منذ فترة غير قليلة شرعت الأحزاب السياسية بكل أطيافها في إعداد العدة للانتخابات التشريعية المقبلة التي ما يزال يفصلنا عنها قرابة سنة كاملة، ما يفسر حدة الصراعات السياسية وسرعة التحولات في المشهدين السياسي والبرلماني وحالة التسابق والتلاحق والاستقطاب بين الكتل والأحزاب والماسكين بزمام السلط لتثبيت مواقعهم في ما يشبه حالة من الحملات الانتخابية المبكرة جدا قبل أوانها الشرعي والقانوني.. لكن اللافت للنظر أن السباق نحو التشريعية يوازيه أيضا سباق مبكر نحو «كرسي قرطاج» ما يؤكد أن المنصب ما يزال يغري السياسيين كما المستقلين بما أنه يظل رمزا للحكم والسلطة الأولى في البلاد في المخيلة الجماعية، ما يوحي بمنافسة شديدة مرتقبة قد تكون أشد وقعا وتشويقا من انتخابات 2014. ورغم أن بعض السياسيين وقياديي الأحزاب عادة ما يدفعون في تصريحاتهم الإعلامية بأن الخوض في أمر «الرئاسية» أمر سابق لأوانه، إلا أن ما يجري خلف كواليس السياسة يؤكد عكس ما يقولون. فبالتوازي مع انطلاق شرارة الصراع السياسي على خلفية الخلافات الحادة داخل الحزب الحاكم المتصدر للانتخابات التشريعية لسنة 2014 والذي برز أكثر وضوحا في مسرح البرلمان على وجه الخصوص، اندفعت الرغبة الجامحة في الظفر بمنصب الرئيس من عقالها، وطفقت الطبقة السياسية تخوض في موضوع الترشحات وبدأ معها جس نبض الأحزاب بتداول الأسماء والمرشحين الافتراضيين، فيما شرع بعض السياسيين وبعض المستقلين مبكرا، ليس فقط في إعلان ترشحاتهم، لكن أيضا في مغازلة الأحزاب الكبيرة وخاصة حركة «النهضة» في مسعى لكسب تأييدها ودعمها. كمال مرجان وقيس سعيد أوائل الراغبين لا بد من التذكير هنا بأن أول من أعلن رسميا من السياسيين ترشحهم إلى رئاسة الجمهورية هو كمال مرجان رئيس حزب المبادرة، وهو الذي قال في تصريح إعلامي يوم 24 اكتوبر الجاري أنه «سيكون سعيدا في صورة دعمه من قبل حركة النهضة وترشيحه كشخصية توافقية»، علما أن مرجان كان قد ترشح في رئاسية 2014، وهو معروف بخبرته الواسعة في مجال العمل الأممي (الهيئة الأممية العليا للاجئين)، وشغل مسؤوليات وزارية في عهد الرئيس المخلوع بن علي وفي حزب التجمع المنحل. بدوره، لم يستبعد القيادي بحزب «حركة نداء تونس» ناجي جلّول، في تصريح له يوم 26 أكتوبر الجاري، ترشّحه للانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019 دون أن يُقدّم موقفا واضحا من ذلك.. علما ان حركة نداء تونس في شكلها الجديد (بعد انصهار حزب الوطني الحر بقيادة سليم الرياحي) سيكون عليها تحديد مرشحها الأول للرئاسية مع وجود أكثر من مترشح مفترض للظفر بتزكية الحزب مثل سليم الرياحي الذي يشغل حاليا منصب الأمين العام داخل الحركة، أو حافظ قائد السبسي المدير التنفيذي.. فيما يظل ترشح الباجي قائد السبسي إلى الرئاسية لمرة ثانية أمرا غير مستبعد بالمرة وقد يقلب الأوراق ويخلطها في أية لحظة في صورة اتخاذه القرار في آخر لحظة.. كما لم يستبعد قياديون بارزون في حركة النهضة على غرار زبير الشهودي وعبد اللطيف المكي ترشيح الحركة لامرأة في الانتخابات الرئاسية المُقبلة في إشارة واضحة إلى سعاد عبد الرحيم شيخ مدينة تونس الحالية.. لكن النهضة مع ذلك لا تستبعد احتمال ترشيح عدد من الشخصيات