كانت النسمات ليلة الجمعة عزيزة جدا ونادرة والريح وكأنها هجرت المكان . وكان الجمهور الذي أقبل على مسرح قرطاج الأثري ليلتها بأعداد وافرة رغم حرارة الطقس والدرجة العالية من الرطوبة يتطلع إلى الأشجار المحيطة بالمسرح علها تتحرك أغصانها وتحمل البشرى بمرور نسمة باردة تخفف من وقع ذلك الطقس الخريفي الجاثم على الأنفاس ولكن النسمات كانت شحيحة. وحدها كانت الموسيقى في تلك الليلة الرمضانية تضفي على المكان شيئا من النداوة. العرض الذي شجع الناس على الخروج في هذا الطقس الصعب كان بامضاء رياض الفهري و هو من أحدث انتاجاته. يحمل العرض عنوان "أوتار تونيك " ويحمل كذلك بعض العناصر التي تثير الرغبة في الإكتشاف و الفضول لدى البعض. رياض الفهري معروف منذ عروضه الأولى وخاصة " المنارة والبرج " ثم " قنطرة" معروف بمشروعه الموسيقي الذي لا يشبه بقية المشاريع . نقطة الإرتكاز في هذا المشروع تتمثل في المزج بين مختلف الثقافات و بالتالي بين الموسيقات. بين ماهو غربي و شرقي بالخصوص. و قد تقدم خطوة كبيرة في هذا المشروع من خلال عرض "ريح 440 " الذي قدمه بمسرح قرطاج أيضا وجمع فيه بين الموسيقى الغربية الكلاسيكية وبين عدة أصناف موسيقية أخرى. الإنفتاح على الروح الآسيوية وأصبح جمهور رياض الفهري يتوقع أن كل عرض جديد لهذا الموسيقي يكون حاملا لعناصر جديدة تدعم تمشيه في مجال البحث عن خطاب موسيقي يعبر أكثر عن رغبته في التأكيد على عدم وجود حواجز وحدود بين الموسيقات مهما كان مصدرها بعيدا جغرافيا الواحد عن الآخر. لم يحد رياض الفهري مع عرضه الجديد " أوتار تونيك " عن منهجه بل توغل في حقل البحث أبعد من السابق وانفتح على موسيقى الشرق الأقصى والروح الآسيوية عموما. عبر عن ذلك بالقطع الموسيقية التي استمعنا فيها إلى ألحان قادمة من بعيد لكنها لم تكن غريبة عن أذن الجمهور ذلك أن الموسيقى بتلك البقع من العالم تشترك مع موسيقانا في روحها الشرقية في مفهومها الواسع و خاصة إذا ما قابلناها مع الموسيقى الغربية. كما عبر عن هذا الإنفتاح من خلال آهات الفنانة "يوشيكو تاكادا" التي أثارت موجة من التصفيق. لقد استلطف الجمهور بالخصوص لباسها التقليدي الياباني ومشيتها الخاصة جدا على الركح. اشتمل العرض على عدة فقرات. فقد كان يتكون بالأساس من قطع موسيقية و مجموعها 13 قطعة تقريبا ومن بعض الأغاني القصيرة من آداء مجدي السميري و نجم الدين الجزار. خصصت مساحة لإلقاء للشعر. إذ تدخل هشام رستم في مرتين ليلقي قصيدة في البداية باللغة الفرنسية ثم يعود لإلقاء بعض من شعر الراحل الكبير محمود درويش (من ديوانه لا تعتذر عما فعلت) وقد قابل الجمهور هذه التحية إلى روح درويش بتشجيع كبير. الفنون التشكيلية كانت أيضا حاضرة و انتهت بلوحة ضخمة أنجزت على الفور في لحظات قبل نهاية العرض من خلال استخدام التقنيات اليابانية في إلقاء الألوان بطريقة بارقة و متقنة لتنتهي بمشهد إنساني داع للسلام. ولعله وجب التذكير أن العرض الجديد لرياض الفهري وكما وقع الإعلان عنه من قبل أراده صاحبه أن يكون نشيدا للسلام وقد اشترك فيه مجموعة من العازفين والمؤدين من عدد من البلدان بالإضافة إلى تونس. نجد في المجموعة أسماء مألوفة سجلت حضورها في الأعمال السابقة لرياض الفهري. نذكر بالخصوص " بيدرو ايستاش " و" برانن جيلمور " وطبعا سليم الجزيري الغني عن التعريف. وفي المجموع كان هناك 15 عازفا من جنسيات مختلفة أوروبية وأمريكية ويابانية دون احتساب قائد المموعة رياض الفهري. مجموعة الآلات الموسيقية التي تم استعمالها في هذا العرض