يدخل اضراب الأساتذة أحمد نجيب الشابي ومية الجريبي بصفتهما قادة لواحد من أبرز أحزاب المعارضة الجادة في تونس أسبوعه الثاني على التوالي , وسط أجواء من الاستقطاب الاعلامي البارز لفائدة النشاط المعارض في تونس بعد أن عرفت الساحة السياسية على مدار الأشهر الأخيرة حالة من الركود أو النقاش الداخلي الذي كاد أن يعيد الفضاء العمومي الى ماقبل تاريخ أكتوبر من سنة 2005 حين كانت الجمهورية التونسية تستعد رسميا لاستقبال القمة العالمية لمجتمع المعلومات . استطاعت بعض وجوه المعارضة الوطنية حينها اختطاف أضواء القمة لفائدة حركة احتجاجية سلمية وقوية استقطبت أنظار العالم الحر وأنظار المتطلعين الى مايدور من خفايا سياسية في البيت المغاربي . وأطفئت الأنوار حينها خافتة في محيط قصر المعارض بالكرم ,مكان انعقاد القمة العالمية لتتحول ساطعة ومبهرة الى نهج المختار عطية حيث مقر مكتب المحامي العياشي الهمامي الذي تجند مع ثلة من الشخصيات الحقوقية والسياسية البارزة من أجل تسليط الأضواء على المناخ السياسي والحقوقي الاستثنائي والمتناقض تماما مع ماتحفل به تونس من قدرات بشرية متعلمة وذكية حظيت باهتمام أنظار دول الجوار العربي والغربيين . خبت الساحة السياسية في تونس بعد أقل من شهرين أو ثلاثة من انفراط أشغال أكبر قمة عالمية احتضنتها تونس منذ تاريخ الاستقلال, وتراوحت ردود فعل السلطة على مفاجأة المعارضين يومها مابين تصرفات قمعية ومناورات سياسية هدفت الى تفكيك النواة الصلبة للهيئة السياسية الوليدة والتي اشتهرت في تونس بحركة 18 عشر من أكتوبر . وبين أكتوبر من سنة 2005 وبين سبتمبر من سنة 2007 والذي وافق في كلا الشهرين شهر رمضان المعظم , عاشت تونس على أمل طي صفحة الاعتقال السياسي واطلاق سراح من تبقى من سجناء الرأي كما فتح الفضاء الاعلامي والسياسي أمام مريديه وفاعليه , وهو ماتلكأت السلطات في فعله ضمن حسابات داخلية رافضة لمنطق الاصلاح والانفتاح , لتفاجأ على حين غرة مع موفي السنة المنقضية وبداية السنة الجديدة بصدامات مسلحة سيطرت عليها بعد أسبوعها الثالث بالاستناد الى قدرات جيشها الوطني . انتهت أحداث الضاحية الجنوبية وأحداث سليمان الدامية لتترك وراءها أسئلة سياسية حارقة حول جدوى الخيارات السياسية الرسمية وجدوى استعمال القبضة الأمنية الحديدية في مواجهة تطلعات مجتمع مدني طامح الى مواكبة ماتشهده الساحة المغاربية من تطورات اصلاحية حثيثة ولافتة . حين عقد الحزب الديمقراطي التقدمي قبل أشهر مؤتمره الأخير وقف الأستاذ أحمد نجيب الشابي في كلمة حماسية وافتتاحية مخاطبا أربعمائة عضو شاركوا في أشغال المؤتمر بأنه لن يتوانى حتى بعد تسليم الأمانة العامة للأستاذة مية الجريبي في الدفاع عن قضايا المساجين السياسيين والمطالبة باطلاق سراحهم وفك القيود الأمنية والسياسية والاجتماعية عنهم كما المطالبة بسن عفو تشريعي عام ,بل انه ألهب الحضور بكلماته البليغة التي ألحت على مواصلة النضال السياسي داخل الحزب ومن موقع العضو الفاعل من أجل تحرير الاعلام وتحقيق اصلاحات سياسية ودستورية تضع تونس على سكة مايحصل من تطورات اصلاحية حثيثة في كل من المغرب وموريتانيا ... صفق الحضور في حماسة هزت القاعة واعتقد البعض بأن الشابي لم يخرج كغيره عن دائرة الزعماء الديماغوجيين في المنطقة العربية , غير أنه لم تمض بضعة أشهر على الحدث حتى عاد ليتصدر المعارضة التونسية حين انسحب منها البعض الاخر عاكفا في حالة قلق حملت معها الكثير من الاحباط واليأس كما