البارزة في الحركة كرئيس الحركة راشد الغنوشي والأمين العام السابق (المستقيل) حمّادي الجبالي، فضلا عن نائبي رئيس الحركة عبد الفتاح مورو وعلي العريض.. كما أن دعمها لمرشح من خارج الحركة يظل قائما طالما أن الظفر بالمنصب سيكون محل تفاهمات وتحالفات سياسية لتقاسم الحكم بدأت تطبخ منذ الآن.. أما عن نوايا الترشح للمستقلين فقد كانت المبادرة من طرف الأستاذ في القانون الدستوري قيس سعيد، الذي أعلن منذ شهر سبتمبر الماضي عن نية ترشحه للانتخابات الرئاسية سنة 2019، فيما يتوقع محللون ومتابعون أن يتضاعف عدد المترشحين المستقلين لمنصب رئيس الجمهورية مقارنة بانتخابات 2014 التي شهدت ترشح حوالي 15 مستقلا. مرشحون مفترضون في الواقع، حتى لو أعلن بعض السياسيين والشخصيات العامة نية ترشحهم لمنصب الرئاسة، فإن هناك دائما مترشحين افتراضيين معلومين بالمنطق وعادة ما تقاس درجات حظوظهم حسب تأثيرهم الاجتماعي والإعلامي ووزنهم السياسي وتاريخهم النضالي ضد الاستبداد وإشعاعهم اللافت في الساحة السياسية من جهة، وبسبب مواقعهم المتقدمة في أحزابهم السياسية (أمين عام، رئيس، رئيس مؤسس..) مثل حمة الهمامي، نجيب الشابي، المنصف المرزوقي،.. من جهة أخرى، في حين تحتاج بعض الشخصيات على وجه الخصوص دعما مباشرا أو غير مباشر من أحزاب سياسية أو من برلمانيين.. علما أن القانون الانتخابي الحالي يشترط تزكية المترشح للرئاسية من قبل 10 من أعضاء مجلس نواب الشعب أو رؤساء المجالس المحلية المنتخبة، أو الناخبين المرسمين حسبما يضبطه القانون الانتخابي. إلى ذلك، لا يستبعد حضور لافت للمرأة سياسية أو مستقلة في انتخابات الرئاسة، فبعد سعاد عبد الرحيم، يظل اسم عبير موسي رئيسة الحزب الحر الدستوري والقيادية البارزة في حزب التجمع المنحل مرشحا قويا لهذا المنصب، فضلا عن أسماء أخرى مثل سامية عبو القيادية في حزب التيار الديمقراطي.. كما لا يستبعد إعادة بعض الشخصيات السياسية البارزة ترشحها للرئاسية مثل حمة الهمامي، الهاشمي الحامدي، المنصف المرزوقي.. او المستقلة مثل الصافي سعيد.. ورغم أن ضغوطا تمارس عليه لحمله على عدم الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، من قبل حركة النهضة على وجه الخصوص، فإن يوسف الشاهد رئيس الحكومة الحالي يظل مرشحا محتملا وبارزا وقويا لهذا المنصب خاصة أن استطلاعات الرأي تضعه في مرتبة متقدمة من بين الشخصيات السياسية الأكثر وثوقا. ومن غير المستبعد أن يكون مرشح كتلة «الائتلاف الوطني» بالبرلمان أو مرشحا من قبل أحد الأحزاب السياسية التي قد يساهم في تأسيسها لاحقا وربما ينال في نهاية المطاف دعما مشروطا من حركة النهضة في صورة التوصل معه إلى توافقات.. عين على الترشح وأخرى على التعديل الدستوري إن كان رئيس الجمهورية في دستور جانفي 2014 محدود الصلاحيات ويأتي تقريبا في مرتبة ثانية بعد رئيس الحكومة، فإن رمزية المنصب وإشعاعه وقوة تأثيره وحفاظه على مفاتيح حكم مهمة في سلم السلطة التنفيذية (الخارجية، الدفاع، الأمن القومي) وعلى صلاحيات مشتركة مع ر ئيس الحكومة مؤثرة في ميزان الحكم لكنها غير مطلقة ( التعيينات في المناصب العليا للدولة مثلا). لكن في مطلق الأحوال، فإن منصب رئيس الجمهورية سيظل ملهما لرجال السياسة والشخصيات البارزة والمؤثرة في تونس، وقد لا يختلف اثنان في أن عودة قوية لهذا المنصب ليكون رقم واحد في سلم المناصب والرئاسيات وفي هرم الحكم والسلطة التنفيذية، غير مستبعدة خلال الفترة الانتقالية الثانية، بما أن نوايا تعديل الدستور وتغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي معدل تدعم موقع رئيس الجمهورية وتزيد من صلاحياته، موجودة وعبّر عنها ليس فقط رئيس الجمهورية الحالي الباجي قائد السبسي في مناسبات عديدة، بل وسياسيون آخرون وخبراء ومفكرون ونخب مثقفة.. لكن هذه الرغبة تفترض وجود آليات دستورية ما تزال غائبة مثل المحكمة الدستورية، كما يتوقف نجاحها عند ما ستفرزه نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة التي ستظل محددة لموزاين القوى المستقبلية داخل البرلمان. حينها ستكون المعركة حاسمة بين مناصري التعديل الدستوري وبين المحافظين على الصيغة الحالية للدستور وبالتالي على الصيغة الحالية لنظام الحكم.. يذكر ان الانتخابات الرئاسية لسنة 2014 تقدم لها 70 مرشحا، قبلت منهم الهيئة المسقتلة للانتخابات 27 مترشحا، ورفضت 41 فيما انسحب مرشحان. وشهدت الانتخابات ترشح عدة شخصيات من النظام السابق مثل الباجي قائد السبسي وعبد الرحيم الزواري ومنذر الزنايدي وكمال مرجان ومصطفى كمال النابلي وحمودة بن سلامة ونور الدين حشاد، فيما لم تقدم حركة النهضة مرشحا للرئاسية، واكتفت بإعطاء الحرية للمنتمين له ودعوتهم لاختيار «الشخصية المناسبة التي ستقود المسار الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة» . يذكر أيضا أن من أبرز صلاحيات رئيس الجمهورية في الدستور الجديد تمثيل الدولة وضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية بعد استشارة رئيس الحكومة. كما يتولى حل مجلس نواب الشعب في الحالات التي ينص عليها الدستور، ويترأس مجلس الأمن القومي ويدعي اليه رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وكذلك القيادة العليا للقوات المسحلة. ويتولى إعلان الحرب وإبرام السلم بعد موافقة مجلس نواب الشعب بأغلبية ثلاثة أخماس أعضائه وإرسال قوات إلى الخارج بموافقة رئيس مجلس نواب الشعب والحكومة. وينص الفصل 77 على أن يتولى رئيس الجمهورية بأوامر رئاسية تعيين مفتي الجمهورية التونسية وإعفائه والتعيينات والاعفاءات في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها. وتضبط هذه الوظائف العليا بقانون التعيينات والاعفاءات في الوظائف العليا العسكرية والديبلوماسية والمتعلقة بالأمن القومي بعد استشارة رئيس الحكومة. وتضبط هذه الوظائف العليا بقانون تعيين محافظ البنك المركزي باقتراح من رئيس الحكومة وبعد مصادقة الاغلبية المطلقة لاعضاء مجلس نواب الشعب ويتم اعفاؤه بنفس الصيغة أو بطلب من ثلث اعضاء مجلس نواب الشعب ومصادقة الاغلبية المطلقة من الاعضاء. ولرئيس الجمهورية استثنائيا ان يعرض على الاستفتاء مشاريع القوانين المتعلقة بالموافقة على المعاهدات أو بالحريات وحقوق الانسان أو بالاحوال الشخصية والمصادق عليها من قبل مجلس نواب الشعب وغير المخالفة للدستور بناء على قرار المحكمة الدستورية كما يختص بالمصادقة على المعاهدات والاذن بنشرها واسناد الاوسمة والعفو الخاص..