تستجيب لمختلف الأذواق و كان العرض يجمع بين ما هو موسيقى لحنية و بين ماهو موسيقى وترية وايقاعية. الجمع بين آلات النفخ و الأوتار وآلات الإيقاع جعل العرض يراوح بين مختلف الألوان. كنا أحيانا في القطعة الواحدة نمر بين عوالم مختلفة ومتباعدة. تارة يصلنا لحن مألوف وتارة أخرى تحلق بنا الموسيقى في أجواء بعيدة ولكنا لم نكن نشعر بالغربة مع كل القطع التي تم تقديمها ذلك أن صائغ هذا العرض يملك من الذكاء ما يجعل موسيقاه بقدر ما هي منفتحة على مختلف الموسيقات تعطي الإنطباع بأنها موسيقى محلية ومألوفة. كانت بعض المقاطع خاصة لمن يهوى الألحان الشجية النابعة من القيثارة أو الفيولونسال أو الأكارديون وطبعا القانون لحظات ممتعة وتطرب لها الأنفس. فرقة الجيش الوطني في مشهد نادر على المسرح الروماني الجمهور يجد نفسه بالطبع أكثر كلما استمع إلى نقرات الدربوكة ويتفاعل مع أوتار العود الذي يكاد لا يفارق رياض النهدي والذي يجد له مكانه في كل العروض مهما أوغلت في الكلاسيكية الغربية على غرار عرض ريح " 440 ". وكلما اجتمعت بعض عناصر التخت العربي في هذا العرض إلا وهناك من عادت به الذكرى إلى الأجواء الشرقية والعربية القديمة و حانت منه لحظة حنين إلى ما تربى عليه من ألحان وأصوات لكبار المطربين العرب. موسيقى رياض الفهري لا هي شرقية ولا هي غربية. هي تمزج بين هذا وذاك و تعمل في كل مرة على إدخال نفس جديد. تستفز المستمع وتنشط ذاكرته و تحث الأذن على ترك خمولها حتى تستطيع أن تميز بين هذا اللون وذاك. إنه مشروع لا يخلو من تحد وليس في مأمن من النقد وخاصة من هؤلاء الذين يفضلون عدم الإختلاط بين الأجناس و لكن رياض الفهري يمضي في تجربته قدما غير مستعد على ما يبدو على التراجع عن هذا المشروع وحامل في كل مرة تحد جديد. الجديد الجديد في هذا العرض الذي يكشف عنوانه عن فلسفته بالكامل و إن أردنا تحيلنا تسمية " أوتار تونيك " إلى تلك المقابلات المتعددة التي تحكم الحياة من بينها القديم والحديث، الشرق والغرب، القوة والليونة إلخ... يتمثل هذا الجديد في دعوة أوركسترا الجيش الوطني التونسي للمشاركة في العرض . وقد حلت الفرقة بلباسها المعروف الخاص بالإستعراض وبمختلف آلاتها الموسيقية وعناصرها لتقدم قطعتين صحبة مجموعة الفهري و كانت الأجواء على ركح المسرح بقرطاج مثيرة ومبهرة من خلال آداء فرقة الجيش الوطني وطقوسها المعروفة عند الدخول إلى المسرح وحين مغادرته لها و حركة أعضائها المتناسقة وانضباطهم اللافت للإنتباه أمام توجيه قائد الفرقة حتى أن الجمهور كان يصفق في كل لحظة بفعل الإنبهار بهذا المشهد النادر على مسارحنا. وكعادته في كل عرض جديد فإن رياض الفهري يضع في البرنامج قطعا من عروضه السابقة فكان الجمهور على موعد خلال سهرة الجمعة مع معزوفة " قنطرة" وكذلك سيدي بوسعيد (المنارة والبرج) وهي معزوفات سرعان ما يميزها من سبق له واستمع إلى أعمال الفهري. كان العرض متنوعا و ضم حتى للحظة بارقة شيئا من الموسيقى الطرائقية لبلادنا وتم فيه فمسح المجال لمساحات من العزف الفردي وقد انطلق بعد الحادية عشرة ليلا و تواصل حوالي ساعة ونصف وانتهى على ايقاعات تصفيق الجمهور الحار الذي خلناه للحظات قد نسي ثقل الطقس حيث أن الموسيقى في مثل هذه الحالات يكون دروها شافيا ولعله يجدر التذكير وكما تقوله السيرة الذاتية لرياض الفهري فإن هذا الأخير لا يؤمن فقط بالعلاج الموسيقي بل مارس هذا الإختصاص أيضا. كانت ستكون السهرة أفضل لولا رداءة الأجهزة الصوتية. قد يكون لأحوال الطقس بالطبع دخل في الأمر.