استقبلت تونس سنة 2008 بالعديد من الأحداث المهمة التي تجعل الأيام القادمة حبلى بالكثير من الانتظارات والتوقعات والهواجس لدى الحكومة كما لدى المعارضة والمواطن. وودّعت البلاد سنة ماضية بكثير من الألم والأمل في مستقبل يأتي بالأفضل. فرغم بعض النجاحات الاقتصادية التي شهدت بها بعض الصناديق الدولية، ورغم الاستثمارات الضخمة التي ميزت المشهد الاقتصادي في الأشهر الأخيرة، فإن المواطن التونسي لم تتحقق رفاهيته الموعودة، ولم يقع حل معظلة البطالة المستفحلة في صفوف أبنائه، وخاصة من حاملي الشهادات. كما ازدادت بعض الفئات والعائلات، وخاصة في ولايات الجنوب الغربي والشمال الغربي فقرا وتدهورا في المقدرة الشرائية مع زيادة الأسعار بشكل دوري وخاصة في المواد الأساسية. وهو الامر الذي دعا الاتحاد العام التونسي للشغل في بيان يوم 5 يناير/جانفي الماضي إلى التعبير عن بالغ انشغاله إزاء الارتفاع المتزايد للأسعار ولنسبة التضخم في البلاد، وما أدت إليه من إضعاف للمقدرة الشرائية. أما على المستوى السياسي والأمني فالأمر يبدو أخطر من ذلك، وإن كنا لا نفصله نهائيا عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي. فقد انتهت السنة الماضية بمواجهة مفجعة بين قوات الأمن ومجموعة "أسد بن الفرات" في سليمان، ومازالت آثارها الأمنية والسياسية والقضائية متواصلة حتى الآن في الطور الاستئنافي. وقد أعقبت هذه المواجهة النادرة حملة شعواء من الإيقافت المتواصلة إلى اليوم طالت قطاعات كبيرة من الشباب، شملت كل جهات الجمهورية من بنزرت حتى بنقردان. ولم تراع هذه الحملة التثبت في التهم أو الحرمة الجسدية أو البعد الإنساني أو القانوني، بل كانت تتم في كثير من الاحيان على الشبهة، ولأبسط الأسباب، مما سبب الكثير من الألم للعائلات التونسية، التي انهمرت فيها دموع الأمهات أنهارا على فلذات أكبادهم، دون معرفة بمصيرهم، وحزنا على ضياع مستقبلهم (مع العلم أن جلّ أعمار الشبان الموقوفين تتراوح بين 18 حتى سنة 30). ويستحق هذا الحدث من الجميع وقفة تأمل، من الحكومة ومن المعارضة ومن النخبة ومن الشباب المتدين، الذي اختار نهج التشدد، لما في ذلك من أهمية قصوى في قراءتنا للمشهد التونسي وللتخطيط لمستقبل آمن للبلاد. ورغم ما في المشهد السياسي من قتامة، وخاصة مع تواصل الانغلاق والحصار المضروب من السلطة على قوى المجتمع المدني، واعتقال الزميل سليم بوخذير، واستشهاد السجناء السياسيين السابقين أحمد البوعزيزي والمنجي العياري والطاهر الشاذلي، وتواصل معاناة السجناء السياسيين، وعائلاتهم ، فإن المشهد فيه الكثير من الحركية التي تنبئ بقدرة المجتمع التونسي على التحرر من ربقة الشمولية والاستغلال الاجتماعي، ومحاولة الالتفاف على نضالات الشعب التونسي. فقد شهدت الأشهر الأخيرة العديد من النضالات المشهودة على المستوى الاجتماعي، والتي تعكس بشكل واضح تبرم الناس من السياسة الحكومية، التي لا تراعي مصالح المواطن، الذي طال انتظاره للفرج. وكانت بعض المحطات كالعادة بإمضاء النقابيين أو رابطات العاطلين عن العمل والمحامين والجمعيات الحقوقية. وكان آخر حدث شهدته الأيام الماضية إضراب أساتذة التعليم الثانوي