يضطر الناس للهجرة لأسباب مختلفة ، و يعيشون الغربة في ظروف مغايرة ، و يتفاعلون مع المحيط بصور متباينة . هناك قصص كثيرة عن الهجرة ، تتشابه حينا ، و تتضاد أحيانا ، هناك من حالفه الحظ و حقق حلمه ، أو وجد الأمان الذي سعى إليه ، و هناك من استبدل بآلامه الماضية آلاما جديدة ، و هرب لواقعه الجديد ، فرارا من واقع خلفه وراءه ، و إن كان الأخير ليس الخيار المنشود . في تونس و تحديدا في سيدي بوسعيد تلك المنطقة السياحية بارتفاعها و زرقة سمائها و أبواب منازلها ، و طابعها المعماري المميز استقر الفنان الايطالي سالوا تروتو و هو في الخمسينات من عمره منذ عدة سنوات ، بعد إن اشترى بيتا ، و أقام معرضا للصور و التحف في سيدي بوسعيد . يحيب تروتو عن سبب اختياره لتونس و تحديدا لسيدي بوسعيد بالقول " كثيرا ما يسألني الناس لماذا اخترت تونس ، و الحقيقة هي أنني لم أخترها بل هي التي اختارتني ، و هذا هو الواقع ... فقد جئت إلى قرطاج عام 1982 للقيام بالتصميم الداخلي لاحد المنازل و قد شددت إلى تونس ". و قال " شعرت عام 1990 بأن هذا المكان يجذبني إليه ، و أعني سيدي بوسعيد فقررت البحث عن منزل " . و عبر عن شغفه بالمكان و الناس ، و عن شعوره و كأنه ابن البلد و أحد مواطنيها ، كما لو كان في وطنه للتشابه الكبير بين سكان جنوب المتوسط على حد قوله " يمكن القول إني بدأت أمارس الفن بالفعل في تونس أعني العمل كرسام فلم أكن قد توصلت لقرار من هذا القبيل في ايطاليا فقد كنت أعمل كمصمم مسرحي ورسام ديكور أما هنا فيمكنني أن أصبح فنانا " و يشرح بالتفاصيل نشأته " أنا من صقلية و تحديدا من كوميزوا و أعرف تونس جيدا و كذلك ليبيا و اليونان " و عن وجه التشابه بين هذه الشعوب قال " إذا تمعنا النظر ، فإن هذه الشعوب تتشابه ليس فقط في الشكل بل في الطباع أيضا " . و لم يحقق الايطالي في سيدي بوسعيد فن ممارسة الرسم فقط ، بل حقق حلمه بأن يكون له معرض خاص " يمكنني القول إني من شيده بنفسي حيث كان هذا المكان شبه مهجور عندما حصلت عليه ، و كل هذه التصميمات قمت بها لوحدي ، و قد حافظت على الطابع التقليدي ، و أضفت إليه لمسات ايطالية ، فهذه البناية وسط سيدي بوسعيد و لذلك رغبت رغبت في احترام الطابع المعماري هنا " و قد أصبح المعرض مع الوقت بيت الكثير من الفنانين ليس فقط الافارقة بل الكثير من الفنانين المحليين التونسيين و الجزائريين و ليبيين ، و هناك أماكن خاصة للراغبين في عرض لوحاتهم . و قال " عندما أبدأ الرسم أنطلق من الصفر و أحاول تدريجيا ايجاد الاشياء التي أريد منحها الحياة فرسم لوحة يشبه إنجاب طفل ، فأنا لست متزوجا و ليس لي أطفال و لكن كل لوحة أرسمها تصبح أحد أبنائي " و يكرر المهاجر الايطالي إعجابه بالضوء الساطع في تونس ، و في سيدي بوسعيد تحديدا " الضوء الذي وجدته في تونس لا يوجد في أي مكان آخر يشبه كوميزوا و لكن مع مميزات الابيض و الازرق " . الوجه الآخر يمثله التونسي الموجود في ايطاليا منذ 20 عاما و اسمه علي لم يرغب في ذكر لقبه الذي يعد الهوية الحقيقية لكل فرد يبدأ باسم و لقب ثم لغة ووطن . قدم لايطاليا منذ 20 عاما لتحقيق حلم حياته في العيش بكرامة و تكوين ثروة تمكنه من الزواج و إقامة مشروع اقتصادي يعيش منه هو و عائلته . دخل ايطاليا يطريقة غير شرعية ، كان يأكل مما يمكنه الحصول عليه و السكن حيث ما تسمح له به الظروف . و بعد سنوات عديدة من المعاناة تمكن بفعل قانون تصحيح أوضاع المهاجرين غير الشرعيين إلى الخروج من الظلام و الدخول في عالم المهاجرين القانونيين . " أولئك الذين يحملون ورقة زرقاء تصدرها وزارة الداخلية الايطالية ، و تسمى تصريح الاقامة ، تحمل صورة شخصية و رقما مميزا . الوثيقة الجديدة و التي كانت بمثابة الوعيد بحياة أكثر يسرا جعلته سعيدا