي إلى المغرب على متن طائرة خاصة تولى المغاربة تأجيرها ورافقه فريق صحي، ومن حظه السيء تم بعد أربع سنوات، أي في 13 أغسطس 1984، إمضاء اتفاق وحدة بين المغرب وليبيا لم تعمر طويلا كالعادة، وحمل المحيشي على متن طائرة خاصة كان في ظنه أنها تقله إلى مكة للقيم بمناسك العمر. ولكن الطائرة حطت بسبها بليبيا. ولما رأى المحيشي كوكبة من الشرطة متهيئة لإلقاء القبض عليه أصيب بفالج (شلل نصفي) ومن ذلك الوقت لا أعرف عن أخباره شيئا.
شرط مقابلة القذافي لبورقيبة مقابل ترجيع وثيقة الوحدة أو الطرد!
وفي يناير 1982، اغتنم القذافي فرصة وجود بورقيبة بالولايات المتحدة ليصل فجأة إلى صفاقص عن طريق البر. وكلفت وسيلة لاستقباله (عبد الرحمن التليلي) الرئيس المدير العام لديوان الزيت، ومهذب الرويسي والي تونس، وادريس ذيبة الذي دعاني إلى الالتحاق بهم بينما كنت في زيارة عمل وتفقد بولاية قابس، فرفضت الاقتراح، واضطر القذافي إلى الالتحاق بي. فاستقبلته بكل لياقة وأكدت له أن احترام سيادة بلدينا هو الشرط الأساسي لتحقيق تعاون فائدته على الجميع ، وأعلمته مؤكدا بأن بورقيبة ليس مستعدا لاستقباله طالما لم يرجع وثيقة الوحدة الحاملة لإمضائه. فأخبرني بأن طائرة ستأتي بها حالا .. ثم وعدني بأنه سيسلمها للرئيس فيما بعد. وفي فبراير 1982، رجع إلى تونس وقال لي إنه نسي بطرابلس، فزدته تأكيدا أن بورقيبة لن يستقبله إلا بعد تمكينه منها، ووعدني جازما أن طائرة ستأتي بها حالا.
وبناء على هذا الوعد تم استقبل بورقيبة للقذافي في قاعة قصر قرطاج البيضاء وكان اللقاء متوترا. وكنت الشاهد الوحيد لأن الوفدين التونسي والليبي بقيا في قاعة القصر الرئاسي الكبيرة. وما كاد الرئيسان يجلسان حتى صاح بورقيبة قائلا :
" أرجعلي وثيقة جربة" أجابه القذافي:
"ليست عندي الآن وهي ليست إلا مجرد ورقة" .. أردف بورقيبة غاضبا:
" أنا رجل جد ولا أحب التلاعب، أعطني الورقة وإلا عد من حيث جئت"
وحاول القذافي تبرير الموقف ولكن الغضب أخذ من بورقيبة مأخذا كبيرا وقرر يده من خد ضيفه وكاد يصفعه. وببرودة دم مسك القذافي يد بورقيبة ووضعها على ركبته من جديد ثم التفت إلي قائلا:
" الأخ محمد .. هل لك أن تنادي الخويلدي الحميدي أن يأتي بمحفظة الوثائق"
وكان الحميدي بالقاعة الكبرى في حديث مع وسيلة وقيقة والباجي قايد السبسي. فجاء مسرعا إلى القاعة البيضاء وسلم محفظة الوثائق إلى القذافي الذي فتحها وأخرج منها الوثيقة الشهيرة وناولها لبقورقيبة الذي تأكد من وجود إمضاءه فيها ولكن من دون أن يبحث عما إذا كانت هي الأصلية أم نسخة منها.
وظهر بورقيبة وكأنه رجع له هدوء أعصابه . واعتقد أن (ضعفه) في جربة .. لن يكون بعد اليوم إلا مجرد ذكرى مرة .. وناولني (الورقة) كما كان يسميها وتمت نهاية المقابلة في جو أكثر هدوء وطلبت مني وسيلة الوثيقة لوضعها كما قالت في خزينة الرئاسة .. وسلمتها إليها ولا أعرف أبدا ما فعل الله بها ..
توريط الفنان الزواوي بقنابل المرحاض!