لمدة يومين، والذي حقق نجاحا يصل إلى 70% على المستوى الوطني. وسبق هذا الإضراب تحركات عديدة شهدتها ساحة محمد علي، ومن أهمها إضراب الجوع الذي خاضه الأساتذة المطرودون محمد المومني وعلي الجلولي ومعز الزغلامي، والذي وجد التفافا كبيرا من قبل النقابيين في مختلف جهات الجمهورية. كما شهدت منطقة الحوض المنجمي بجهة قفصة تحركات شعبية نادرة، وصلت إلى حدّ التخييم ومنع النشاط المنجمي، احتجاجا على نتائج مناظرة دخول إلى شركة فسفاط قفصة، والتي شابتها العديد من التجاوزات. ويكشف هذا الحدث حجم البطالة، الذي تعاني منه الجهة والغضب الدفين من تصرفات السلطة الجهوية والبيروقراطية النقابية الموالية لها، والتي تقتسم المغانم وتبيع الوظائف للموالين ولمن يدفع أكثر. نقابة الصحفيين من جهة أخرى مثل المؤتمر الأول للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين مفاجأة للسلطة وللملاحظين، بعد سقوط الأسماء المرشحة والمدعومة من قبل الحكومة، وصعود أسماء مستقلة وشابة إلى الهيئة التنفيذية، بعضها يصل إلى هذا المنصب لأول مرة. وحصد الزميل ناجي البغوري، الذي كان الصوت الوحيد المستقل في الدورة الماضية لجمعية الصحفيين على أعلى الأصوات، في حين لم تستطع أسماء معروفة بعلاقتها بالحكم مثل الهاشمي نويرة ومحمد بن صالح الحصول على أصوات تؤهلها للصعود إلى قيادة نقابة الصحفيين. ورغم أن بعث هذه النقابة بعد تصفية الجمعية جاء لسحب البساط من تحت النقابة المستقلة، التي يقودها الزميل لطفي حجي، والتي سعت السلطة إلى ضربها بكلّ الطرق، إلا أن النتيجة غير المتوقعة، وصعود أسماء مستقلة، يمكن أن يحقق الكثير من المطالب المهنية والمعنوية للصحفيين خلال المدة القادمة. وربما سيكون من المفيد وجود نقابتين تتنافسان على خدمة مصلحة الصحفيين، وتطوير المشهد الإعلامي التونسي. وقد أكد لي بعض الزملاء الجدد في الهيئة التنفيذية الجديدة خلال اتصالي بهم حرصهم وحماسهم الكبير للنضال بشكل مدروس، من أجل تحسين وضع الصحفيين المادي، والنضال من أجل توسيع هامش حرية التعبير. ومن دون شك فإن الكرة الآن في مرمى الزملاء الجدد في الهيئة التنفيذية للنقابة، والتي ينتظرها عمل كبير، نتمنى أن يوفقوا فيه. وفي الحقيقة فإن هذه النتيجة جاءت بقرار انتخابي من القاعة الصحفية، التي ملت الوعود، وكرهت الأسماء المنافقة، التي كانت تبتسم في وجوه الصحفيين، دون أن تحقق لهم أدنى فائدة تذكر. ولم يكن أمام أكثر من 700 صحفي، ومنهم الكثير من المنضوين في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم، أو الذين يشتغلون في مؤسسات إعلامية رسمية إلا معاقبة القيادة السابقة على ركونها للموالاة، وعقد الصفقات، واختيار هيئة جديدة يعتقدون أنها الأقدر على تمثيلهم في المرحلة الحالية. ويكشف هذا الاختيار الذي لم يكن متوقعا عن وعي جديد لدى الصحفيين بضرورة الدخول في مرحلة نضالية تهدف إلى تحقيق كرامتهم، ومشاركتهم في مؤسساتهم الإعلامية، وتحسين وضعهم المادي المتردي، وفتح صفحة جديدة من حرية التعبير والصحافة التي نحتل فيها فيها أرذل المراتب في المنطقة العربية والعالم. الحريات محور النضال ربما لم يتغير المشهد السياسي