في ذلك اليوم الذي ينسى " . شعر بعد وقت طويل بأنه " ذلك الانسان الذي كان قبل أن يغادر وطنه ، و الذي بدأ ينساه بمرور الزمن " . وبعد أيام من تصحيح أوضاعه حاول علي أن يبدأ حياة جديدة ، و نجح بصعوبة في العثور على عمل كنادل ، بعد أن قام بتنازلات كثيرة ، كقبوله على سبيل المثال " العمل لساعات أطول مما ينص عليه القانون الذي ينظم حياة الايطاليين " . و رأى أن الامر " عادي و ضروري و هو بمثابة الاتفاق الاجباري الذي غالبا ما يتم التوصل إليه بين أرباب العمل و المهاجرين الاجانب " . رأى في كل تلك المعاناة " محاولة للتغلب على مصاعب الحياة الاخرى " . إنها مغامرة مثيرة فعلي يحلم منذ بداية شبابه ، بالسفر فقد فتح عينيه على " عشرات المقاهي في تونس التي لا تكاد تفرغ من العاطلين " . يتذكر دائما كيف كان يشترك مع ثلاثة من رفاقه في شراء قهوة يحتسيانها بالتناوب . كان يتابع عبر الشاشة الصغيرة برامج من ايطاليا و يتصيد عبر الدش أو البرابول المحطات الايطالية و كان يمني نفسه بأن يلتحق بالجزء الشمالي من المتوسط ليعيش ذلك العالم . " و كانت البرامج المتكررة و المملة للتلفزيون الحكومي التونسي تدفعني لتغيير القناة ، و متابعة القناة الايطالية الاولى لمؤسسة الاذاعة و التفزة الايطالية " . و بعد أن أكمل مشواره الجامعي قرر أن يكسر الشاشة و يعبر الحدود و الاندماج في عالمه الجديد ، ذلك العالم الذي شيده في مخيلته و هو يلاحق حلم الطفولة ." الحلم لا يكلف شيئا و لكن السفر شاق " . هذا ما أدركه علي بعد أن تجاوز نقطة مراقبة الجوزات بتأشيرة سياحية مدتها ثلاثة أشهر " الاموال التي كانت بحوزتي أنفقتها على ايجار غرفة صغيرة في أحد الفنادق القريبة من المحطة الرئيسية ، و بدل أن أرسل الاموال لاسرتي الفقيرة التي عالتني لسنوات طويلة حتى أنهي الجامعة و أساعد في تربية اشقائي و شقيقاتي الكثيرين الذين بقوا في الوطن كانت اسرتي تضطر من حين لحين ان ترسل إلي دولارات أمريكية تشتريها من السوق السوداء في تونس حتى تتيح لي مواصلة رحلتي و حلمي أيضا " و بألم قال " ما أغرب مصير المهاجر الذي يغادر بلده قاصدا ما كان يظنه دائما الغرب الغني ، ينفق والداه طوال حياتهما الغالي و النفيس على أمل رؤيته و قد رتب حياته بعد انتهاء دراسته ، له عمل مرموق و يقيم في منزل فخم يشيده إلى جوار بيتهما و قد تزوج بامراة صالحة تسهر على رعايتهما و رعايته " وتابع " يقضيان حياتهما و هما يرددان قولة واحدة كن رجلا يا ولدي . كم رجلا و حتى أحقق حلمهما اخترت المنفى حتى أبلغ الهدف هدفهما و هدفي و هدف مجتمع بأكمله لن يتسامح معي و لن يغفر لي الفشل " . و لكن غالبا ما يتعذر على المهاجر أن يصبح على الفور الرجل الذي يتطلع إليه والداه و يظل عبئا عليهما حتى و هو بعيد . " أجيال بأكملها من الشباب ظلت طريقها على هذا النحو في أراضي الغرب الفسيحة و المضيئة و لم تجرؤ مطلقا على العودة إلى أرض الوطن حتى لا يعتبرون فاشلين في نظر المجتمع " . و ظلت تعليقات من بقوا في البيت مضطجعين على آرائكهم مصدر عذاب و قلق دائمين لاولئك الذين قطعوا البحار و الفيافي لتحقيق أحلامهم في العيش بمستوى أرقى من أوضاعهم المزرية . " حاولت أكثر من مرة تجاهل تلك التعليقات و قلت بيني و بين نفسي إنهم لا يعرفون كنه و قسوة و صعوبة حياة المهاجر " . و قال " كيف أشرح لهم أنني احتجت لتوصية من رب العمل الايطالي بعد مضي سنوات من البحث المضني للحصول على مسكن لا يتعدى الغرفة الواحدة ، كيف يمكن لي أن أشرح لهم أن الايطاليين يفضلون الابقاء على الشقق شاغرة من تأجيرها للمهاجر الاجنبي حتى و إن كان الايجار مرتفعا مقابل منزل صغير لا تزيد مساحته عن 30 مترا مربعا في احدى ضواحي العاصمة البعيدة . و كيف أشرح لهم أنه من أجل الوصول إلى