وبالرغم من جهودي من جعل العلاقات بين بلدينا عادية .. والتطيمنات التي ما فتئت السلطات الليبية تعطيها فإني مخابرات عقيدنا الذي لا ينفك سابحا في حلمه الوحدوي لم تكف أبدا عن حبك المؤامرات لخلخلة أركان النظام والإساءة إلى لدولة التونسية.
ففي أغسطس 1982، طلب القذافي لمقابلة بورقيبة من أجل اقتراح عقد قمة بتونس وهي آنذاك مقر جامعة الدول العربية، وغرضه التنديد بغزو جيش إسرائيل للبنان في يونيو من تلك السنة بقيادة شارون وزير الحرب في ذاك الوقت، ولم يوافق الرئيس وفي مقابل ذلك وعد بتنظيم اجتماع لوزراء الخارجية العرب في الهيلتون. وقبل انعقاد هذا الاجتماع بساعة وجدت مصالح الأمن في إحدى بيوت الراحة (كنيف) بهذا النزل حقيبة مليئة بالمتفجرات. وكان وضعها هناك عميل ليبي مهنته رسم الكاريكارتير، صرح بأنه فعل ذلك بإيعاز من (دبلوماسي) يعمل بسفارة الجماهيرية وصدر عليه الحكم بالسجن وبعد سنتين أطلق سبيله وطرد لتنقية الأجواء بيننا وبين ليبيا ولإتاحة الفرصة للجنة الليبية لتونسية لمختلطة أن تجتمع في ظروف حسنة ولأن الذافي اغتاظ من كفاءة ونجاح مصالح الأمن التونسية فإنه اتهم في السنة نفسها أمد بن نور كاتب الدولة للأمن الوطني بأنه (عميل) أمريكا وأخذ وسيلة وقيقة وبالي ومسؤولين تونسيين كانوا يستمعون إلى مهاتراته (تركهم بالنور يقترب من بورقيبة) ونبهت (وسيلة) بعد ذلك (بالنور) بخطورة الأمر إذ اعتبرت تهديدا لحياته. وفي الواقع أن عيب بالنور الوحيد في نظر الزعيم الليبي هو أنه وطني حريص على أمن بلاده.
ثم زار القذافي المنستير يومي 10 و 11 يوليو من نفس السنة، وكعادته أراد مخاطبة المناضلين الدستوريين والمثقفين والجامعيين. وأشرفت على اجتماع كبير في قصر المؤتمرات بهذه المدينة وأسندت إليه الكلمة.
محاضرات ومهاترات القائد مستمرة!
وكان في ظنه أن سيتمكن من جلب مريدين جدد لصفه، يؤمنون بكتابه الأخضر، وبلغ التودد لشخصي أن نصح الحبيب عاشور بمساعدة مزالي ! باعتباري (رجل الأًصالة والتعريب وصديق الكادحين).
وهاتفني إيف موروزي، الصحفي في الشؤون السياسية بالقناة الفرنسية الأولى طالبا مني إقناع القذافي بإجراء استجواب مباشرة في نشرة الساعة الواحدة ظهرا وكان القذافي في الأول مترددا ثم اقتنع بحججي وأمكن له مخاطبة المشاهدين الفرنسيين من نزل صفاقص بالاس حيث كان مقيما من دون أن ينصب خيمته الأسطورية التي يعوى إقامتها في كل مكان يحل به تأكيدا لأصوله الصحراوية.
مغامرات عملاء القذافي ومشاريع التخريب!
وفي السنة نفسها بالقصرين، ألقي القبض على مجموعة من التونسيين انتدبتهم المصالح الليبية قبيل الزيارة التي كان يزمع بورقيبة القيام بها في قفصه، إذ أن عميلا من عملاء ليبيا المعروفين اسمه (ارحيله) أعاد الكرة. واتصل بعدد من التونسيين، اصيليي الجنوب وحاول جلبهم إلى صفه، واختار أحدهم (طاهر د.) وهو دستوري و من قدماء مناضلي اتحاد الطلبة التونسيين، أن يتعاون مع مصالح أمن بلاده موهما من (انتدبه) أنه أصبح من عملائه، فكنا إذا على علم بالاتصالات التي كانت تتم في بن قردان أو قرى أخرى حدودية أو بنزل ميرياديان بباب مايو بباريس بينهم وبين (ارحيله) الذي توصل إلى إغراء ضابط صغير تونسي أو على الأقل ظن ذلك، ولكن هذا الضابط كان يلعب على حبلين بتعليمات من مخابرتنا العسكرية وكان يعلن رؤسائه بما كان يرسمه الليبيون من خطط وما يسلمونه له من أموال وسلاح. وفي كل مرة يخبرني وزير الدفاع صلاح الدين بالي بمناورات المخابرات الليبية التي كانت على نقيض تام من الخطب الرسمية التي كان يصرح بها قادتهم السياسيون. وكان ذلك صورة من الخطاب الليبي المزدوج في أجلى معانيه!.
