اليوم انطلاق تحيين السجل الانتخابي    في مسيرة لمواطنين ونواب ونشطاء .. دعم لسعيّد ... ورفض للتدخل الأجنبي    "دبور الجحيم"..ما مواصفات المروحية التي كانت تقل رئيس إيران؟    الحرس الثوري الإيراني: تلقينا إشارة من طائرة الرئيس المفقودة    العداء الشاب محمد أمين الجينهاوي يتأهل رسميا لدورة الألعاب الأولمبية باريس 2024    انخفاض في أسعار الدجاج والبيض    الخارجية الإيرانية: جهود الوصول إلى مكان مروحية الرئيس متواصلة    يوميات المقاومة .. ملاحم جباليا ورفح تدفع بالأمريكان والصهاينة الى الاعتراف بالفشل...الاحتلال يجرّ أذيال الهزيمة    ردود أفعال دولية على حادث تحطم طائرة الرئيس الإيراني..    ماذا يحدث في حال وفاة الرئيس الإيراني وشغور منصبه..؟    البينين تشرع في إجلاء طوعي    انفعال سيف الجزيري بعد منع زوجته من دخول الملعب بعد تتويج الزمالك بالكونفدرالية (فيديو)    أولا وأخيرا .. «صف الياجور»    لَوَّحَ بيده مبتسماً.. آخر صور للرئيس الإيراني قبل سقوط مروحيته    قفصة: مداهمة منزل يتم استغلاله لصنع مادة الڨرابة المسكرة    حوادث.. وفاة 12 شخصا وإصابة 455 آخرين خلال 24 ساعة..    4 تتويجات تونسية ضمن جوائز النقاد للأفلام العربية 2024    الزارات -قابس: وفاة طفل غرقا بشاطئ المعمورة    جندوبة: تحت شعار "طفل ومتحف" أطفالنا بين روائع مدينة شمتو    تراجع توقعات الإنتاج العالمي من الحبوب مقابل ارتفاع في الاستهلاك العالمي    يوفر مؤشرات التخطيط الاقتصادي: اعطاء إشارة انطلاق المرحلة التمهيدية لتعداد السكان والسكنى    يوسف العوادني الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس يتعرّض الى وعكة صحية إستوجبت تدخل جراحي    القيروان: الملتقي الجهوي السادس للابداع الطفولي في الكورال والموسيقى ببوحجلة (فيديو)    عاجل/ الرصد الجوي يحذر من حالة الطقس ليوم غد..    بعد "دخلة" جماهير الترجي…الهيئة العامة لاستاد القاهرة تفرض قرارات صارمة على مشجعي الأهلي و الزمالك في إياب نهائي رابطة الأبطال الإفريقية و كأس الكاف    الأهلي المصري يعامل الترجي بالمثل    هام: انخفاض أسعار هذه المنتوجات..    عاجل : ايران تعلن عن تعرض مروحية تقل رئيسها الى حادث    سفيرة الامارات في زيارة لصالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    لماذا كرمت جمعية معرض صفاقس الدولي المخلوفي رئيس "سي آس اي"؟    السيارات الإدارية : ارتفاع في المخالفات و هذه التفاصيل    اليوم : انقطاع التيار الكهربائي بهذه المناطق    نابل: اختتام شهر التراث بقرية القرشين تحت شعار "القرشين تاريخ وهوية" (صور+فيديو)    طقس اليوم ...امطار مع تساقط البرد    أخبار النادي الإفريقي .. البنزرتي «يثور» على اللاعبين واتّهامات للتحكيم    في عيده ال84.. صور عادل إمام تتصدر مواقع التواصل    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    بوكثير يؤكد ضرورة سن قوانين تهدف الى استغلال التراث الثقافي وتنظيم المتاحف    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    المنستير: القبض على 5 أشخاص اقتحموا متحف الحبيب بورقيبة بسقانص    تفكيك شبكة لترويج الأقراص المخدرة وحجز 900 قرص مخدر    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"لوبي الجزائر" في عهد ساركوزي
نشر في الوسط التونسية يوم 11 - 12 - 2007

لاتزال صفحة الماضي المتمثلة بالحقبة الكولونيالية ، و حرب التحرير الوطني ، تلقي بإرثها و حمولتها التاريخية الثقيلة على مستقبل العلاقات الفرنسية- الجزائرية.فالماضي الكولوونيالي يسيقظ من سباته،و يطفو على السطح،وتهب رياحه عاتية كلما أرادت فرنسا والجزائر التقدم على طريق إبرام معاهدة صداقة بين البلدين.