التونسي كثيرا، ولكن كثرة الملفات السياسية والحقوقية المطروحة، والتي تلتف حولها اليوم العديد من القوى والأحزاب، يجعل من المرحلة الراهنة، حسب اعتقادي، مرحلة انتقالية يحاول فيها النظام كسب الوقت، وتحاول فيها قوى المجتمع المدني، على ضعفها، تحقيق مكاسب حقيقية للشعب التونسي طال انتظارها. ورغم التشتت الذي مازال السمة الغالبة، للأسف، على قوى المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، إلا أن ما تحقق من تنسيق ونضال مشترك، سواء في هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات، أو في الجمعيات الحقوقية المناضلة، بدأ يرسم الطريق الأسلم للوصول إلى بر الأمان، وهو تكوين جبهة سياسية ومدنية واسعة، من أجل تحقيق الحريات، والكرامة للشعب التونسي، والدخول بالبلاد في مرحلة تكون الديمقراطية والعدالة واستقلالية مؤسسات الدولة، واحترام الدستور والقانون هي عناوينها الرئيسية. وقد مثل توسيع أرضية عمل هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بإضافة ثلاث نقاط جديدة هي مقاومة الفساد، واستقلال القضاء، والنضال من أجل شروط عادلة للانتخابات، لبنة أخرى في طريق بناء مثل هذا التحالف أو الجبهة، التي لم تأخذ بعد شكلها النهائي. وبإضافة هذه النقاط الثلاث إلى الشعارات التي رفعتها الحركة منذ بدايتها، وهي العفو العام وحرية الإعلام وحرية التنظم، فإن الهيئة تأخذ على عاتقها مهمة تحرير الشعب التونسي، وتوفير كل شروط العزة له في هذه المرحلة من تاريخه. ويبقى على الهيئة أن تنفتح أكثر على الجانب الاجتماعي المهم جدا في هذه المرحلة، وأن تسعى إلى تشريك أكبر عدد ممكن من الفئات والقوى في تحركاتها القادمة. وقد كان بيانها ليوم 15 يناير/جانفي الماضي شاملا للعديد من القضايا الاجتماعية، ومن بينها إضراب الثانوي، وأحداث الحوض المنجمي، والاعتقالات في صفوف الطلبة في سوسةوبنزرت، بالإضافة إلى تنديدها بالانتهاكات ضد السجناء السياسيين السابقين والتشفي منهم، وسجن الصحفي سليم بوخذير، ورفض الأحكام الصادرة بالإعدام. أما الأحزاب المختلفة فيبقى آداؤها ضعيفا، وإذا كان الحزب الديمقراطي التقدمي قد حقق نصرا جزئيا في معركة المقرات، فإن بقية مكونات الحركة الديمقراطية والوطنية مازالت تعاني من ضعف الكادر الجماهيري، ومن ضبابية أهدافها النضالية، ومن ركونها إلى النضال السهل ونضال البيانات والمؤتمرات. استثمارات وفقر نجحت تونس، خلال الفترة الماضية، في جذب عديد الاستثمارات الخليجية والغربية، إضافة إلى الهبات والقروض من جهات وصناديق مختلفة. وهو ما جعل الملاحظين يقولون إن الحكومة التونسية تسعى لإقامة مشاريع جديدة خلال السنوات الخمس المقبلة، تراوح تكلفتها الإجمالية ما بين 50 و60 مليار دولار. وقد بدأت الاستثمارات الخليجية التي من المتوقع أن تجعل الحكومة مرتاحة في الفترة القادمة عندما فازت شركة «تيكوم ديج» التابعة لشركة دبي القابضة بصفقة شراء 35 % من رأسمال مؤسّسة «اتصالات تونس»، التي بلغت قيمتها 2,72 مليار دولار. ثم أعلنت مجموعة «بو خاطر» الإماراتية أنها ستنفّذ مشروعاً لإقامة مدينة سكنيّة وترفيهية ورياضية متكاملة على ضفاف بحيرة تونس