الوحدة المغربية الليبية! ورفض بورقيبة لقاء القذافي!
وفي يناير 1984، اجتاز أربعة أشخاص مسلحين الحدود التونسية الليبية وفجروا خط أنابيب وأنكرت السلطات الليبية على لسان سفيرها جمعة الفزاني كل تورط في الحادثة واتهمت أحمد بالنور بهذا التخريب والغرض (حسبهم) منع كل تقارب تقوم به السلطات الليبية من محمد مزالي وأثناء الأسبوع الممتد بين 16 و 23 مارس، 1984، ألقي القبض على ليبيين بصدد نقل أسلحة حربية وذلك عند إجراء مراقبة روتينية قرب قرنبالية، وفي السنة نفسها تم بوجدة إبرام معاهدة 13 أغسطس 1984، بعث بموجبها الاتحاد المغربي الليبي. وكان الحسن الثاني يأمل من ذلك، وضع حد للإعانة المالية والعسكرية واللوجستيكية التي كان يقدمها العقيد القذافي بسخاء للبوليساريو الذي لا يعترف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. وهتف لي الحسن الثاني في اليوم نفسه على الساعة الثانية ظهرا ليخبرني بإمضاء هذه المعاهدة وإعلام الرئيس بورقيبة قبل أن تبث وسائل الإعلام النبأ. وطلب مني أيضا المساعدة حتى يستقبل بورقيبة القذافي وهو في طريق العودة إلى ليبيا. ولكن بورقيبة رفض استقباله رفضا باتا.
وتلافيا لحدوث مشكل دبلوماسي آخر حولنا طائرة العقيد إلى مطار تونس واستقبلته أنا والباجي قايد السبسي وزير الخارجية وقدمت له اعتذار بورقيبة لأنه (متعب) ولكن القذافي واصل طريقه برا في اتجاه المنستير وبذلت جهدا كبيرا مستنجدا بكنوز من الدبلوماسية حتى أتلافى القطيعة.
طرد التوانسة من ليبيا والدعم من الجزائر من المغرب والخليج!
وفي أغسطس 1985 ، أذن القذافي بطرد آلاف العملة التونسيين سالبا إياهم أملاكهم ومجمدا أرصدتهم بالبنوك. وعلمت بهذا الخبر السيء بينما كنت أقود الوفد التونسي في القمة العربية الاستثنائية المنعقدة من 7 إلى 9 أغسطس بالدار البيضاء. ولم يخفي علي الحسن الثاني أن عملية الطرد هذه يجب أخذها مأخذ الجد، وقررتضامنا ألا يسمح بتعويض التونسيين المطرودين بالمغاربة وأوفد مستشاره الخاص رضا غديرة ووزير خارجتيه عبد اللطيف الفيلالي لدى الحكومتين التونسية والليبية لمحاولة الوساطة، وكذلك بعث الكويت بوزير خارجيته الشيخ الصباح رئيس الدولة الحالي ولكن بورقيبة بقي على موقفه المتصلب خاصة وأن عدد المطوردين بلغ رقم 32 ألف، وفي المناطق الحدودية كانت صور هذا الترحيل المؤسف قض المضاجح، وحتى أرصدة تونس الجوية جمدت بلا مسوغ قانوني .
وكنت في حديث مع الصدديقين المبجلين المغربي والكويتي ملتزما بموقف رئيسي، وأخشى أنهما فهما أنه تصب شخصي مني.
الرسائل المفخخة! وشراسة الإعلام التونسي في الرد!