في هذا الماضي الكولونيالي تحتل الجزائر مكانة خاصة، بسبب المآسي التاريخية التي حلت بالشعب الجزائري.و يعلمنا التاريخ أيضا، وبالدرجة الأولى، أن النظام الكولونيالي المتناقض جذريا مع المبادىءو القيم التي نادت بها الثورة الديمقراطية الفرنسية، قد أدى إلى ارتكاب مجازر بمئات الألاف الجزائريين، و اقتلعهم من أرضهم، وشردهم ،أو «clochardises » إذ استعدنا التعبير الدقيق الذي استخدمه الباحث الفرنسي جرمان تيليون، في توصيفه لتلك المأساة التاريخية.
المنظرون لإعادة الإعتبار للكولونيالية تناسوا مئات الألاف من القتلى ، المدنيين في معظمهم، الذين قتلتهم الأرتال الجهنمية للجنرال بوجود و خلفائه بين 1840و1881، متسببة في عملية ترحال قسري و مشهدي للسكان ، مات جرائها مايقارب 900000«من البلديين»كما كانوا يسمونهم في ذلك الوقت.لقد تناسوا الغزوات الدموية المنظمة،و السلب الجماعي ، الذي كان يستهدف منح الكولون القادمين من المتروبول أجود الأراضي الزراعية.
لقد تناسوا أيضا قانون إدارة المستعمرين،هذا الأثر التذكاري التاريخي لعنصرية الدولة الفرنسية ، الذي تم تبنيه في 28 يونيو 1881 من قبل الجمهورية الثالثة لمعاقبة «العرب» على أساس معايير عرقية و ثقافية ، الخاضعين لحملة عسكرية وعدالة استثنائية، في تناقض صارخ مع المبادىء كلها المعترف بها من قبل المؤسسات و إعلان حقوق الإنسان و المواطن.
لقد تناسى هؤلاء المجازر التي ارتكبت قبل ستين عامافي الجزائر،والتي تعتبر مروعة ، و لم يسبق لها مثيل منذ حرب الإبادة ،في مدن سطيف ، قالمة، و خراطة ،وفي إقليم قسنطينة شرق الجزائر، الزمان: 8 مايو 1945. ماذا جرى في ذلك اليوم الذي يعتبره المؤرخون بعد مرور ستين سنة عليه، أنه كان «الفعل المؤسس» لثورة التحرير في الجزائر التي اندلعت بعده بنحو عشر سنوات، وقادت البلاد إلى الاستقلال؟في ربيع تلك السنة انضوى الوطنيون الجزائريون تحت لواء جمعية «أصدقاء البيان والحرية»، أسسها فرحات عباس، وضمت إلى جانب التيار المعتدل الذي كان يمثله، ممثلون عن جمعية العلماء المسلمين التي كان يرأسها في ذلك الوقت الشيخ البشير الابراهيمي، خليفة الشيخ عبد الحميد بن باديس، وعن حزب الشعب الجزائري بزعامة مصالي الحاج، أب الوطنية الجزائرية، وأول من رفع راية الاستقلال عن فرنسا.ونظم هؤلاء جميعاً مظاهرات خاصة بانتصار الحلفاء على ألمانيا النازية في 8 مايو 1945. فخرج الجموع في أنحاء البلاد. و في مدينة ستيف حمل المتظاهرون الأعلام الوطنية. فكان ذلك مثيرا لحفيظة المستوطنين و رجال الشرطة. و انطلقت الشرارة الأولى التي سرعان ما أشعلت معركة حامية تردد صداها في جميع مدن قسنطينة.. وطغت على التظاهرات التي عمت مختلف المدن الجزائرية شعارات حزب الشعب الأكثر جرأة، وطالب أنصاره بإطلاق سراحه من المنفى الذي أرسل إليه في مدينة برازافيل الافريقية. وانتهى ذلك اليوم ببضع عشرات من القتلى والجرحى منهم 102 قتيل فرنسيا.
