تونس الصباح: يمثل ملف التوقيت الاداري في تونس القائم على نظام العمل بالحصتين أحد أبرز الملفات المطروحة للدرس منذ سنوات، ولئن تمت جملة من المحاولات بحثا عن أسلوب جديد في العمل الإداري، وعملا على تغيير هذا النمط المعتمد منذ القديم، فإن هذه المحاولات لم تمس الجوهر منه، وبقي نظام الحصتين قائما ولو بإدخال تغييرات طفيفة عليه كما هو الحال مع التوقيت الحالي في بعض الادارات فقط. هذا الملف لا شك أنه ثقيل، وأن معالجته ليست بالبسيطة كما يعتقد البعض، بل له علاقات بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك بعلاقاتنا الدولية، وما إلى ذلك من المشاغل الكبرى والارتباطات المتعددة والمتنوعة داخليا وخارجيا. لكن السؤال الذي يطرح في مثل هذه الحال هو: إلى متى سنبقى نتشبث بهذا التوقيت ونظام العمل الاداري بالحصتين في زمن تخلت معظم الدول عنه؟ ثم بعد كل هذا هل تمت دراسة جدوى لهذا التوقيت على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، وخاصة على مستوى مردودية الادارة بناء على هذا النمط وفي ظل جملة التحولات الحاصلة في هذه المرحلة؟ العمل الإداري بنظام الحصتين والمردودية هل أن الإنتاجية التي يقدمها الموظف التونسي يوميا تتناسب أو تضاهي عدد ساعات عمله؟ وهل أن مردوديته في العمل تكون بنفس المستوى خلال الحصة الصباحية والحصة المسائية؟ هذا هو السؤال الرئيسي الذي لابد أن ننطلق منه للنظر في أهمية العمل بالحصتين من سواه، وللتفكير في ضرورة تغيير نمط العمل الاداري أم المحافظة عليه. كما تأتي بعد هذا السؤال الرئيسي أو المحوري أسئلة أخرى عديدة ترتبط بهذا الحيز الزمني الطويل الذي يقضيه الموظف في الادارة، وبمدى تلاؤم عذا التوقيت مع حاجياته اليومية، ومصالحه وارتباطاته الاجتماعية والاقتصادية والادارية باعتباره أيضا مواطنا له جملة من الظروف والحاجيات كغيره من الناس. وباعتبار أنه لا يمكننا أن نجيب على هذا السؤال الرئيسي المرتبط بمدة العمل اليومية ومردودية الموظف، على أساس أنها تتطلب بحثا عميقا، ودراسة شافية، ومتابعة عميقة، وتتفاوت أيضا من موظف إلى آخر، ومن إدارة إلى أخرى، فإن المطروح بخصوص هذا الجانب هو تقييم إداري ودراسة تقوم بها السلط المسؤولة في الوظيفة العمومية لتتبين على قاعدتها مدى جدوى العمل الإداري بالحصتين، وقيم مردودية الموظف داخله. أما بخصوص الأسئلة الثانية التي طرحناها فإنها تحيلنا بدورها إلى تساؤلات أخرى قد لا تنتهي. فهؤلاء الموظفين الذين يقبعون من الصباح حتى المساء وراء مكاتبهم هم أيضا مواطنون، ولهم حاجياتهم ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والإدارية وحتى السياسية، فمتى يهتمون بها، ومتى ينصرفون إلى قضاء شؤونهم كغيرهم من المواطنين؟ أليس بهذا النمط في عملهم الإداري، وطوال أيام الأسبوع نكون قد حلنا دونهم وقضاء شؤونهم الشخصية، وفي جانب آخر شجعناهم على التسلل خلسة من الادارة لقضاء شؤونهم الخاصة. وفي هذا الجانب يمكن أن نشير إلى الغيابات المتكررة للموظفين، وإلى عدم وجود العدد الكبير منهم في مكاتبهم أثناء ساعات العمل، وكثرة الرخص الخاصة بمغادرة مقر العمل، وعطل المرض، وغيرها من التعلات التي يسعى العديد منهم لتبرير غياباتهم عن العمل. إن هذه الغيابات والتبريرات التي يجبر الموظفون على القيام بها تحصل في كل يوم وساعة، وهم في الحقيقة مجبرون على ذلك، وليس لهم حل أمام حاجياتهم إلا اللجوء اليها. ولا شك أن أمام هذا الواقع اليومي تتلاشى مردودية عملهم أو تنقص بشكل هام، على اعتبار ما يمثله نظام العمل الاداري بالحصتين أمامهم من صعوبات في قضاء شؤونهم الخاصة. العمل الإداري بالحصتين وانعكاساته الاجتماعية الصعوبات الاجتماعية التي يعيشها الموظف التونسي متعددة الابعاد، ومتنوعة حيث تتصل بحياته الأسرية من ناحية، وبظروفه الخاصة في الحياة. فعلى مستوى الأسرة نجد العديد من أفراد العائلات يغادرون منازلهم صباحا ولا يلتقون داخلها إلا في الساعات الأخيرة من النهار. فالتلميذ أو الطفل يتوجه إلى المدرسة أو يودع في محظنة أو روضة، والأب والأم يتوجهان إلى العمل، وهكذا نجد كل يتناول فطرة بعيدا على الآخر، ويغيب ذاك الدفء العائلي اليومي التي يجمع بين أفراد الأسرة، ولا شك أن انعكاسته تكون مؤثرة خاصة على الأطفال الذين يبقون في انتظار يوم العطلة الأسبوعية ليشعرون بدفء الحياة الأسرية. كما أن الأب والأم كثيرا ما يجبرون على تناول الفطور في الشارع أو داخل مكاتب عملهم/ كثيرا ما يكون هذا الفطور مجرد أكلة خفيفة لسد رمق الجوع فقط. هذا الواقع الاجتماعي المضني يعيشه الآلاف من الموظفين، وقد يزيد أمرهم تعقيدا في ما يحدث من تقلبات للطقس، وما يتعرض له بعض أفراد العائلة من مرض، وما قد ينجر عن ذلك من ارتباك في السير العادي لحياة الأسرة بمرض أحدهم. وقد تحصل أيضا بعض الطوارئ الاجتماعية الأخرى، فتبعثر نمط حياتهم أيضا، وتحكم على الأب أو الأم بالاضطرار الى الانقطاع عن العمل لأيام ريثما تعود العائلة للتماسك من جديد وتتجاوز تلك الصعوبات التي مرت بها. صعوبات التنقل والنقل وحركة المرور. هذا البعد يمثل أيضا الشغل الشاغل لنسبة هامة من الموظفين، ويعتبر أحد أبرز معاناتهم اليومية. فبقطع النظر عن وسيلة النقل التي يستعملها الموظف تراه يجاهد من أجل التوفيق بين حضوره في العمل في الوقت المحدد والملائمة بين تأمين وصول الاطفال الى مدارسهم وامهم إلى العمل. فإذا كانت وسيلة النقل التي يستعملها عمومية، حافلة كانت أو مترو تراه يسعى وسط الزحمة إلى امتطائها دون تأخير، وغير مبال بما يعانيه من اتعاب لركوبها، واذا كانت له سيارة خاصة، فعليه أن يبكر في الخروج من منزله اتقاء لزحمة الطرقات، والاكتظاظ اليومي. أن هذا الواقع يرمي بثقله على آلاف الموظفين في كل يوم، فتراهم يسابقون الوقت كل صباح ليتلائموا مع متطلبات العمل وشؤونهم الحياتية. ولا شك أن هذا الضغط الذي يعيشونه ينعكس بشكل أو بآخر على مردوديتهم في العمل، وعلى سلوكهم، وحياتهم الخاصة، وطريقة عيشهم. وما لم يتغير نظمام العمل الإداري، والحفاظ على وتيرة العمل بالحصتين، فإن الظروف التي تحيط بالموظف لن تتغير. فهل يفتح هذا الملف بشكل واسع ونهائي لتنتهي معاناة الآلاف من الموظفين، وتتغير معه أساليب حياتهم، ونقبل أيضا على نهج جديد في التعاطي مع العمل يكون مواكبا للتطرات الحاصلة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية التي سبقتنا لها عديد البلدان باعتماد الحصة الواحدة؟