الشمالية، باستثمارات تقدّر بنحو 5 مليارات دولار، كما خطّطت شركتا «الدار العقارية» و«صروح العقارية» الإماراتيتان، لاستثمار نحو 5,5 مليارات دولار، لتطوير ضاحية أخرى من ضواحي تونس العاصمة، من خلال مشروع سياحي وإسكاني يتوقّع أن تتجاوز قيمته النهائية 11 مليار دولار. أما مشروع «تونس باب المتوسط»، فيعتبر أبرز المشاريع الاستثمارية الاماراتية في تونس وأهمها، ويوصف هذا المشروع الذي ستنفّذه مؤسّسة «سما دبي»، باستثمارات قدّرت بنحو 14 مليار دولار، بأنّه «مشروع القرن». ومن ناحية أخرى، أعلن «بيت التمويل الخليجي» البحراني عن رصده نحو 3 مليارات دولار لبناء «مرفأ تونس المالي الدولي» في الضاحية الشمالية، والذي يضمّ مركزاً للتداول، وآخر خاصّاً بشركات التأمين، وثالثاً للبنوك غير المقيمة، بالاضافة إلى مركز للشركات الاستشارية المالية. وإذا كانت هذه الاستثمارات الكبيرة التي ضخت في جسم الاقتصاد التونسي يمكن أن تنفس عن الدولة التونسية فإن السؤال يبقى مطروحا وبإلحاح: هل المواطن التونسي مستفيد من مثل هذه الاستثمارات أم إن أطرافا وفئات معينة وحدها المستفيدة؟ ولماذا تبقى نسب البطالة مرتفعة، وخاصة في أوساط الشباب المتعلم؟ ولماذا المقدرة الشرائية في تدهور مستمر والأسعار في زيادة متواصلة؟ ثم إن أغلب هذه الاسثمارات تتم في قطاع الخدمات والعقارات والسياحة، وهي مجالات جديدة، ولا يمكنها أن تغطي حاجة البلاد لمشاريع زراعية وصناعية هي محور الاستقلال الاقتصادي. ثم يجب أن نتساءل أين المسثمر التونسي من كل هذه المشاريع؟ وهل يجب علينا أن نخشى على بلادنا من رأس المال الأجنبي، خاصة إذا لم تكن هناك شروط وطنية تحافظ على ثرواتنا وحقوقنا المعنوية والمادية؟ وهذا الملف الكبير والمهم يجب أن يكون شفافا ومطروحا للنقاش بين كل فئات الشعب التونسي، لأن القضية تهم مستقبل شعب بأكمله، ولا تهم فقط نظاما ظرفيا، وعلى قوى المجتمع المدني والقوى السياسية أن تولي هذا الملف عناية كبيرة وأولوية في برامجها وخططها المستقبلية. تحالف تاريخي يظهر من خلال الملفات المطروحة اليوم على النخبة التونسية وعلى قوى المجتمع بصفة عامة، أن البلاد مازالت تعيش مخاضا عسيرا من أجل التنمية ومن أجل الديمقراطية والمساواة والعدالة. ونظرا لضخامة هذه الملفات وصعوبة حلها، في ظل تشتت وخلافات تشق قوى المجتمع.. منذ زمن بعيد. ولأن الخلافات والمعارك الايديولوجية لم تحل للشعب التونسي مشكلة، بل عمقت جروحه. ولأن التجربة أثبتت أن الأنظمة والقوى الاستعمارية تعتمد سياسية التفرقة والتشتيت حتى تحقق أهدافها. ولأن التجربة أثبتت أن كل تشتت ومعارك جانبية تنتج عنها هزائم ونكسات. ولأن النخب التونسية أو أغلبها على الأقل بدأت تعي حجم الأخطاء التي وقعت فيها فيما سبق، وتضررت منها جميع القوى. فإن الوقت قد حان لكي يفكر الجميع في تحالف تاريخي مدني وسياسي، يجمع كل الفرقاء أو أغلبهم، مهما كانت توجهاتهم وتجاربهم، من أجل هدف واحد هو تحقيق الحرية للشعب التونسي، والخروج به من حقبة الديكتاتورية وفسادها إلى الدولة المدنية وعدالتها، وعندها سيكون لكل فرد أن يعبر عن رأيه بكل حرية، وأن يدافع عن مشروعه دون تجريم أو تخوين.