ليس بخاف على المراقب السياسي بأن الحركة الاسلامية شكلت ملفا سياسيا ثقيلا وملفا أمنيا أثقل لدى بعض الحكومات العربية , وليس بخاف أيضا بأن ملف الاسلاميين انتخابيا ومشاركة في الحياة السياسية ظل أعسر الملفات وذلك لتداخل البعد الدولي فيه مع البعد المحلي. أثبتت تجربة الانقاذ الجزائرية بأن الخيار الانتخابي الحر والشفاف يمكن أن يؤدي الى التهام البرلمان واستلام مقاليد الأمور لولا تدخل الجيش في عملية انقلابية من أجل ضبط الأوضاع على عقارب البوصلة الدولية والاقليمية واعادة الدولة الى مشروعها "المدني" الذي كان مهددا في ظل شعارات " لا قانون ولا دستور ,قال الله ,قال الرسول ". ولعله من غريب هذا الشعار الذي رفعه جناح بارز من أجنحة تيار جبهة الانقاذ ,أن قام بوضع الاسلام والقانون والدستور في تضاد مطلق مع امكانيات التعايش والاستلهام مع روح المنقول ومقاصد التشريع الاسلامي , وهو ماهيأ الأجواء في ظل خطابات ملهبة وغير واقعية روج لها الشيخان علي بلحاج وعباسي مدني الى انهيار سريع للأوضاع في ظل تحرش من الطبقة العلمانية وأمام تربص خارجي من بعض القوى الاقليمية والدولية. على الضفة الشرقية للجزائر كانت التجربة في تونس تعيش مخاضا عسيرا في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات في ظل شعار فرض الحريات الذي ناضلت حركة النهضة من أجله ,غير أن مفهوم الحريات الذي تجندت له النهضة كليا دون تحسب لعواقب الزمان والمكان ,اصطدم بدولة مركزية قوية ذات جهاز أمني وحزبي نافذين ونخبة علمانية صاحبة علاقات خارجية أقوى , وهو ماجعل هذا المشروع يعرف طريقه الى الاخفاق والفشل في ظل تحالف الحقيقة مع الهواجس , وفي ظل قرار دولي صارم بافشال كل تجربة "اسلامية" تصبو الى الانفراد أو المغالبة في مناهج الحكم. لم ينقذ اعتدال خطاب النهضة حزبها من التصفية التنظيمية والاخصاء السياسي في ظل تتالي الضربات الأمنية وحرص القيادة السياسية الرسمية على التحالف مع خصوم الحركة من أجل استئصال الظاهرة مجتمعيا, غير أن ماعمق من أزمة النهضة هو جملة من الأخطاء الاستراتيجية المرتكبة من بعض العناصر القريبة منها أو المتعاطفة معها في ظل سواد منطق التنظيم السري , الذي لم تفلح القيادة السياسية في السيطرة عليه, أو أن تغييب عناصرها المركزية وراء القضبان ساهم في تقوية بعض أجنحته , لتنفلت الأمور الى بعض الحوادث الشاذة التي تعاملت معها السلطة بصرامة القبضة الحديدية . كانت السلطة على بداية التسعينات أمام هدية تاريخية لم تحسن توظيفها كما أحسن الأشقاء في الجزائر التحكم في أوراقها باقتدار,حيث أن تقدم الأستاذ عبد الفتاح مورو رفقة مجموعة من القياديين المنسحبين من الحركة أو من الذين جمدوا عضوياتهم بملف قانوني في تأسيس حزب الشعب , قوبل برفض رسمي وغرور وزهو سياسي كان من دوافعه الشعور بتملك عناصر ربح المعركة من زاوية أمنية محضة. لعب الأشقاء الرسميون في القطر الجزائري على تمايزات الانقاذ مع حركة مجتمع السلم بقيادة محفوظ النحناح -رحمه الله-والنهضة بقيادة جاءبالله , في حين وأدت السلطة في تونس كل تمايزات الساحة سياسيا وقصرتها على أنصار الغلو الأمني المتحالف مع أحزاب تقاسمت الغنائم البرلمانية والمجالس العليا الرسمية الى حدود سنة 1995 , حين استيقض جزء من النخبة على واقعة هزيمة ساحقة للديمقراطيين الاشتراكيين وأحزاب العشرين بالمائة في الانتخابات البلدية, وهو ماشكل لاحقا