على ايقاعات سمفونية المرارة والألم والحزن أحاول ان أعتصر حروفي لأتحدث عن فقيد الشعر العربي محمود درويش.. هذا الشاعر الذي تربطني به علاقات صداقة قديمة تعود الى بداية السبعينات وقد رسختها الايام في ذهني بفضل تلك اللقاءات التي كنا نعقدها على انفراد او مع الآخرين. منذ فترة وأنا أتتبع أتابع اخبار الحالة الصحية لمحمود درويش وكنا جميعا نتأرجح بين اليأس والأمل، والخوف يطل بشبحه علينا، داعين الله تعالى ان يساعده على اجتياز ازمته القلبية خاصة بعد ان اجريت عليه العملية الاولى في باريس. وظللت كبقية المهتمين أتابع أخبار محمود درويش الى ان التحق باحدى المستشفيات الامريكية وقد باشر السهر على صحته طبيب عراقي الجنسية، وهو الذي أكد وجوب اجراء العملية رغم خطرها. ويوم أن طالعت في صحفنا خبر نجاح العملية تفاءلت قليلا لانها جميعا اكدت فيما نشرته بان محمود درويش سيخرج من المستشفى بعد ايام وهو في صحة جيدة ولكنني في المساء صدمت بخبر وقاته من الاذاعات وتأكد بان العملية لم تنجح وان ذلك القلب الخفاق اصابته السكتة الابدية. وبعد فترة قصيرة رنّ الهاتف واذا بالاذاعة الثقافية تطلب مني حديثا مباشرا عن محمود درويش فتحدثت عن علاقتي به، وعن قيمته الشعرية، ومدى الخسارة الجسيمة التي اصابت الساحة الثقافية العربية بموته وما سيتركه بعده من اثر لا يمكن ان تنساه الاجيال القادمة. عرفت محمود درويش في البداية من خلال اشعاره التي كنت اطالعها على صفحات جريدة «الدفاع» في الاردن، وقد كان يصدرها صديقي المناضل ابراهيم الشنطي وذلك على اثر هزيمة 5 جوان 1967، وكنت آنذاك وصلت عمان كأول ممثل ديبلوماسي لتونس خلال شهر افريل، وكان مسرح المعارك قريبا مني من البداية حتى النهاية وأحسست وانا أطالع قصائد درويش بانه شاعر يختلف عن بقية الشعراء فشد انتباهي واحتفظت بقصائده، وادمنت على مطالعتها ورأيت فيها صدقا في التعبير وشحنة للأمل الذي يسعى المناضلون لتحقيقه. واكتشفت في نفس الوقت سميح القاسم وتوفيق زياد وتأكد عندي بان «شعر المقاومة» سيلهب دورا ايجابيا يمكن ان يحل محل البندقية وان يحقق انتصارا ملموسا على ارض الواقع.. ولعل هذا ما دفع صحيفة عربية لتقول: «من داخل ظلام الاحتلال الاسود خرج بصيص نور صغير، سرعان ما اتسع واصبح ومضات كبيرة بددت الكثير من السواد الحالك الذي خلفته نمسة الخامس من حزيران وراءها.. كانت بنادق رجال الفداء هي بصيص النور الصغير.. وكانت رصاصاتهم الملتهبة هي الومضات التي بددت الجانب الكبير من السواد الحالك. ومع الرصاصات التي كانت تنطلق من فوهة البندقية الملتهبة خرجت كلمات شعراء الارض المحتلة من الاعماق المكبوتة تهلل للأمل الجديد وتزغرد للفجر الذي اطل من الافق البعيد وتسطر صفحات جديدة من ملاحم المقاومة الرائعة. ولقد ارتفع اسم محمود درويش وتألق في سماء الشعر العربي مع زملائه واصبحت قصيدته رمزا للنضال وعنوانا للكفاح وهي بما تحمله شحنة تقلق العدو وتزعجه، وبسببها تعرض محمود درويش الى الاعتقال والسجن مرارا حتى ان ديوانه «عاشق من فلسطين» أكمله وهو قابع في زنزانته وانه رفم الاغراءات لم ينقطع عن مسيرته، وخطواته بقيت ثابتة على درب النضال. محمود درويش ناضل