المقهى الذي أعمل به في وسط روما أسخدم وسائل المواصلات العامة و أقضي ساعتين في المواصلات ذهابا و مثلهما عند العودة إلى البيت كيف أشرح لهم ... " . لم يجد علي ردا على هذا السؤال و على أسئلة أخرى . و خاض تجربة الزواج من ايطالية ، لكنه لم يعلن علي زواجه و أخفى الامر على والديه و على أقربائه و أصدقائه في أرض الوطن حتى لايساء به الظن ، و لم يكن زواجه " عن حب أو لمصلحة و إنما كانت علاقة وليدة الصدفة كانت نوعا من الهروب من الملل و الوحدة كانت تكبرني بكثير غير متعلمة و تعمل نادلة مثلي " . زواج محكوم عليه بالفشل منذ البداية نظرا لاختلافات بينهما في الثقافة و المستوى التعليمي ، لكنه مكن علي من الحصول على الجنسية الايطالية ، أما الزواج فقد " انتهى بعد سنوات قليلة و كانت نتيجته ولادة ابنة اثارت بدورها مشاكل جديدة لي حيث أصبحت مثار نزاع بيني و بين أمها " . حاول علي البحث عن زوجة جديدة من بنات الجالية التونسية والعربية ليواصل معها مشوار حياته لكنه لم يأخذ بعين الاعتبار " واقع قلة الثقة السائدة بين أفراد الجالية و الانغلاقية المنتشرة بينهم " و اكتشف عدم وجود أي فرصة للتعرف على عربية للزواج منها ، " فالكثير يفضل إعادة بناتهم للوطن حتى لا يجرفهن تيار الثقافة السائدة التي لا مكان فيها للعائلة أو التقاليد أو القيم الحضارية " . و جد علي نفسه تائها يصعب عليه المضي قدما أو التراجع إلى الوراء و هو الذي تطلع دائما لان يكون جزءا من المجتمع الذي يستضيفه و الذي منحه الجنسية و لا يزال يعامله كالاجنبي كالمهاجر و كالغريب . " و كيف لا ينتابني هذا الشعور و أنا في كل مرة أدخل فيها مطار ايطالي يعاملني رجال الشرطة و الحدود و كأنني أجنبي لا يحمل جواز سفر ايطالي . كيف يمكن لي أن يتقبل رفض القنصلية الايطالية في تونس منح تاشيرة سياحية لشقيقتي و صديق لان وثيقة الدعوة التي وجهتها إليهما لا يعترف بها لدى السلطات المختصة " . و للتغلب على هذا الرفض الخفي من قبل مواطنيه الايطاليين فكر علي في " العودة إلى الجذور التي انحدر منها و انقطعت عنها و الغوص في تاريخي و ثقافتي الاصلية بحثا عن الخلاص ، بعد ان وجدت نفسي في خندق العربي و المسلم المقيم في الغرب و المضطر للدفاع عن نفسه أمام جرائم مزعومة لم يرتكبها مطلقا " . و مقارنة بعصر الماكافية في امريكا الخمسينات الذي كانت تقام فيه محاكمات عشوائية في من كان يشك في توجهاته الشيوعية أصبح علي في القرن الواحد و العشرين و الكثيرون مثله المقيمون في أوربا " ارهابيين افتراضيين ، كلهم بدون تمييز خلايا ارهابية نائمة محتملة ، و على استعداد للقيام بأعمال ارهابية رهيبة ينظر إليهم بخوف وريبة ، إنما لم يكن باحتقار " . و من المؤكد أن تصميم علي على مواصلة رحلته مهما يكن من الامر رغم كل الهزائم التي اضطر لتجرعها خلال السنوات العشرين التي قضاها في منفاه الاختياري ، لم يصنع منه شهيدا أو أحد أبطال العصر الحديث كان قد مزق تذكرة العودة للوطن منذ أمد بعيد و قرر أن يدفن في مقابر المسلمين في بريمابورت . و لكن قبل أن يختتم رحلته عاود ملاحقة احلام جديدة " الحلم بتوقف جموع المهاجرين التي لا تنفك تزحف نحو السراب الذي اسمه أوربا " و الحلم بأن لا يرى بعد اليوم " القوارب المتهالكة و الممتلئة بالمحرومين في الارض و هي تغرق أمام السواحل الاوروبية " . و الحلم بألا يسمع بعد اليوم " بسن قوانين جديدة ضد المهاجرين لانه لن يكون هناك مهاجرون بعد اليوم ، مهاجرون يتدفقون على الغرب " و " أن لا يكون هناك سفر بدون عودة بعد اليوم " كل هذه الاحلام لم يجرؤ علي أن يجهر بها أبدا بين الاحياء في بلد المهجر بل كان يهمس بها لمعشر الاموات بين القبور شواهد القبور في كل يوم يصطحب فيها ابنته إلى مقابر المسلمين في بريمابورتا .