منعرجا تنازليا في مسيرة الزهو السياسي الذي اعتمل في مخيلة الطبقة الرسمية بعد القبض على الالاف من المناضلين السياسيين مع انطلاق أشد مواجهة سياسية وأمنية عرفتها البلاد منذ اعلان دولة الاستقلال. فشلت السلطة في استيعاب تمايزات الساحة السياسية بعد أن تحكم العقل الأمني في القرار , وانطفأت شموع التفكير أمام سطو منطق التحقيق والاعتقال , وأغفلت السلطة ابداعا سياسيا اخر عرفته الساحة المغربية عبر قرار المؤسسة الملكية بالانفتاح على تيار الاسلام المعتدل ممثلا في حزب العدالة والتنمية المغربي , وهو ماأتاح للمغرب الأقصى فرصة تاريخية في محاسبة التيار الاسلامي على البرامج السياسية والتنموية بدل تحويل الظاهرة الى مشروع احتقان سياسي أو غضب اجتماعي يذهب باستقرار البلاد. حزب سياسي مدني ذي مرجعية اسلامية وسطية ومعتدلة كان خيار الاخوان في الجزائر والمغرب والأردن ومصر-بشكل غير رسمي-ولبنان والأراضي المحتلة والكويت واليمن وتركيا وماليزيا واندونيسيا ومناطق أخرى من العالم العربي والاسلامي, وهو ماشكل خيار الطريق الثاني بدل مواجهة التيار الاسلامي المغالي والمعتدل بنفس الأسلوب الأمني . أهدرت السلطة طاقات مالية وفكرية وسياسية وأمنية واعلامية في غير وجهتها الحقيقية أمام منطق الحلول المستندة الى الهواجس والاقصاء السياسيين. معركة أمنية لم تجن تونس من ورائها الا رداءة اعلامية وانغلاقا سياسيا وسوء سمعة حقوقية , واحتقانا اجتماعيا في ظل شعور الالاف من التونسيين بالهضم والضيم. بعد مرور 17 سنة على تاريخ هذه المواجهة السياسية والأمنية التي خسر من ورائها التونسيون جميعا الكثير من الأوقات والطاقات المادية والبشرية , أذكر بأن الجهاز الحاكم في تونس مدعو ومن منطلق المصلحة الى تغيير المنطق والاليات , بل انني أدعو التجمع كحزب حاكم الى ارجاع الاليات الأمنية الى مربعها الأول , حيث حفظ أمن المواطن والتصدي للجريمة الفردية والمنظمة , وفض النزاعات بين المواطنين تحت اشراف سلطة القضاء ... ان تونس اليوم تقف أمام معركة تحديات جديدة تختلف اطلاقا عن تحديات مرت بها البلاد في حقبة تاريخية مضت وطويت , وليس أمام قادتها الرسميين سوى الالتجاء الى الحلول السياسية كبديل عن المنطق الأمني , وذلك عبر الدخول عمليا في مرحلة جديدة يعلو فيها صوت الحوار الوطني على منطق الكرباج , وليس من المستحيل على حزب عريق بحجم التجمع الديمقراطي الدستوري ورئيس دولة قوي يحكم بلدا ناميا ومستقرا , أن يفكرا في ترتيب أوضاع عامة وسياسية جديدة يدشنانها بمرحلة حوار وطني موسع تكون مبشراته ايقاف حملات الاعتقال على خلفية الاشتباه واطلاق سراح كل من تبقى من معتقلي الرأي ,وتدشين حقبة اصلاحية جادة تمهد للاستحقاق الرئاسي القادم بمناخات بعيدة عن التشكيك والقدح في سجل تونس الحقوقي أو السياسي . في الذكرى العشرين لتسلم الرئيس بن علي مقاليد هرم السلطة , تبقى النخبة بلا شك في مرحلة الانتظار والترقب ولاسيما أمام تسليم الكثيرين بقدرة الحزب الحاكم على توجيه الدفة السياسية للبلاد عبر تطعيم الحياة العامة بجرعة قوية من الاصلاحات السياسية , في مقابل تمديد سلس لدورة رئاسية جديدة سوف لن تمر في أجواء من الاعتراض والاحتجاج القوي اذا ماقدمت السلطة ثمنها الاصلاحي الحقيقي. مرسل الكسيبي*- 7 نوفمبر 2007 *كاتب واعلامي تونسي /رئيس تحرير الوسط التونسية/رئيس منتدى الوسط للاصلاح والحريات : [email protected]