مسؤولة بمعهد الإحصاء تكشف عن عدد السكان وفق التقديرات الأخيرة    أبطال إفريقيا: تاريخ مواجهات الترجي الرياضي والأهلي المصري في القاهرة    فظيع: غرق شخص ببحيرة جبلية بجهة حمام بورقيبة..    قبلي: الإطاحة بمروج مخدرات وحجز كمية من المواد المخدرة    الكرم الغربي: حاول سرقة محل تجاري تحت طائلة التهديد بأسلحة بيضاء فوقع في قبضة الأمن    الشاعر مبروك السياري والكاتبة الشابة سناء عبد الله يتألقان في مسابقة الدكتور عبد الرحمان العبد الله المشيقح الأدبية    تونس : أنواع و أسعار تقويم الأسنان    بطولة الرابطة المحترفة الثانية: برنامج الجولة الثالثة و العشرين    هذه تأثيرات الأمطار الأخيرة على المراعي و الموارد المائية.. إتحاد الفلاحة يوضح    قريبا: انخفاض في أسعار الدجاج والبيض    علي باقري وزيرا للخارجية في إيران    تونس تسجيل 2500 عودة طوعية لمهاجرين أفارقة.    فقدان 23 تونسيا في سواحل قربة..وهذه التفاصيل..    ليلى عبد اللطيف توقّعت سقوط طائرة الرئيس الإيراني    التجاري بنك يوقّع اتفاقيّة شراكة إستراتيجية مع الصندوق العالمي للطبيعة بشمال إفريقيا    الأولمبي الباجي أمل جربة ( 2 1) باجة تعبر بعناء    العداء التونسي "محمد أمين الجهيناوي" يلتحق بركب المتأهلين إلى أولمبياد "باريس 2024"    اشادات دولية.. القسّام تتفاعل وإعلام الكيان مصدوم...«دخلة» الترجي حديث العالم    هام/ هذه نسبة امتلاء السدود..    بطولة اسبانيا: برشلونة يحرز المركز الثاني بالفوز على فايكانو    تونس تقدم التعازي في وفاة الرئيس الايراني    فيديو وصور يوثّقان المشاهد الأولى لحطام طائرة الرئيس الإيراني    سمير ماجول : ''القطاع الفلاحي هو مستقبل البلاد''    تونس تتوج ب 26 ميداليّة في المسابقة العالميّة لجودة زيت الزيتون في نيويورك    بداية من اليوم : إنطلاق تحيين السجل الإنتخابي للتونسيين المقيمين بالخارج    يهم التونسيين : اجراءات جديدة قد ترى النور تتعلق البنوك وغلق الحسابات    عصابة الاستيلاء على الأراضي الاشتراكية بقبلي .. تعود من جديد والنيابة العمومية تضرب بقوة    %70 معاملات في السوق الموازية.. قانون جديد لتنظيم التجارة الالكترونية    استدعاء ثلاثة لاعبين لتشكيلة البرازيل في كوبا أمريكا واستبدال إيدرسون المصاب    هذه أول دولة تعلن الحداد لمدة 3 أيام على وفاة الرئيس الايراني..#خبر_عاجل    تحذير من موجة كورونا صيفية...ما القصة ؟    في رحلة "الموت" .. السيراليوني "حاجي" مهاجر كألف وألف في البحر (بورتريه)    التوقعات الجوية لهذا اليوم الاثنين 20 ماي..    مجلس صيانة الدستور في إيران يعلن عن إجراءات جديدة عقب مصرع رئيسي    أريانة : انطلاق بناء قاعتي تدريس ومدرج بمدرسة النصر1 بتمويل من "فاعل خير"    المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بسيدي بوزيد تستعد للموسم الثقافي والصيفي 2024    القصرين : الوحدات العسكرية تشارك أبناء الجهة احتفالاتها بالذكرى ال68 لإنبعاث الجيش الوطني التونسي    المنستير: الدورة الثانية لمهرجان القريدفة، تأصيل للتراث المحلي لبني حسان    البرلمان : يوم دراسي حول انضمام تونس إلى بروتوكول اتفاقية المنظمة العالميّة للتجارة بشأن حقوق الملكيّة الفكرية المتصلة بالتجارة    نهائي "الكاف": حمزة المثلوثي رجل مباراة الزمالك ونهضة بركان    من هو المرشح الأول لخلافة الرئيس الإيراني؟    "دبور الجحيم"..ما مواصفات المروحية التي كانت تقل رئيس إيران؟    4 تتويجات تونسية ضمن جوائز النقاد للأفلام العربية 2024    هام: انخفاض أسعار هذه المنتوجات..    سفيرة الامارات في زيارة لصالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    القنصل العام للجزائر في زيارة الجناح الجزائري بالصالون المتوسطي للفلاحة والصناعات الغذائية    في عيده ال84.. صور عادل إمام تتصدر مواقع التواصل    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزيارة الأخيرة
أربعينية جورج عدّة:
نشر في الصباح يوم 09 - 11 - 2008

في يوم مشمس وزاه، ينذر بالتغيير، يحمل بصمات الصيف، ويلوح بتباشير الخريف، التقينا أنا وسالم رجب والأساتذة: المنجي العزابو، وهشام القروي، ومهدي المسعودي، لم نكن على موعد، ووجدنا أنفسنا على موعد، تحدثنا، عن عجل وعزمنا على زيارة جورج عدّة.