النرجسية. لم تكن الأمينة العامة الجديدة للديمقراطي التقدمي والتي تسلمت الأمانة العامة من الشابي في حركة تاريخية لم تعرفها الأحزاب السياسية التونسية الا في حالات نادرة .., لم تكن الأستاذة مية الجريبي أقل اقتدارا أو فهما لمتطلبات المرحلة حين خرجت من اختبار المشاركة في الاستشارة التربوية والتعليمية في مجلس حكومي رسمي بأقدار عالية من الصمود والنجاح , وهو ماعنى بالنسبة للسلطة أن الأستاذ الشابي قد أحسن نقل مهامه في الأمانة العامة بما يصعب معه ترويض الحزب وادخاله الى بيت الطاعة الرسمية العمياء . الجريبي تخرج عن الانكسار الأنثوي المألوف والشابي يخلع هندام المحاماة : صفق البعض داخل الوسط النسائي واليساري التونسي لمجرد تولي امرأة لمنصب رئاسة حزب عربي معارض , ونسي اخرون أن الأهم هو الجدارة القيادية والنضالية في مواصلة المشوار , وكان البعض الاخر يريد من المنصب حالة تشريفية يوظفها في الخطاب السياسي الرسمي بأن يتحدث عن فضائل تحرير المرأة في الفضاء التونسي على عهد الرئيس الراحل بورقيبة وخليفته زين العابدين بن علي . لم تكن السيدة مية الجريبي من نساء صمت القصور اللواتي تحدثت عنهن مفيدة التلاتلي في شريطها السينمائي المشهور , بل انها جمعت بين التكليف والتشريف حين تداعت في وقفة بطولية الى مكتب الأستاذ عياشي الهمامي الذي أحرق نكاية في الليل البهيم بعد أن احتضن قبل سنتين حركة تاريخية ونضالية مليئة بالرموز والدلالات , وهو ماكررته لاحقا وقبل أكثر من اسبوع حين اعتصمت مضربة عن الطعام بالمقر المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي . مازالت الأستاذة الجريبي والى حين تاريخ تحرير هذا التحليل الاخباري صامدة الى جانب الأستاذ أحمد نجيب الشابي الذي نزع بدلة المحاماة ليقود الى جانب الأمينة العامة تحركا ميدانيا في مقر التقدمي بالعاصمة التونسية ,وسط حصار أمني مشدد لمقر الحزب وفي ظل تدفق حقوقي وسياسي ونقابي لم تعرفه تونس الا حين فوجئ الرأي العام والاعلام الدولي بانطلاق "قمة المختار عطية" التي شكلت قمة موازية ل"قمة قصر المعارض بالكرم" . اعلام السلطة يفشل في مواجهة أخطر سلاح يستعمله المعارضون : تبدو السلطة في تونس واجمة ومصدومة بتطورات صدى الاضراب على الساحة الداخلية والخارجية , ولازالت الى حد الان تكل مهمة الرد الى بوبكر الصغير على شاشة الجزيرة أو الى منذر عافي على صحيفة الحرية لسان الحزب الحاكم في تونس , وربما قد يتطور الأمر الى تجنيد بعض الأقلام العربية المأجورة وهو مالاحظته اليوم حين تصفحت مقالا مريبا نشر على صحيفة الراية القطرية ... الموقف الجريء والحركة النضالية المتمرسة والذكية في قلب العاصمة التونسية والتي يقودها اليوم الحزب الديمقراطي التقدمي باكثر قيادييه صمودا ومبدئية , تجعل تونس حتما أمام صدارة الحدث مغاربيا وعربيا , وهو ماينبئ بأن الفضاء والمناخ السياسي في تونس سيعرف لامحالة تطورات سترغم السلطة توازنا أو اكراها على اتخاذ مبادرات قد تأخذ طابعا ترويضيا ... الكثيرون يعلقون الأمل على الذكرى العشرين لحدث السابع من نوفمبر واخرون يعتبرون أن القطار انطلق تحررا واصلاحا حتى قبل هذه الذكرى التي لم تعد تمثل لدى بعض التونسيين الا حدثا تاريخيا جميلا سرعان مااختطفه الحرس القديم والمتنفذون من أجل مواصلة نفس قواعد اللعبة . حرره مرسل الكسيبي* بتاريخ 14 رمضان 1428 ه- 26 سبتمبر 2007 *كاتب واعلامي تونسي- رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية :