هل هي القطيعة بعد المصالحة؟ سؤال يفرض نفسه بإلحاح بعد تصريح وزير الدفاع الوطني والقاضي بإلغاء التجنيد والتعيينات الفردية. وأرجع الوزير سبب هذا القرار إلى وجود حوالي 200 ألف شاب لديهم قضايا نظرا لعدم تأديتهم للخدمة العسكرية مبيّنا أن الدورتين الأخريين للتجنيد أحصتا تقدما طوعيا ل299 شابا فقط منهم 205 غير صالحين للخدمة العسكرية. وأوضح الزبيدي على هامش جلسة استماع في مجلس نواب الشعب بأن الاعتمادات الموضوعة على ذمة الوزارة لا تغطي احتياجاتها مشيرا إلى أنّ احتياجات الوزارة تُقدر بنحو 3109 ملايين دينار بينما تم تخصيص 2223 مليون دينار فقط لميزانية الدفاع أي بنقص يقدّر بحوالي 28 %. وفي معرض تفسيره لأسباب هذا القرار، ذكر الوزير أن المؤسسة العسكرية ستجد صعوبة في تأجير العسكريين خاصة مع وجود برنامج للتجنيد الاستثنائي يستوجب خلاص أجور المتكونين. وبالعودة إلى الرقم سالف الذكر فيما يتعلق بعدد الشباب الذين لديهم قضايا جراء عدم ادائهم للواجب الوطني، فانه يصح التساؤل حول أسباب تراجع إقبال الشباب وعزوفهم عن أداء الواجب الوطني والحال أنه في السنة الماضية كان الإقبال منقطع النظير. ففي شهر فيفري من السنة الماضية انطلقت حملة التجنيد الاستثنائية التي أعلنت عنها وزارة الدفاع الوطني من اجل انتداب أصحاب الشهائد العليا وغيرهم من الشباب في المؤسسة العسكرية بعد قضائهم لفترة التجنيد الإجباري وقد شهدت مراكز التجنيد إقبالا قدّر آنذاك بالآلاف. وعزا الخبراء في علم الاجتماع هذا الإقبال منقطع النظير في صفوف الشباب على أداء الواجب الوطني إلى الشعور بالانتماء وبجسامة الخطر المحدق بالبلاد مؤكدين وجود شحنة عاطفية جعلت الشباب يقبل على التجنيد وهي نفس الشحنة التي حركته خلال الثورة. قرار فريد في قراءته لهذا القرار أورد الباحث في علم الاجتماع العسكري طارق بلحاج محمد في تصريح ل«الصباح» أن الخدمة العسكرية الإلزامية تعتبر في تونس واجبا وطنيا وكذلك محطة تربوية وبيداغوجية في حياة الشاب نظرا لما تنميه من مهارات فكرية ونفسية وعملية. ونظرا لهذه الأهمية فقد خلّف قرار حذفها في تونس الكثير من التساؤلات والاستفهامات باعتبار أنه قرار فريد منذ نشوء دولة الاستقلال إلى اليوم. وفسر المتحدث انه إذا ما تمحصنا بروية في هذا القرار نعلم أنه ليس بتلك الخطورة رغم ما يخلفه من آثار خاصّة وانه جاء على خلفية اكراهات مالية تتعلق بميزانية وزارة الدفاع التونسية علما وأن هناك 19دولة حول العالم دون قوات مسلحة و95 دولة لا تتبنى الخدمة العسكرية الإلزامية وبالتالي فانه ليس بتلك الأهمية المبالغ فيها التي تظهر اليوم في وسائل الإعلام دون أن ينفي ذلك آثارها السيئة على تنشئة الشباب. من جانب آخر تطرّق المتحدث إلى تاريخ الخدمة العسكرية الإلزامية في تونس وأورد في هذا السياق أن المشرع التونسي اهتم بموضوع الخدمة العسكرية منذ الاستقلال وأصدر الأمر المؤرخ في 10 جانفي 1957 الذي اعتبر أول قانون منظم للخدمة العسكرية الدفاعية الفعلية. وجاء مصححا لما عرفته تونس في القرن التاسع عشر خلال عهد البايات حيث كان قانون الأجناد متعثرا لكن في القانون عدد 10 لسنة 1957 المؤرخ في 31 ماي1967 برزت فكرة أن الجيوش تعتبر الدفاع القتالي مهمتها الرئيسية لكن إلى جانب ذلك يمكن أن تسند لها مهمة إنقاذ البلاد من الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل والحرائق وغيرها. أما القانون عدد 18 لسنة 1975 المؤرخ في 19 فيفري 1975 فقد أصبحت مهمة الجيش بموجبه دفاعية وإنمائية ويمكن له أن يساهم في بعث المشاريع الفلاحية الصعبة وفي مقاومة الانجراف وتعبيد الطرقات ومكافحة التصحر، ودخل حينئذ مفهوم الخدمة الوطنية حيز الوجود كجزء من الخدمة العسكرية.. في حين يهدف القانون عدد 86 المؤرخ في 22 ماي 1986 إلى تعميق مبدأ الخدمة العسكرية حيث مكن المواطنين المجندين من المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فأصبح بموجبه، ينهي الشاب التكوين الأساسي العسكري ثم ينقل إما للعمل ضمن وحدة عسكرية، أو إلى الوحدات غير العسكرية كوحدات التنمية وبرزت للوجود عقيدة الدفاع الشعبي الشامل الذي هو انسجام بين العسكري المدني والشعبي. اما القانون عدد 51 المؤرخ في 14 مارس 1989 فقد ركّز على إجبارية الخدمة وألغى التجنيد بالحملات الأمنية وجعل الفصل في التخلفات إلى القانون.. وأشار الباحث في علم الاجتماع العسكري أننا نلاحظ من خلال هذا التدرج في قوانين الخدمة الوطنية أن القوانين تتغيّر بعد كل عقد من الزمن تقريبا (10 سنوات):1957 – 1967 – 1975 – 1986: لكن القانون 1/2004 جاء بعد عقدين من صدور القانون السابق له. وصدر دستور 2014 بعد 10 سنوات من قانون 2004. واعتبر المتحدث انه رغم هذه التشريعات وغيرها فان عدد الشباب المجندين سنويا لا يتجاوز بضع آلاف في السنة وهو ما يعكس خللا موجودا أصلا في منظومة التجنيد الإجباري قبل صدور القرار الأخير. حرمان من التأطير النفسي وحول الآثار المترتبة عن قرار إلغاء التجنيد أورد بلحاج محمد أن هذا القرار يمكن أن يحرم جزءا من الشباب من التأطير النفسي والمعرفي والسلوكي والمهني خاصّة أن الخدمة الوطنية بالنسبة للشباب هي عبارة عن مدرسة تساهم في تلقينه مبادئ حب الوطن وتنمي فيه روح المواطنة. كما أنها تساهم في صقل مواهب الشبان وتهذيب سلوكهم وتقوية روح المسؤولية لديهم وتعويدهم على الانضباط والصبر وقوة الإرادة وهي صفات وخصال يرى المتحدث أنها ضعيفة اليوم لدى شبابنا الذي ينقصه التأطير والتوجيه والإحاطة لاسيما وأن منظومتنا التربوية تلفظ سنويا مئات الآلاف منه فيتجه إلى الانحراف والإرهاب و»الحرقة»..