وردت الصحف التونسية على هذا الصنيع بقوة مما أغاض السلطة الليبية التي قررت .. تخويفهم بتوجيه العشرات من الرسال المفخخة إلى مراكز تحرير هذه الصحف مع الملاحظة أن هذه الرسالة أتت إلى تونس عن طريق الحقيبة الدبلوماسية الليبية. وانفجرت رسالتان يوم الأربعاء 25 سبتمبر في مركز البريد بالمنزه، كنا افنجرت رسائل أخرى يوم الخميس 26 سبتمبر 1985 بمركز بريد وسط تونس العاصمة. وجرح من جراء ذلك أعوان بريديون (راجع صحيفة لوموند بتاريخ 29 سبتمر).
وانعقدت بتونس من 26 إلى 28 نوفمبر 1985 الدورة الخامسة لمؤتمر وزراء الثقافة العرب . وفيه وزع عضو في الوفد الليبي يدعى عمر مدنيني لائحة تحتوي على تهديدات مقنعة ضد تونس، وخصوصا ضد وسائل الإعلام وجاء فيها بلجهة عنترية: "إذا لم تكف تونس عن هذه الممارسات (؟؟) سيعرف النظام الليبي كيف يضع حدا لها بوسائله الخاصة" !! وأثناء الفترة نفسها أزاحت التلفزة المصرية النقاب عن مجموعة ليبية مسلحة مرسلة إلى مصر لإغتيال عبد البكوش الوزير الأول الليبي الأسبق، وهكذا كان القذافي هائجا مائجا في جميع الاتجاهات !
بلاهة (أو بلاغة) الإعلام الليبي!
أما فيما يتعلق بتونس فلقد السيل الزبى. ففي 26 سبتمر 1985 قرر الرئيس بورقيبة قطع العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا، ووضح بلاغ وزارة الخارجية الموقف كالآتي:
" إن هذه القطيعة هي نتيجة سياسة العدوان والتهجمات المستمرة التي تمارسها ليبيا تجاه تونس وغرضها المس بمؤسساتها وإن خرق النظام الليبي بصورة واضحة ومتكررة بكل المباديء والأعراف التي تنظم العلاقات بين الدول قد بلغ الحد الأقصى من الفظاعة، وأكد البلاغ نفسه بان الحكومة: أمكن لها أن تجمع بصورة لا يمكن دحظها الأدلة التي تثبت تحويل الإرساليات الدبلوماسية ومؤسسات رسمية أخرى في البلاد التونسية إلى مكامن للإرهاب والجوسسة والعدوان وإلى مراكز مرصودة لتنظيم وتنفيذ مكائد النظام الليبي ضد أمن تونس"
وبالرغم من هذا فإن التدابير التي اتخذت لرد الفعل ضد بلد أظهر مثل هذا لعداء والتهجم اتسمت بطابع الاعتدال والرغبة في احتساب المستقبل فلم نطرف إلا أربعة ليبيين في تبليغ الرسائل الملغمة، ومن بين العشرين الف ليبي الميقيمين في تونس لم نرحل إلا 283 فقط ووقع تعليق الموصالات الجوية بين البلدين.
الحبيب عاشور نغمة نشاز وطني!
ولقيت هذه الإجراءات التأييد من مجموع القوى السياسية التونسية بما في ذلك المعارضة ، إلا الحبيب عاشور فقد ظهر وكأنه متحفظ .. بل إنه لم يتردد في شن عدة إضرابات وحشية في قطاعات حيوية وكأنه أراد أن يظهر للقذافي أنه لم يكن في خط واحد مع هذه التعبأة الوطنية، واستنكرت الحكومة الأمريكية تحليق الطيران الليبي فوق التراب التونسي، وكذلك تهديدات طرابلس وهذا في نظرها يعد "خرقا للنوامين المنظمة للعلاقات الدولية" كنا أنها عبرت عن مساندتها للحكومة التونسية وعن صداقتها لها. وهذا ما قالته السيدة سهير بالحسن عندما كتبت عن المكائد الليبية ضد تونس في مجلة جون أفريك (عدد 1289 بتاريخ 18/9/85).
"يسلك مزالي دائما الطريق الموصلة، في الصراع الذي وجد فيه الوزير الأول التونسي نفسه وجها لوجه مع الاتحاد العام التونسي بالشغل أبدى خصالا لا تظهر بالضرورة غير منتظرة."