وقاوم وتعذب وصمد، وكانت روح التحدي تقوده في معركته، وتعرضه للسجن والاعتقال مرارا لم ينل منه ومن ارادته، بل زاده تصحيحا وعزيمة.. انه يختزن في اعماقه صورا من المعاناة لا يمكن ان ينساها.. والده قتله اليهود، وهو طفل، قريته «البروة» وهي تقع شرقي «عكا» دمرها اليهود عام 1948 وتشرد اهلها وقد قال محمود درويش: «كان الرصاص يتطاير فوق رؤوسنا» ولم افهم شيئا مما يجري بعد ليلة من التشرد والهروب وصلت مع احد اقربائي الضائعين في كل الجهات الى قرية ذات اطفال اخرين، تساءلت بسذاجة: أين أنا، وسمعت للمرة الاول كلمة (لبنان). بذلك ولد محمود درويش شاعرا وكما قال: «يخيل الي ان تلك الليلة وضعت حدا لطفولتي بمنتهى العنف فالطفولة الخالية من المتاعب انتهت واحسست فجأة اني انتمي الى الكبار». وبعد فترة عاد محمود درويش الى فلسطين مع عمه متسللا رفقة دليل لهما، ليجد نفسه في قرية «دير الاسد» وبعد ان كان لاجئا في لبنان، اصبح لاجئا في بلاده.. لينطلق نحو كل الافاق بشعره الذي سحر به الناس وشد ألبابهم وامتزج مع وجدانهم. واستمر سنوات يناضل داخل الحدود، يحرر في الصحف، وينتمي الى الجمعيات الثورية، ولكنه وبعد هزيمة 1967 بدأ يتململ ويحس بالاختناق، وبدأ هاجس الرغبة في الخروج من الوطن يراوده وحسبما قيل لي قاوم فكرة الخروج من منفاه داخل وطنه ولكنه اختار في النهاية الخروج الى الوطن العربي واخذ ينتقل من بلد الى بلد وهو يحمل قضيته من خلال شعره ويصدح بصرخاته المدوية التي مازالت تتردد في اذان كل ابناء هذه الدنيا وقد ترجم شعره الى عديد اللغات ونال الجوائز واقيمت له حفلات التكريم في كثير من العواصم. وفي تونس كانت له مكانته المرموقة واكبارا لمسيرته الوردية والشعرية قلده الرئيس زين العابدين بن علي الوسام الوطني للاستحقاق في قطاع الثقافة تقديرا لما قدمه من اضافات متميزة للشعر العربي. لقد اثارني محمود درويش بخروجه من ارض الوطن وهو يعرف ذلك واعتبرته آنذاك جنديا هرب من ساحة المعركة، وفي حين ابرقت له برسالة عنوانها «الى محمود درويش شاعر الأرض المحتلة سابقا» ونشرتها في «الملحق الثقافي» لجريدة «العمل» بتاريخ 11 جوان 1971 وكان لها الصدى الكبير في مختلف الاوساط الثقاية ومما جاء في رسالتي «لقد اشفقت عليك كما اشفقت على شعرك.. فلعلك نسيت قولك: وطني ليس حقيبه وأنا لست مسافر انني العاشق والارض حبيبه واذا بك عاشق تخون حبيبتك الارض، فتدفع قدميك في ضباب الضياع وانت تبرر موقفك المخجل بقولك «انا ان غيرت موقعي، فأنا لم أغير موقفي». وفي السبعينات زار محمود درويش تونس وسأل عني والتقينا في حفل تكريم اقيم في «الدار المغربية» بقرطاج على شرف المجاهد الفلسطيني الكبير محمد علي طاهر، وبرر لي الاسباب التي جعلته يهاجر ويخرج من ارض الوطن فتحول من «لاجئ فلسطيني في فلسطين الى لاجئ فلسطيني خارج فلسطين». واكد محمود درويش بانه يحمل قضيته حيث تنقل، واثبت بانه شاعر القضية الفلسطينية بكل جدارة مع زملائه الشعراء الذين بقوا داخل الارض المحتلة كسميح القاسم. ان بصمات محمود درويش ستبقى ثابتة على صفحات النضال الفلسطيني. ولا يمكن لاحدنا ان ينساه.. وبموته اعلن ولادته الثانية التي لا تعرف النهاية.