سمعنا أنّه متعب وأنّ متاعبه لا تشبه هذه المرّة متاعبه السابقة. ومن ثمّة كان الوجل. يبدو أنّ كلاّ منّا كان يشعر، ودون البوح للآخرين، أنه ذاهب لتوديع جورج الوداع الأخير، لإلقاء النظرة الأخيرة. وصل الموكب إلى تلك الفيلا الصغيرة المتوسدة عرش حدائق البلفيدير جوار معهد العالم الكبير باستور.
لقد خيل لي، يومها، أنّ الصمت، الذي يلف ذاك المكان المنزوي، أشدّ وطأة من المعتاد. بدا لي أنّ ذاك الصمت المطبق أشبه ما يكون بصمت القبور، وبدت لي الشمس، التي تلف ذؤابات جدران المنزل وستائره، قد فقدت تألّقها الصباحي. أصبحت أشبه ما تكون بشمس الأصيل. استأذنا للدخول، كنا نمشي الهوينا، وكأننا نأمل أن تطول المسافة التي تفصلنا بين باب الحديقة وباب المنزل.
استقبلنا الرجل، وعلى غير العادة، في مكتبه الصغير: منضدة وبعض كراسي تحتضنها جدران مكسوّة برفوف مكتبة صغيرة. لا ندري ما تزخر به من كتب، ووثائق، وصور، وتحف، وقد تكون بها أشياء صغيرة وحميميّة، ربّما كانت ستبوح، لو تناثرت بين أيدينا، ببعض من أسرار حياة هذا المعمّر، وربّما رسمت بعضا من ظلال حياة حافلة بالأحداث، مترعة بمتع النضال، بالأحلام والآمال، بالانتصارات والاخفاقات، بحكايا كبيرة وأخرى صغيرة، بمذاقات حلوة وأخرى مرّة، حياة مثخنة أيضا بالجراحات، والتمزقات، والعذابات. هذا الكل، من المتع والمعاناة، التي تطفح بها، عادة، حياة كل من ناضل ليكون مختلفا، كل من تجرّأ ليخرق الإجماع، كل من رأى أنّ الصواب ليس دوما قدر الجماعة. وجورج من هذه الفئة القليلة. أزعم أنّ مفتاح شخصية الرجل لا يمكن أن نعثر عليه إلا عبر هذا الطريق، أو بالأحرى لا يمكن أن نكتشف عنوان أصالة جورج إلا بمتابعة نضاله المتواصل من أجل أن يمارس، وعلى أرض الواقع، حق الاختلاف. كان يفعل ذلك دون تهوّر وأيضا دون حسابات، وتحسّب للتبعات.رغم عتوّ الايديولوجيا، رغم الجهاز الحزبي الطاحن، جاهد الرجل، وبقدر المستطاع، أن يحرم هذين الجبارين من حرمانه حق الاجتهاد، من اغتيال قدراته على الخلق والابداع. في خضم هذه المعارك الجارحة وطّن في نفسه خلق الصبر والمصابرة على احتمال الضيم، خلق الشجاعة على تحمّل شتّى ألوان المضايقات، والضغوطات، والاكراهات، ومختلف ضروب الارهاب الفكري والنفسي التي تمارس عادة على الأقلية، كلما تشبّثت بمواقفها، وأصرّت على الدفاع على ما تعتقد أنه الحق. لقد ضاق صدر أحد المسؤولين الكبار، ذات مرّة، من تصرفاته فصاح بغضب "فليذهب إلى الجحيم، لا مكان له في الحزب". ليس من اليسر أن تتحدّث عن شخص تعرفه ولا تعرفه، عايشته ولم تعايشه، عرفت مرحلة من حياته ولم تعرف مراحلها الأخرى. لقد رحل جلّ الناس الذين عايشوا هذا المعمّر، عندما كان في طور الخصوبة وموسم العطاء، من شاركوه أفراحه وأحزانه، من عايشوا نشواته وعذاباته. والصديق فتحي بن الحاج يحيى مُحِقٌّ عندما قال في تأبينه اللطيف لجورج "لقد تعودنا على أن نحب موتانا أكثر من أحيائنا وتبجل الميّت على الحيّ".