.... فهل برز محمد مزالي في الأزمة التونسية الليبية مناورا أريبا ؟ لقد ظهر الوزير الأول التونسي لا تلين له قناة أمام الاستفزازات امام قائد الثورة الليبية الذي طرد ثلاثين ألف تونسي من بلاده وهو عازم على هزيمة القذافي في ميدانه المفضل، ألا وهو الحركية والعمل بقاعدة واحدة بواحدة والباديء أظلم .. فعلى الصعيد الخارجي جند لفائدته البلدان الشقيقة والصديقة واغتنم فرصة وجوده بالمشرق العربي من 10 إلى 11 سبتمبر في إطار وفد المصالحة بين سوريا والعراق والأردن، المنبثق عن قمة الدار البيضاء ليقوم بمحادثات حول الوضع بالمغرب العربي"
وأما استعداد الكويت والإمارات المتحدة لقبول العديد من العمال التونسيين قمت بعرض حول الوضع من على منبر مجلس النواب واتبين انه من بين العشرين ألف القادرين على العمل من بين المطرودين يوجد 15 ألف عاطل عن العمل يمكن إضافتهم إلى الثلاثمائة ألف من البطالين الذين وقع إحصائهم قبل ذلك.
ويمثل التونسيون المقيمون بليبيا ضعف المطرودين منها. وبينما كانت ليبيا تتردد في طرد المتعاونين التونسيين أو الذين يعملون في القطاع العام، قررت تونس الكف عن إرسال المعلمين ومتعاونين آخرين ونتج عن ذلك أن أغلقنا المدارس الليبية في توسن ومدرسنا في ليبيا.
واضطررت إذا إلى أن أقطع أية علاقة مع ليبيا، وبينما ترددت طويلا في الكشف عن أعمال التخريب التي يزمع النظام الليبي القيام بها في بلادنا (نظرا لتأثيرها في الرأي العام الدولي في بلد سياحي مثل بلدنا) قررنا في 6 سبتمبر إزاحة النقاط عن عمل تخريبي بالمتفجرات وقع في نزل في جربه، ومحطة بنزين في جرحيس في شرقي الجنوب التونسي، وسجلت اعترافات المجموعة (كانوا ثلاثة) على شريط فيديو وقع بثه واستغلته وسائل الإعلام.
وكان صبري محمود ناجح رقيب أول الشرطة الليبية، انتدبه مقابل مبلغ قدره ألفين دولار المسؤول عن مكتب العلاقات بين اللجان الثورية (المكلف باغتيال الكلاب الضالة) أي الليبيون في المنفى. عند رجوعه من عطلته التي قضاها بين أصهاره التونسيين أصيليي جرجيس، وكان باتصال مع المسؤول سابقا عن المركز الثقافي الليبي في تونس، وكان طرد من البلاد التونسية مع 33 ليبيا إبان الأزمة وتدل المحاوبة ، وهو عمل هواة، غياب كل رقابة في صلب اللجان الثورية وهنا يكمن خطرها، وفي سبها وصف القذافي البلاد التونسية بأنها "بلاد منظمة ومسوسة" بينما ليبيا هي بلاد البداوة وفاجأ رد الفعل التونسي العقيد القذافي الذي عول على الأزمة الاجتماعية التونسية عندما (قام بعملية الطرد) في الوقت الذي كانت الإضرابات في أوجها في العاصمة ولكن الوزير الأول التونسي عرف كيف يستغلها في الوقت الحاضر على الأقل، وباستغلال محمد مزالي أخطاء الاتحاد العام التونسي للشغل، وأزماته الداخلية قصب أجنحة المركزية العمالية مع معرفته للحد الذي يجب عليه أن لا يتخطاه.
وبالرغم من هجوم الطائرات الإسرائيلية على حمام الشط أول اكتوبر 1989، فإن وسائل الإعلام الليبية واصلت هجومها واتهمتنا بالتواطء مع الامبيريالية الصهيونية ... ! ومضى القوم إلى حد ترويج إشاعة تقول بأن "عددا لا يستهان به من العمال التونسيين والمصريين المطرودين من اليبيا مصابين بالطاعون " ... وإذا أنت لا تستحي فأفعل (أو قل) شئت ...