كان رد السلطات الإستعمارية الفرنسية على السكان الذين نزلواإلى شوارع مدينة ستيف ،غاية في القسوة و العنف الكولونيالي الأعمى، إذ سقط حوالي «45000 شهيدا» حسب إحصائيات السلطات الجزائرية الرسمية ، في حين تتحدث السلطات الفرنسية عن عدد القتلى يتراوح بين 15000 و 20000 قتيلا.
بعد خمس وأربعين سنة من نهاية الحرب الجزائرية ، لايزال القتلة من منظمة L OAS -التي كانت تدافع عن بقاء الجزائر فرنسية- الذين قتلوا عدة ألاف من الجزائريين، وقاموا بعدة عمليات إرهابية في ذلك الوقت، في المستعمرة و المتروبول لعل أشهرها محاولة اغتيال الجنرال ديغول في 8 سبتمبر 1961، قبل ستة أشهر من إبرام إتفاقية إفيان عام 1962، هؤلاء القتلة يتم تكريمهم رسميا في بعض البلديات الفرنسية في ظل الصمت و التواطؤ من قبل أعضاء الحكومة الفرنسية و المسؤولين الرئيسيين للأغلبية الحالية، كلهم يحبون السلطة أكثر مما يحبون الحقيقة التاريخية، خاصة عندما تؤثر مباشرة على مصالحهم الإنتخابية و تحالفاتهم السياسية المحلية.
ففي عهد الرئيس جاك شيراك، قدم عدد من النواب إلى رئاسة الجمعية الوطنية الفرنسية(البرلمان) مشروع قانون رقم 667 بتاريخ 5 مارس 2005، و من بينهم وزير الخارجية الفرنسي السابق السيد فيليب دوست بليزي.، جاء فيه مايلي:« إن تاريخ الوجود الفرنسي في الجزائر يتجلى بين صراعين: الحملة الاستعمارية، من 1840 إلى 1847، و حرب الاستقلال التي انتهت باتفاقيات إيفيان في عام 1962.خلال هذه المرحلة،قدمت الجمهورية على الأرض الجزائرية مهارتها العلمية ،التقنية و الإدارية ، ثقافتها و لغتها، و كثير من الرجال والنساء ، غالبا من أوساط متواضعة، جاؤوا من أوروبا كلها ومن كل الطوائف، و أسسوا عائلات في ماكان يعرف بالمقاطعة الفرنسية.لقد تطورت البلاد في قسم كبيرمنها بفضل شجاعتهم وسعيهم للعمل. لهذا(...) يبدو لنا من المستحب و العدل أن يعترف التمثيل الوطني بإنجازات معظم هؤلاء الرجال و النساء، و جهودهم، حيث مثلوا فرنسا لمدة قرن في الضفة الجنوبية للمتوسط، ودفعوا ثمن حياتهم لذلك في بعض الأحيان».
وقد استتبع مشروع القانون هذا مادة وحيدة قدمها النائب من حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية »(الحزب الحاكم الذي يترأسه نيكولا ساركوزي):« إن الأعمال الإيجابية لمجموع مواطنينا الذين عاشوا في الجزائر طيلة حقبة الوجود الفرنسي هي معترف بها علانية »
إن هذا الموقف النافي بشكل عجيب للكولونيالية و المعبر عنه بهدوء في قلب مؤسسات الدولة من قبل نواب واثقين من أعمالهم ، و معتقدين أنهم على حق، يؤيد تاريخ بعث الكولونيالية . وفضلا عن ذلك يريدالموقعون على هذا النص، معاقبة بوساطة التصويت لكي يجعلوا من إعادة تأهيل الكولونيالية « حقيقية» رسمية تلتزم بها الدولة والأمة.