وفعلا لو كرّم جورج، أو غيره من رموز الحركة التقدّميّة أحياء لنفض بعض الركام الذي حجب عطاءات هذه الحركة واسهاماتها في مجد الوطن، وفي فعل الخير لأهله. ولرفع شيء من الإجحاف الذي لحقها ولايزال. لا شكّ أنّ جورج كان سيكون سعيدا لو شاهد صورته في عيون الآخرين وربّما سيكون التكريم فرصته الذهبية لنبش الماضي والادلاء بذكريات، وتفاصيل ثمينة من شأنها إثراء الذاكرة الوطنية.
كان لا بدّ من هذا الاستطراد المرهق لنضع الحديث عن جورج في نصابه، والآن نعود لنتابع قصّة الزيارة.
وجدناه جالسا خلف مكتبه، بدا لنا كما هو، نظرته الحادة، بريق عينيه، صوته الوقور، حركاته المتزنة، هدوءه المعتاد، كلّها تشي بذلك.
لكن خلف الاطمئنان الذي أوحى به المشهد، كان شعور يحوم في دواخلنا يسعى لتقويض ذلك الاطمئنان، شعور مبهم فجّره الصمت الذي لفّ المكان، بعد تبادل التحيات، ورنّت أصداؤه في الكلمات المتقطعة، والمحتبسة في الحناجر. بدوا كأنّ شيئا يجثم على الصدور، ويخنق الأنفاس. لا أحد لديه ما يقول، وربّما لا أحد يعرف ما ينبغي أن يقال وكيف يقال. توجه إلي جورج سائلا «أش ثمّ جديد؟» أجبت بذاك الجواب المعتاد لا جديد، خيّم الصمت ثانية ليقطعه الأستاذ المنجي، عندما خاطب جورج قائلا "لنعش قد ما عشت"، قالها بنبرة عالية، ملأى بالحيوية والثقة، وكأنه أراد إعادة الحياة للمشهد بدأ أشبه ما يكون بحالة احتضار. وكان الردّ المفاجأة، الردّ الذي هزّ النفوس، وقطّع أوصال المألوف: "لا أتمنّى لكم ذلك" كلمة اختزل بها كل شيء، قال فيها كل شيء، نحت بها وعلى عجل Son portrait وأهدى كلاّ منا نسخة منه.
لا تشي هذه العبارة، فحسب، بالآلام والأوجاع، التي كان يكابدها، وإنما تحيلنا قسرا على معاينة ما قد يكون عاناه من محن ومتاعب في المراحل الأخرى من حياته. لم ترسم فقط صورة الجراح التي كان يلملمها خفية، والأحزان التي كان يدوسها دون شفقة، والعذابات التي كان يقاسيها في صمت، وإنّما أفضت لنا بأسرار صموده وأثارت فضولنا لمحاولة المسك بذاك الخيط الرفيع، الذي وصل بين مختلف أطوار هذه الحياة المفعمة بالعناء والعطاء، ذاك الخيط، الذي به ندرك، أنّ شيخوخة الرجل ليست في الحقيقة سوى الوجه الآخر لشبابه.
تفاؤله المثير للانتباه، قدراته على مغالبة المرض، اصراره على مقاومة الوهن ومواصلة العطاء، انتصاره على دواعي اليأس والإحباط، إرادته أن يظلّ إنسانا مفيدا إلى آخر رمق في حياته، ما هي، في الواقع، سوى أصداء للقيم، والطباع، والعادات، التي اكتسبها في عنفوان الشباب وفاز بها في غمار النضال.