ومن 18 إلى 21 يونيو 1985 قام بورقيبة بزيارة إلى واشنطن حيث استقبله بصورة ودية الرئيس ريجان واستغل وجوده على ارض أمريكا فحوصا طبية بالمستشفى العسكري والتر ريد، وكانت هذه الزيارة سببا في مضاعفة هيجان القذافي الذي ألقى على الأقل ثلاث خطب هاجم فيها تونس ورئيسها هجوما عنيفا. وفي 28 أغسطس 85، هدد القذافي صراحة أمام الضباط التلامذة المنخرطين في الأكيديميات العسكرية الليبية، أنه سيلجأ إلى القوة لتحقيق الوحدة العربية.
وفي الواقع كنت الهدف الأمثل للقذافي إذ جريمتي تكمن في أنني منعت تطبيق اتفاق جربه (مثل الهادي نويرة) وكتبت وكالة الأبناء الليبية في هذا الصدد، وفي حسبانها أنها تجيد السخرية قائلة: "إنجازات حكومة مزالي. طرابلس 26 ذو الحجة، 11 سبتمبر .. وكالة أنباء الجماهيرية، منح الوزير الأول التونسي في هذين اليومين لعاملين تونسيين أتيا من ليبيا رخصة مقهى بولاية بنزرت ..... واعتبر منزالي مع وسائل إعلامه أن هذا يعد انجازا عظيما يندرج في مخيم الحكومة قصد ادماج هؤلاء العمال في الدورة الاقتصادية ... ويمكن لنا أن نتسائل هانا كيف أمكن لمزالي أن ينجز هذا الشيء العظيم .. إيجاد موطن شغل لعاملين تونسيين اثنين بينما هناك الآن ثلاثين ألف عامل عادوا إلى حد الساعة إلى تونس وهذا يدل على عجز النظام التونسي عن إيجاد الغشل لآلاف التونسيين العائدين من ليبيا التي تعتبر أنه من غير المعقول تحمليها مسؤولية هذا الوضع وأمام هذا العجز وبما أن االنظام التونسي غير قادر على إيواء مواطنيه وضمان الشغل لهم فلن يبغى له إلا أن يرحل ... ولإخفاء عجزه أمام مواطنيه حمل النظام التونسي ليبيا الصعوبات التي يجابهها. ولم يكن ليكتب لهذه الصعوبات أن تقع وما كان للشعب التونسي أن يشكو من هذه البطالة لو أن هذا النظام استجاب لنداء الوحدة مع الجماهيرية الذي وجهته هذه الأخيرة للنظام المعين الأمر وهو الذي أخل باتفاق جربة بالرغم عن إيمان الجماهير التونسية لهذه الوحدة كحل وحيد جذري لكل الصعوبات ... إن الشعب العربي الليبي الذي بذل كل ما في وسعه لحل صعوبات الشعب التونسي يعلن أنه سيبقى دائما مستعدا بمقاسمة الخبز مع أشقائه التونسيين إذ هم هبوا نحو الوحدة العربية " ...
وهكذا كاد المريب أن يقول خذوني
وفي الواقع توخى القذافي استراتيجيا معقدة ومستحكمة محاولة منه لربط علاقات تتسم بالهيمنة مع البلدان العربية الأخرى .. فحاول في أول المبادرة بتكوين حزب قوي وشعبي وبروز زعماء حقيقيين فكان يشجع الأعمال التمردية التي يقوم بها بعض السياسيين ويتعهدهم برعايته في طموحاتهم، وهم عادة لا عهد لهم و لاميثاق فيكونون مدينين له بكل شيء، وعن طريق الإيديلوجيا أو المال يضمن وجود من يخبرونه بما يقع ببلدانهم وبذلك يجعل منهم طابورا خامسا يتسلل في صلب فرق الحكم حتى يتزعزع أركان البلدان التي يروموا جعلها تابعة له .
وفي الواقع أن هذه البيانات الطويلة والعريضة الداعية إلى الوحدة إنما تخفي رغبة لا يخبو أوارها في امتلاك القوة.
عبد السلام التريكي يفشي الأسرار!