رغم كل حقيقة تاريخية،يدافع هؤلاء الممثلون عن أسطورة الكولونيالية بوصفها رسالة حضارية و تمدينية متطابقة مع المثل و القيم التي اشتهرت فرنسا بالدفاع عنها في هذه الأرض الجزائرية .و يتساءل العقلاء في فرنسا :ماذا فعلت المعارضة اليسارية الحالية لكشف أمام الرأي العام الفرنسي فضيحة مشروع القانون هذا ، ومواجهة أصحاب تلك المبادرة على هذه المراجعة التحريفية للتاريخ؟
وتم إقرار هذا القانون في حينه من دون معارضة تذكر داخل البرلمان، وصوت لصالحه نواب اليمين التقليدي الحاكم الذين اقترحوه، وكذلك الأمر بالنسبة للمعارضة الاشتراكية، وذلك لغايات أخرى تتعلق بكون العديد من نواب الحزب الاشتراكي من أصول جزائرية يهودية، وهم يعتبرون أنفسهم جزءا من الوجود الاستعماري الفرنسي، من دون أن يصرحوا بذلك. وهنا يجدر لفت الانتباه إلى حرص الجزائر على إبعاد شبح الحقبة الاستعمارية من المناهج الدراسية، وكان في وسعها ان تخصص آلاف الصفحات للآراء التي مجدت الاستعمار، من فيكتور هيغو إلى لامارتين وحتى كليمنصو. هي لم تقم بذلك وهذه علامة ايجابية ودليل على توجه المصالحة التاريخية، إلا ان فرنسا لن تجد جزائريا واحدا يتخلى عن ميراث الضحايا.
لقد اضطر شيراك أن يرضخ ل «لوبي الجزائر». وقد تبين انه «لوبي» مؤثر، ورغم قدم الأمر فهو لا يزال قادراً على حفظ الاحترام للماضي الاستعماري في الجزائر. ولا يقتصر هذا «اللوبي» على بعض مرضى الحنين الى الجزائر الفرنسية، التي لا تزال تحتضن رفاة بعض الآباء والأجداد هناك، بل هو مطعّم ب «المستعمرين الجدد»، الذين عرقلوا اتفاقية الصداقة، بدعوى رفض الاعتذار من ماضي فرنسا الاستعماري، وهم يعرفون أن إقامة شراكة استراتيجية مع الجزائر أمر مرهون بحل المسألة التاريخية.
إن العارفين بموازين القوى في فرنسا يدركون أن ساركوزي هنا يساير تياراً، سبق له أن أحبط مساعي شيراك في التقارب بين البلدين، لجهة ردم الهوة النفسية العميقة الناجمة عن إرث الاستعمار الفرنسي المديد للجزائر.
وجاءت زيارةالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يوم الإثنين 3كانون اأول /ديسمبر الجاري إلى الجزائر في ظرف خاص على المستوى الثنائي، ووسط ضجة إعلامية قوية في البلدين، أثارتها تصريحات لوزير المجاهدين القدامى محمد شريف عباس،لصحيفة الخبر الواسعة الانتشار اعتبر فيها أن المهندس الحقيقي لصعود ساركوزي إلى الرئاسة هو«اللوبي اليهودي»الذي يسيطر على المقرّرين في فرنسا.
لا شك أن تصريحات الوزير الجزائري خلقت وضعا حرجا، من جراء الجو الذي تولد من حولها الذي يعبر عن موقف جزائري رسمي غير ودي تجاه فرنسا ورئيسها ،في الوقت الذي كان فيه البلدان يحاولان التحضير على أحسن وجه لزيارة الدولة للرئيس ساركوزي إلى الجزائر،التي تسيطر عليها ملفات شائكة ، و لاسيما الهجرة و الماضي الكولونيالي. وقد أثارت تصريحات الوزير الجزائري جدلاً ساخناً في فرنسا،التي ندّد بها عدد من نواب اليمين و اليسار.