ما كان لشيخوخته أن تصطبغ بلون "الشباب" وتحافظ على معنى الحياة، لولا تلك الأصالة التى وسمت رصيده النضالي، وشكّلت ماهيّة شخصيته، ومنحته وبجدارة وصف المختلف. ذاك الرصيد الذي مكّنه من لملمة شتات الذات، وموّنه بتلك القدرات، وبرّر له الطموح في أن تحمل شيخوخته بصمات من شبابه وكهولته.
ينتمي جورج مثل العديد من شبان جيله إلى الفئة العصرية، التي تشبّعت بالثقافة الغربية، وآمنت بقيم الحداثة والتقدّّم واللائكيّة، تلك الفئة التي تبنت هموم صغار الناس، وانحازت لهذا السبب أو ذاك، ومن هذا المدخل أو ذاك، لفكرة العدالة الاجتماعية، فوجدت نفسها في دوائر الفكر الاشتراكي والشيوعي، وجدت نفسها، وبهذا القدر أو ذاك، في أحضان الماركسيّة. في معاشرة ماركس وأنجلز ولينين وستالين وأيضا في معاشرة تلاميذهم النبغاء منهم والأغبياء.
تمثل الفقيد، وفي العمق، هذه الإيديولوجيا كأرضية للحريّة والعدل فنذر حياته للاسهام، في زرع مبادئها، وتوطينها في وطنه. التحق جورج بالحزب الشيوعي، ولمّا يبلغ 20 ربيعا، كان ذلك في أواسط عقد الثلاثينيات، ذاك العقد الذي لاحت فيه إرهاصات تونس الحرّة والعصرية. في خضم أحداثه ولد الدستور الجديد، الذي افتك زمام المبادرة واضطلع بقيادة حركة التحرير. وفي عشية رحيله اندلعت أحداث 9 أفريل، التي شقّت طريق تونس إلى النصر. لكنّه لم يشهد هذا فحسب بل شهد ثاني محاولة لاقتة من الشيوعيين للالتصاق بهموم الوطن وإخصاب الفكرة الوطنيّة.
قصّة الشيوعيين مع بورقيبة تضرب بجذورها في ثلاثينيات القرن الماضي. لقد اخترق الأمين العام للدستور الجديد صفوف الشيوعيين، وكشف أو كاد، تهافت مقالتهم حول طبيعة الأحزاب الوطنية، تلك الأحزاب التي دأبت الحركة الشيوعية العالمية ومنذ مجازر شنغهاي الصينية (أفريل 1937). على نعتها بالاصلاحية والرجعية، وقذفها بتهم الخيانة ومهادنة الاستعمار. لقد نفضت الأمميّة أيديها من هذه الشلّة من الأحزاب ورفعت، بكل وثوقية وغباء سياسي أيضا، شعار "طبقة ضدّ طبقة" دون تأويل أو تخصيص.
صمود بورقيبة وثلة من صحبه في برج الباف، معارضته الحازمة لمواقف الجناح المهادن الذي كان يتزعمه الدكتور الماطري، إيحاءه بمواصلة الاحتجاجات على السياسة القمعيّة للمقيم بيرطون، تضافرت في مجموعها لتزعزع قناعات الشيوعيين، وتحملهم على مراجعة سياستهم حيال هذا الحزب.
اكتشف الشيوعيون، سواء من كان منهم في معاشرة المبعدين الدستوريين بالبرج أو من بقوا أحرارا، أنهم أمام حزب من نشأة أخرى. وتتبأوا أنّ الصراع الذي يشقّه. هو بصدد بلورة جناح راديكالي يساري، وصفه بعضهم بالثوري، وهو نعت أثير إلى نفوسهم لا "يتكرمون " به عادة إلاّ على الأحزاب التي تمتلئ بأيديولوجيتهم وتقتفي أثرهم. لقد خلصوا من كل ذلك إلى القناعة بضرورة دعم هذا الجناح، ودفع الأحداث في اتجاه بناء "حزب وطني ثوري" (تفاصيل وتحاليل مهمّة عن هذه الحقبة في مؤلفات الأساتذة مصطفى كريم، وعلي الحجوبي، والحبيب القزدغلي وغيرهم).