وبين يدي من مراسلة لوكالة الأنباء الليبية نقلت خطابا للقذافي يقول فيه " أن وسيلة بورقيبة وعددا من الوزراء التونسيين طلبوا منه ألا يضع حدا لطرد العمال التونسيين واقترحوا عليه أن يقيم محطة إرسال موجهة نحو البلاد التونسية حتى تكون الحملة الإعلامية ضد النظام التونسي أكثر وقعا. ولابد في هذا الصدد أن أكشف عن سر باح لي به (علي عبد السلام التريكي) وهو من كبار المسؤولين في النظام الليبي واضطلع بوظائف عالية منها وزارة الخارجية .. ذلك أنه عندما كنت سنة 1987 في المنفى بسويسرا تلاقيت مع دبلوماسي عربي أخبرني أن علي التريكي أعلمه أن وسيلة بورقيبة أرسلت إلى القذافي ليحثه على أن يفعل كل ما ي وسعه (ليبوء مزالي بالفشل) وبالبطبع استغربت هذا الأمر الذي ليس له دليل فلم أوليه اهتماما كبيرا ولكن بعد سنوات قليلة صادف أن قابلت (علي التريكي) في حفل استقبال نظمته إحدى السفارات العربية إذ أصبح في الأًثناء سفيرا لبلاده في فرنسا فدعاني لشرب قهوة في سفارته فقبلت الدعوة متذكرا ما قيل لي على ضفاف بحيرة ليمان (سويسرا) ورغبة مني في استجلاء الخبر من مصدر عليم وموثوق به.
طلبت منه توضيحات في الموضوع فأكد لي ما روي لي سابقا وأضاف أن الأمر يتعلق بموفدين أرسلتهم وسيلة تفصل بين مجيء كل واحد منهما أيام قليلة .. ووافق على الكشف على هوية أحدهما بما أنه متوفى وهو (حمادي الصيد) الذي كان طلب مني منذ مارس 30 أني يقوم بمهمة مصالحة مع العقيد ... أما الثاني الذي ما يزال على الحياة فقد رفض إطلاعي على اسمه وإلى اليوم ورغم علمي ببعض عيوب وسيلة لا أزال أستصعب تصور أن تعد زوجة رئيس دول مثل بورقيبة إلى التآمر مع رئيس دولة أجنبية مع وزير أول في حكومة زوجها. لقد وقع ما يشبه ذلك في تاريخ البلاد في عهد الرومان وأواخر الدولة الحفصية وأوائل الدولة الحسينية ولكن كان نادرا جدا فهل ممكن نعته بالخيانة العظمى؟ ... الكلمة الفصل للتاريخ !!
تضامن الجزائر! وتحذير القذافي!
وأمام تصاعد الاخطار واضطراد تهديدات النظام الليبي في خريف سنة 85 خاصة، أبدت الجزائر نبلا وتضامنا نزلا بردا وسلاما على قلوبنا. وكانت تربط بيننا منذ سنة 1983 معاهدة إخاء. ففي 2 سبتمر 85، قام الرئيس بن جديد بزيارة مفاجئة للمنستير دامت بضعة ساعات لمقابلة بورقيبة وصرح بهذه المناسبة أن الجزائر ستكون دائما إلى جانب تونس مهما كانت الظروف وهو إنذار موجه للرئيس الليبي صادف أن أنهى الرئيس الجزائري جولة في البلدان العربية بعيد تعيني وزيرا أول ورأى التوقف في طريق العودة في طريق 2 أبريل وكنت في استقباله بالمطار ورأيته لأول مرة فأخذني في ركن من أركان القاعة الشرفية وقال لي: أعيك كلمة شرف، شرف ضابط جيش التحرير وشرف رئيس الدولة أنه ما دمت مسؤولا فلن يأتيكم مكروها من الجزائر ولا عن طريقها ... واقتنعت بصدقه وحسن نيته وتعاونت معه في جو من الثقة والود إلى أن أقصيت من منصبي وغادرت بلادي فارا بجلدي عبر الجزائر فأكرم وفادتي أكرم الله خيرا وفي اليوم نفسه أي 2 سبتمر التقى الرئيس بن جديد مع الجنرال يوسف بركات رئيس أركان الجيش التونسي العقيد بالوصيف المسؤول الكبير بديوان الرئيس الشاذلي في الجزائر العاصمة، على ضوء التهديدات الليبية واقترح علينا الرئيس بن جديد أن نقدم إليها بالمنتجات التي يمكن للجزائر توريدها قبل غيرها حتى يقع التخفيف على المصدرين التونسيين الذين أضر بهم الخطر الليبي وبالفعل وردت الجزائر عشرين ألف طن من زيت الزيتون مقابل خمسة ألاف طن سنة 87 وأسندت لمقاولين تونسيين في البناء بالشرق الجزائري خاصة وازداد عدد السياح الجزايئيين بنسبة 132% أثناء الستة أشهر الأولى بسنة 85، مقابل ما كان عليه الأمر في نفس الفترة سنة 84.