و في الوقت الذي صدرت فيه دعوات سياسية وتعليقات إعلامية تطالب ساركوزي بالعدول عن الزيارة، تدخل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بسرعة ليضع حدا للجدل، ويمتص الانفعالات الفرنسية. واعتبر في بيان رسمي تصريحات وزيره لا تعبر عن الموقف الرسمي الذي يمثله رئيس الدولة،مؤكداً، على «أن السياسة الخارجية للجزائر»هي من اختصاص رئيس الدولة ووزير الخارجية.
الرئيس ساركوزي أراد أن ينأى بنفسه عن هذا الماضي الكولونيالي ، حين أراد إحالة الحاضر والمستقبل إلى المؤرخين، واختصار المسألة إلى خلاف تاريخي. وفي المقام الثاني قال أمام الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، إنه لا يحس بالمسؤولية التاريخية، بذريعة انه لم يشارك في حرب الجزائر. والنقطة الثالثة وهي الأكثر خطورة، تتلخص في دعوته إلى ضرورة فتح صفحة بين الأجيال الجديدة، على أساس معطيات الحاضر وتطلعات المستقبل، ونسيان تراكمات الماضي.
من هنا نفهم لماذا يثار موضوع الماضي الكولونيالي لفرنسا، الذي كاد أن يتسبب في أزمة ديبلوماسية كبيرة بين فرنسا و الجزائر،لولا التفسير الرسمي الذي قدمه الرئيس بوتفليقه لنظيره الفرنسي ساركوزي الذي على الرغم من قبوله له، فإنه لم يذهب إلى الجزائر بالحماس عينه الذي كان يتمتع به قبل الضجة التي أثارتها تصريحات عباس، والدليل أنه اضطر لإجراء تعديل على لائحة مرافقيه من الشخصيات غير الرسمية التي أسقط منها اسم المطرب إنيركو ماسياس الذي يتحدر من أصل جزائري يهودي، ويعتبر أحد أسباب الضجة من حول زيارة ساركوزي، وهذه هي المرة الثانية التي تبدي الجزائر عدم ترحيبها به، وكانت قد رفضت استقباله للمرة الأولى في العام ،2000 بسبب مواقفه المؤيدة لإسرائيل.
غير أن مسألة ماسياس على الرغم من حساسيتها للجزائريين، فإنها تبدو بمنزلة الشجرة التي تخفي خلفها غابة من خلافات الماضي المشترك التي تنتظر تسويتها. وتكمن العقدة الأساسية في المقاربة المختلفة للمشكلات، ففي حين تدعو فرنسا الجزائر إلى توقيع اتفاقية صداقة تفتح صفحة جديدة، تصر الجزائر قبل كل شيء على تقديم اعتذار فرنسي رسمي بصدد الحقبةالكولونيالية. وقد واجهت هذه المسألة ساركوزي في زيارته الماضية، وواجهته أكثر هذه المرة، لكنها في جميع الأحوال لن تشكل عقبة فعلية في طريق برنامج زيارته، أي لن تحول دون توقيع العقود التجارية التي ذهب يبحث عنها، لكنه لن يحصل على تطبيع للعلاقات.
وقد وقع ساركوزي مؤخراً جملة من العقود التجارية في الصين (20 مليار دولار) والمغرب (3 مليارات دولار)، ويطمح أن يعود من الجزائر، وقد أخذ حصة فرنسا من ال 100 مليار دولار احتياطي، جمدتها الجزائر من أجل استثمارات أساسية. ولهذا يسعى إلى عقد صفقات تجارية بقيمة 5 مليارات دولار.