وتكريسا لهذا التوجه انضمّ الشيوعيون للحركات الاحتجاجيّة التي نظّمها الدستور، للمطالبة بعودة المنفيين، كما حاولوا التنسيق مع الدستوريين، لتجذير حركة الاحتجاج، ودعم صمود الصامدين. ما يعنينا في هذا السياق هو أنّ جورج كان في معمعة هذه الأحداث، على الرغم من صغر سنّه وحداثة عهده بالحزب. يذكر الأستاذ القزدغلي "أن الديوان السياسي الرابع ضمّ عناصر كانت لها علاقات شخصيّة وسياسيّة بالشيوعيين مثل مصطفى المؤدب وخاصة الهادي السعيدي الذي كانت تربطه علاقات حميميّة بجورج عدّه، والذي كان مسؤولا على طبع المناشير الشيوعيّة. وقد حدث أن تمّ استعمال أدوات الطباعة التي يملكها الشيوعيون لاستخراج مناشير دستوريّة"(1).
لكن لم تتواصل هذه العلاقات، ولا يمكن أن تتواصل، بعد أن شهدت سياسة الشيوعيين حيال القضية الوطنية، وعلاقتهم بحزب الدستور، ما شهدت من تقلبات وتناقضات وأزمات. عدّل الشيوعيون خطّهم السياسي ودعوا لبناء جبهة وطنية موحّدة، لكن بعد فوات الأوان. لقد بنى بورقيبة، بعد، جبهته، وهو واع تمام الوعي أنّ نجاح خطته، في ذروة الحرب الباردة، لا يتحقّق بالتحالف مع الشيوعيين بقدر ما يتحقّق بالتبرّؤ من الشيوعيّة، والشيوعيين. كان متيقنا أنّ ذلك هو جواز العبور لقلب زعيمه العالم الحرّ. لكن هذا لم يفتّ في عضد الشيوعيين، فقد واصلوا النضال ليجدوا أنفسهم، مرّة أخرى، في المنفى جنبا إلى جنب مع كبار قادة الدستور.
روى لي جورج: أنهم قضوا أمسية كاملة يتحاورون مع بورقيبة كان السؤال: أين تكمن مصلحة تونس، أفي التحالف مع الغرب أم مع الشرق؟ لم يكن بوسع أي طرف أن يقنع الآخر، كل منهما ينحدر من عالم يختلف عن العالم الذي ينحدر منه الآخر، كل منهما ينطلق من أرضية تختلف عن الأرضية التي يقف عليها الآخر، كل منهما يرسم صورة لتونس الغد تختلف عن الصورة التي يرسمها خصمه.
وعندما استنفذ الحوار أغراضه، ولم تبق جدوى من المزيد. خاطبهم بورقيبة ليقول "نحن شركاء في الوطن، هذه ورقة أمريكا، ودسّ يده بجيبه، فإذا نجحت بها ونعمت، وإذا فشلت فاخرجوا ورقتكم"، رواها جورج بنبرة تعبّر عن انبهاره بشخصية الزعيم. ولا غرابة في ذلك. فقد يكون وقف في ذاك اللقاء، على ذكاء الرجل وسرعة بديهته، وخبرته بالشأن الدولي، وبراعته في الحجاج والمناظرة، ولنقل باختصار وقف على معالم كارزمتية.
كان جورج فخورا بالاستقلال معجبا، أيما إعجاب، بجرأة بورقيبة ومنجزه الحداثي والتقدّمي، لم يتوان عن الإشادة بذلك كلّما سنحت الفرصة. إلاّ أن اعتزازه بمكاسب الدولة الوطنية، لا يضاهيه سوى إيمانه بضرورة مواصلة النضال من أجل المزيد. فهموم الوطن لا تنتهي، ونضال الشغالين والنخبة، من أجل التقدّم الاجتماعي، لن يتوقف. ولهذا السبب وذاك واصل النضال مع رفاقه القدامى والجدد، أجيال الحقبة الاستعمارية، وأجيال ما بعد الاستقلال. كان حاضرا معها وبجوارها، يتابع، يتضامن، يساند، باختزال، يشاركها معاركها من أجل الديمقراطية والحريات، من أجل العدل الاقتصادي والاجتماعي.
لكن اللافت في مسيرة جورج، هو تلك الحزمة من الرموز التي أثثت شيخوخته، فأضفت عليها مسحة من الروحية.
ما كان لافتا هو شعوره الحاد بضرورة أن يكون إنسانا مفيدا Un homme utile في كل طور من أطوار حياته، بما في ذلك هذا الطور، الذي يخلد فيه الإنسان عادة إلى الراحة، ويستسلم فيه لأوجاع الجسد، وتباريح النفس.