وتبعا لوساطات مغربية وجزائرية جرت مقابلة بين سفيرنا بباريس وسفير الجماهيرية الليبية في مكتب جامعة الدول العربية بالعاصمة الفرنسية، وحددنا طلباتنا كالآتي:
"أن يدفع للعمال التونسيين ما أغتصب منهم وأن يفرج عن أرصدتهم المجمدة بالبنوك الليبية" و
أن يدفع للصناعيين والتجار التونسيين مقابل ما أرسلوه من بضائع إلى ليبيا بطقا للاعتمادات المفتوحة الاتفاقيات المبرمة، تحويل مستحقات الخطوط الجوية التونسية (10 مليون دينار يوم كان الدينار التونسي يساوي دولارين) .. والالتزام علنا بوقف أي محاولة بزعزعة النظام التونسي.
إن كل إمارات المساندة الأجنبية على الاختلاف مصادرها وكذلك موقفنا الحازم ولكن المعقول وكسبنا للرأي العالم جركل ذلك السلطات الليبية، حبت أم كرهت، إلى الجنوح نحو التفاهم وهكذا بدأ يلوح آخر النفق ..
وكتب البشير بن يحمد، (بعد العاصفة) .. في جون أفريك عدد 1288 بتاريخ 85، لقد تبين أن رد الفعل التونسي الذي اعتبر هنا وهناك بما في ذلك جون أفريك مبالغا فيه، أو لا يخلوا من إفراط أتى أكله في الوضع الحالي بالنسبة للوزير الأول السيد محمد مزالي فلقد كان في مقدمة المعركة وأرادها لا هوادة فيها يساعده في ذلك السيد زين العابدين بن علي ، المسؤول عن الأمن الداخلي، مساعدة جيدة، واليوم خرج منتصرا من هذا الامتحان وعلاوة على ذلك مبرءا مما ظن فيه من ضعف إزاء القذافي الذي ربما قد ورطه عندما عبر له عن مساندته بصورة علنية فلقد خرجت تونس من المواجهة بصورة المظلومة وكذاك بمن لم يترك سبيلا للمقامومة فكانت نداءاته الموجهة لأصدقائه وحلفائه مستجابة بالجملة وكل واحد منهم رد الجواب على طريقته، فالولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا العظمى وبلدان أخرى أظهرت كلها يقظتها على حسب أساليب مختلفة ولكن لا يشوبها أي التباس معنى أنه لو وقع بالفعل الاعتداء على تونس كانوا ينجدونها.
الخاسر الكبير هو القذافي! والمجروح يظل خطرا!
وبالنسبة للبيشير بن يحمد، فإن "الخاسر" الكبير هو القذافي .. إن طرد التونسيين بهذه الصورة العنيفة والمثيرة، ماذا من صورة النصير الشقيق للشعوب الملظلومة .. هذه الصورة التي كم بذل من جهد لاستكمالها وحاول العيد إصلاح ما أفسد ... فصرح قائلا : .. أطلبوا من التونسيين إيقاف حملتهم الإعلامية وفي أول سبتمبر ... بمناسبة الذكرى 16 لاستيلائه على الحكم، لم يسعه إلى السكوت عن ذكر الحدث! إذا .. كان الحكومة التونسية على حق أو لها الفضل لتعرية الرجل والتنديد بعمله السيء .. إن العاصفة هدأت ولكن الجولة لم تنته .. . والقذافي المجروح سيبقى خطره ماثلا .. وربما يكون أكثر خطورة ومن طبع العقرب اللسع.
-------------
[i] هي مدرسة فكرية ناصرها الخليفة المأمون واضطهدت بعده مع الخليفة المتوكل.
[ii] ولكن لئن اقترف هؤلاء العقداء الثلاثة انقلاباتهم العسكرية قبل انتصار البعث فإنهم فسحوا له الطريق وفتحوا له الباب.
[iii] ومضى الأمر بالمصمودي إلى أنه صرح بأنه نسي أن هناك وزيرا أولا.
[iv] بالرغم من علاقات وسيلة الطيبة مع المصمودي والقذافي فلقد كانت ضد الوحدة مع ليبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.