وجرى الحديث مؤخراً في البلدين عن اتفاقات في ميدان الغاز، سوف يتم التوقيع عليها، وهدفها تأمين مد السوق الفرنسي بالغاز الجزائري الذي يأتي في المرتبة الثالثة بعد النرويجي والهولندي وقبل الروسي. وعلى الرغم من أن الجزائر أول شريك تجاري لفرنسا في إفريقيا قبل المغرب وتونس وحتى جنوب إفريقيا، فإن للتفاؤل الفرنسي حدود، فالجزائر ليست الصين، والسوق الجزائرية أصبحت أضيق أمام فرنسا مع دخول منافسين جدد، مثل الولايات المتحدة والصين واليابان. وهناك أمثلة كثيرة على هذا الواقع الجديد، منها أن طريق قسنطينة- تونس فازت بعقد تنفيذه شركة يابانية، لأنها قدمت عرضاً أقل تكلفة من الشركة الفرنسية، كما أن رجال الأعمال الجزائريين الشبان يتوجهون اليوم إلى شنغهاي، ليس فقط من أجل تلافي تعقيدات التأشيرة الفرنسية، بل كذلك لأن المنتجات الصينية أقل تكلفة. ومن يتأمل اليوم في السوق الجزائرية يجد أن المنتوجات الصينية تفوق الفرنسية بكثير. هذا عدا عن حضور الاستثمارات الفرنسية المتدني، بالقياس الى حالات أخرى مشابهة. وعلى سبيل المثال، فإن اليابان توظف 27% من استثماراتها الخارجية في محيطها الآسيوي، والولايات المتحدة 25% في أمريكا اللاتينية، في حين لا تتجاوز نسبة استثمارات فرنسا في إفريقيا 3%. وهذه مسألة تتجاوز التجارة.
لقد اختتم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي زيارته إلى الجزائر وسط تباين واضح حول ماهية مشروع الاتحاد المتوسطي الذي ينادي به، ومؤدى السلام في منطقة الشرق الأوسط،. ففيما ألح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، على أنه ليس هناك من طائل لقيام «اتحاد متوسطي» ما لم يتم وضع حد لاحتلال إسرائيل للأراضي العربية وتمكين الشعب الفلسطيني من التمتع بسيادته بدولة قائمة لها حدود معترف بها، اعتبر ساركوزي ان السلام ممكن بالاعتراف أولاً بحق الشعب «الإسرائيلي» في العيش الحر، حتى لا تتكرر معاقبة الشعب الفلسطيني بالظلم نفسه الذي يعانيه منذ قرون.
وظهر واضحاً أن بوتفليقة أقحم القضية الفلسطينية في المعادلة المتوسطية الجديدة، كرسالة قوية مفادها معارضة بلاده قيام «اتحاد متوسطي»تكون إسرائيل طرفاً فيه تبعاً للتصور الفرنسي غير المعلن، وأحال بقوة على موقف الجزائر الرافض لأي تموقع أو دور إسرائيلي في المنطقة، لا سيما مع تصرف ارييل شارون وخليفته ايهود أولمرت كمصدر لاشعال الحرائق في شرق المتوسط، ما دفع الجزائر قبل الفترة إلى اطلاق مشروع «غرب المتوسط» حتى تضع خطا فاصلاً بينه وبين شرق المتوسط الذي يضم إسرائيل.
أخيرا، إن طي صفحة الماضي الكولونيالي ، يحتاج إلى شجاعة سياسية و أدبية وأخلاقية عالية، من الجانبين الفرنسي و الجزائري، فالتاريخ لا يطوي صفحاته من تلقاء نفسه.كما أنه من الصعب جدا تجاوز تاريخ الذاكرة لشعب بأكمله ، حتى و إن أسهم المؤرخون في ردم الهوة المحفورة بين فرنسا و الجزائر.
إن موقف الرئيس ساركوزي الداعي إلى إبرام معاهدة صداقة بين فرنسا و الجزائر، من دون أن تقدم فرنسا اعتذاراً واضحا للشعب الجزائري، وقوله إحالة قضية الماضي كلها الى التاريخ، وفتح صفحة جديدة على أساس معطيات الحاضر، لا يساعد الضحايا الجزائريين على تجاوز تاريخ الألم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.