ما كان لافتا هو شعوره الحاد بضرورة أن يواصل الإنسان العطاء، أن يستمرّ ودون حساب، في إنفاق مخزون ما راكمه من معارف، وتجارب، وخبرات لخدمة الآخرين.
إنّ فكرة الإفادة، والبحث المتواصل عن المعنى، إنّ الحرص على الاسهام في توحيد القوى الديمقراطيّة والتقدّمية، إنّ الاحساس الباطن بأنّ رصيد الرموز حق مشاع للجميع، تشكل في مجملها، إحدى عناوين عقلانية الرجل وواقعيته. إنّها الخصال والحوافز التي قد تضيء بعضا من عتمات سيرته، والذي تميّز بالشح الشديد في الحديث عنها. لقد عرضت عليه، أكثر من مرّة، أن أشاركه في توثيق ذكرياته فأبى، ويبدو أن آخرين قد فعلوا مثلي.
فكرة الإفادة هي التي حفزته على الالتحاق، مجدّدا، بعالم العمل. لقد عزم الرجل على أن تكون نهايته أشبه ما تكون ببدايته. بدأ رحلته السياسية رفقة العمال والنقابيين، حمل قضيتهم ودافع عن حقوقهم. وأصرّ على أن يقضي أخريات سنواته النشيطة في معاشرتهم وبجوارهم. انتقل بمهجته إلى ساحة محمد علي، ذهب ليضع كفاءته، وخبرته، ومعارفه على ذمّة الشغالين، ومن تلك الساحة خاط البلاد، عرضا وطولا، يحادث العمال، يحاورهم، يسمعهم ويستمع إليهم، يفهمهم ويتفهمهم، لم يكتف بذلك بل أهدى قلمه لجريدتهم "جريدة الشعب". نهاية تحمل أكثر من دلالة، وتشيء بأكثر من سرّ، لقد فصّل الزميل فتحي العيّاري - عشيره في هذه المرحلة- فيها القول فأحسن القول. أشير فقط إلى التقرير الذي كان يعدّه في مطلع كل سنة، حول "تدهور المقدرة الشرائية للسميقار". يا حبّذا لو أنّ أحدا من اقتصاديينا، يتسلّم منه المشعل، ويواصل هذه السنّة الحميدة. أعتقد أنّ ذلك سينزل بردا وسلاما على جورج. لقد كانت هديته السنوية للشغالين.
أزعم أنّ اللحظة التي سلمه فيها السيد عبد السلام جراد الأمين العام للاتحاد "درع الاتحاد" كانت من أسعد لحظات حياته، لقد رمّزت للحميميّة التي تربطه بعالم العمل، وعبّرت، في الآن ذاته، عن اعتراف الشغالين بمآثره، وتقديرهم لخدماته الجليلة لهم وللوطن. كان جورج يكبر أيّما إكبار الاتحاد العام التونسي للشغل. كنّا ذات مرّة نتجاذب أطراف الحديث حول أزمات الحركة النقابية، والمشاكل والاشكاليات، التي واجهتها ولا تزال، فصمت فجأة وكأنّي به سرح إلى مكان بعيد ثمّ خاطبني قائلا "انظر يا طرودي، لقد لعب الاتحاد دورا محوريا في معركة التحرير، وفي صنع تونس المعاصرة، وسيبقى أمل تونس في الملّمات" قالها بنبرة ملأى بالاعتزاز والثقة بالمستقبل. إيمان جورج بأنّ رصيد الرموز الوطنية وإشعاعها حق مشاع للجميع، يتعيّن توظيفه لخدمة القضايا النبيلة، وإنارة السبيل، هو الذي يفسّر مثابرته على المشاركة في الندوات، والتجمعات والتظاهرات السياسية والثقافية.
لقد كان من مدمني "سيمينارات" الذاكرة الوطنية التي تنظمها مؤسسة التميمي، يتحدّث، يناقش، يعارض، يتساءل، لم يتخلف عن حضورها إلا بعد أن أقعده المرض، ورغم اشتداد المرض، وتحذير الأطباء بقي حريصا على المشاركة في المناسبات الكبرى، فقد أبى إلاّ أن يشارك في المظاهرة التي نظمت لمساندة لبنان في الحرب الأخيرة، وقف بضع دقائق في ساحة السابع من نوفمبر وعندما انطلقت المظاهرة قفل راجعا إلى بيته، وفعل ذلك في مناسبات أخرى. حرص جورج على الاسهام في جمع كلمة القوى الديمقراطية والتقدميّة على كلمة سواء، هي التي تفسّر تلك الشبكة الواسعة من العلاقات، التي نسجها مع المناضلين والنشيطين، على اختلاف مشاربهم الفكرية وتوجهاتهم السياسية.
تعرفت على جورج في مطلع السبعينيات استضافني إثر خروجي من السجن، ربطيتي الأولى بلغة (Récidiviste)، اجتمعنا حول الطاولة، جورج، وأنا وصالح، وليلى، وزوجته قلديس، التي أضفت ببشاشتها وحيويتها، مسحة من الحبور عن تلك السهرة.
تطرّق الحديث إلى شتّى المواضيع لكنّه تمحور، إذ لم تخن الذاكرة، عل حكايا السجن وذكرياته وعوالمه. عندما أنبش الذاكرة وأنزل ذاك الحديث في سياقه، يحق لي القول: أنه كان حديث التواصل والأمل، كان حديثا عن المنجز والمنشود.
شيخ من مناضلي حركة التحرّر الوطني يستحضر ذكريات السجون والمنافي. ويروي مآثر ذلك الجيل الذي كافح من أجل أن تعيش تونس حرّة مستقلّة. ويستمع في الآن نفسه، لذكريات سجناء جيل ما بعد الاستقلال وتحديدا في العهد البورقيبي، تلك الفينة من شباب تونس، التي رأت أنّ المعركة لم تنته، فعقدت العزم على حمل رسالة السلف ومواصلة النضال. لا يهمّ أكانوا محقين أم مخطئين، المهمّ أنهم كانوا مؤمنين، بأنّهم شركاء في الوطن، وأنّ من حقّهم قول كلمتهم في قضاياه، والاسهام في إدارة شؤونه مهما كان الثمن. كانوا مؤمنين، هم أيضا، بأنّ العسف وعذابات السجون ضريبة لا بدّ منها لتجسيد الحلم، حلمهم بتونس أكثر حريّة وعدلا، حلمهم بتونس أفضل وأجمل.
اللافت أخيرا لا آخرا في جورج، أنه بقي وفيّا، وخلافا للكثيرين، لشيوعيته. رغم سقوط جدار برلين وتنبّؤات منظري نهاية التاريخ، رغم كثرة الناعين لعصر الإيديولوجيات، رغم تزعزع إيمان غالبية البشر بالفكرة الاشتراكية: البعض أقرّ بهزيمتها، البعض الآخر تبرّأ منها، فريق ثالث مرّغ أنفها في التراب وكال لها سياط العذاب. جورج لم يصب بالهلع، لم يفقد اليقين، لم تنطفئ في قلبه شعلة الأمل، لم يغادره التوق إلى الأفضل. عاش واثقا بالنصر، ومات واثقا أن النصر النهائي سيكون حليف المستغلين والمضطهدين، وأنّ الإنسانية لن تعدمها السيل لتلبية أشواقها للحريّة والعدل ومن ثمّة فإنّ تكريمه هو في الواقع تكريم للأمل. لازمته هذه الأبجديات للفكر الشيوعي. وهذه الروحية التي ترشح منها حتى النهاية. يبدو وكأنّه استبطن في أعماقه تلك المقولة الشهيرة لماركس "إمّا الاشتراكية أو الهمجيّة".
جدّد هذا الالتزام وأعرب عن هذا التفاؤل في الحوار الذي أجراه معه الاستاذ محمود بن رمضان، بمناسبة الذكرى السبعين لحوادث 9 أفريل، وذلك عندما قال في معرض نقده لموقف الحزب الشيوعي من تلك الأحداث "كنت شيوعيا لا أزال شيوعيا":
Mais pour moi, qui étais et qui suis encore communiste, je ne peux qu'émettre un grand regret: mon Parti; officiellement, dans sa majorité, peut être relative, n'a pas pris sa part, n'a pas apporté sa contribution à cette grande bataille. Nous étions un petit nombre, un certain nombre de communistes qui considéraient le 9 Avril comme leur 9 avril, mais, malheureusement, ils n'étaient pas dans la majorité.
إنّ ثبات الرجل وتشبثه بإيديولوجيته ليس مظهرا من مظاهر التعصّب والدّغمائيّة. وأزعم أنّ مصدر اليقين يكمن تحديدا، في أنه لم يتعاط مع الشيوعيّة كعقيدة جامدة، أو كنموذج متحجر للاقتصاد والمجتمع، بقدر ما تعاطى معها كمرشد للعمل. لقد حاول النفاذ إلى ما هو جوهري فيها ألا وهو تحرير الإنسانية لتقرّر مصائرها بوعي، والتمكين للعدل في الأرض.
يبدو ذلك من انحيازه وفي أكثر من مناسبة، لمواقف الأقلية، وإسهامه في صنعها، تلك المواقف التي نزعت، بهذا القدر أو ذاك، صفة القداسة على تعاليم وسياسات الأمميّة الشيوعية، ووكلائها الإقليميين والمحليين. لم تكن ممارسة حق الاختلاف، أو حتى التململ، من إملاءات كبار القوم داخل الأحزاب الشيوعيّة، في ثلاثينيات القرن الماضي بالأمر الهيّن. "قصّة شيطنة الأمين العام للحزب الشيوعي التونسي علي جراد إحدى الشواهد على ذلك".
لقد كان القاموس الإيديولوجي والسياسي، أشبه ما يكون بالقاموس الديني. كان يحمل ذات الثنائيات "الإيمان/الكفر، المؤمن/الملحد، الحق /الباطل، العدل/الظلال، الاستقامة/الاعوجاج، الملاك/الشيطان". بعبارة مختزلة كان مشحونا بنفس الدلالات، والإيحاءات، والإحالات، والرموز، التي يزخر بها ذاك الخطاب رغم تناقض المرجعيات. جورج كان من بين الأقليات التي أباحت لنفسها، بهذا القدر أو ذاك، ضمن هذه الحدود أو تلك، الاجتهاد. أو بالأحرى حاولت انتزاع حقّ الاجتهاد. يبدو أنّه نسج، ومن هذا المدخل، تلك العلاقة الحميمية مع عقيدته والتي تواصلت حتى النهاية، فقد أبى إلا أن ترافقه إلى القبر.
غمره الأمل، سكنه الحلم وحتى النهاية. فقد أبى إلاّ أن يودع ذلك الحوار، وأظن أنه آخر حواراته، وصيته لشباب تونس "عليكم حمل المشعل، ومواصلة النضال، لتحقيق الديمقراطية، والحريّة والعدالة الاجتماعية، وإنّي على يقين أنّكم ستكسبون هذه المعركة".
لكل هذا سيبقى جورج حاضرا وبقوّة في تاريخ تونس المعاصرة، في ضمائر التونسيين وأيضا في ضمائر الفلسطينيين الذين حمل معهم حلم العودة وكان لهم نعم النصير. سيبقى حاضرا في ضمائر كل الشرفاء. لقد فتحت الكلمة/الصرخة، كما رأيتم، هذه النوافذ التي أتاحت لنا إطلالة سريعة على مسيرة الرجل، فلنغلقها إلى حين، ونعود لسرد أخبار تلك الزيارة.
صرّخ جورج ثمّ قال ما معناه: "لم يعد هناك ما يمكن إصلاحه، انتهى كل شيء" (ما معناه أنه في حالة موت) كان يتكلّم بهدوء وحكمة، فبدت الكلمات كوصيّة أخيرة، أو كتحيّة وداع. لقد غادره التفاؤل إذ لم يعد للتفاؤل من معنى. خبا الأمل إذ لم تبق أرض لينبت فيها، ومع ذلك كان في منتهى التوازن والثبات، والتماسك، والحضور. كان يواجه مصيره بكل وعي، كان يمارس حقيقة الموت، أو قل يعيش الموت، ويوطّن نفسه على الرحيل. انتهت الزيارة وقفلنا راجعين، دون أن يصاحبنا الاطمئنان الذي اعتاد أن يصاحبنا في الزيارات السابقة، هجره التفاؤل فهجرنا الاطمئنان. لم نتحدّث عما حدث، لم نعلّق على ما قيل، لكن نظراتنا وملامح وجوهنا كانت تشي بأنها الزيارة الأخيرة، كانت تقول وداعا جورج. بعد خمسة أيام، أو ستّة أيام، هاتفني سالم بن رجب ليبلغني نعيه.
الهوامش
(1) تطور الحزب الشيوعي التونسي ".ص204-205


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.