اكدت بعض الدراسات الرسمية ببلادنا ان التونسي عموما ينام لمدة 8 ساعات ويشاهد التلفزيون لمدة ساعتين على الاقل ولا يطالع اكثر من 3 دقائق يوميا وانا اضيف لاقول ان هذه الدراسات تناسبت او تغافلت عن حيز زمني كبير مهدور ذلك الذي يقضيه ابناؤنا التلاميذ بالمقاهي و«الكفيتيريات» وبعض الفضاءات الاخرى التي يسميها اصحابها بمراكز «البلاي ستايشن» او «البيبلينات» ولكنها ما ابعدها عن الابحار عبر «النات» فهي في حقيقة الامر اهدار للوقت وابحار في عالم الفشل والعنف والضياع والخيال المدمر. فكل هذه الفضاءات انتشرت كالفقاقيع احدثها اصحابها خصيصا بمحيطات المؤسسات التربوية لاستقطاب هذه الفئة من الشباب في غياب الرقابة الاسرية المطلقة وتلقينهم دروسا خصوصية في الكلام البذيء والاستئناس بممارسات غير اخلاقية لما يلاقونه بهذه الامكنة من اناس من مختلف الشرائح الاجتماعية فلماذا ترك التلميذ كتاب المطالعة جانبا وارتمى في غياهاب هذه الفضاءات؟ هذه الفضاءات استحوذت على كامل اوقات فراغ ابنائنا وهمشت تركيزهم واضرت بسلوكهم وألهتهم عن دروسهم ودنست تربيتهم وبدأت في التحطيم التدريجي لاخلاقهم واتلاف ما يتلقونه من وعظ وترشيد وتربية سليمة على مقاعد الدراسة. ان هذه الفضاءات عوضت قاعات المراجعة والمكتبات المدرسية التي كانت في زمن غير بعيد المكان والفضاء المفضل للتلميذ لقضاء اوقات فراغه للمطالعة والمذاكرة لازلت اتذكر وانا طفل بالمدرسة صدى بعض تلك النصوص الشيقة من كتب المطالعة ل: «جبران» و«نعيمة» و«المنفلوطي» و«جرجي زيدان».. وبعض ابيات الشعر لعنترة وامرؤ القيس والمتنبي وبشار ابن برد و«جرير» و«الاخطل» و«الشابي» وغيرهم من الشعراء الفواحل، هذه النصوص وهذه الاشعار طبعت وعينا وذوقنا بميسمها الى الازل، وقتها لم يكن احد منا يجرؤ حتى على المرور امام مقهى خيفة ان يرانا القريب او الكبير او المعلم. ومما زاد الطين بلة في جفاء التلميذ للكتاب تلك الاعلانات الدعائية الكثيرة والمتنوعة التي تبثها الفضائيات او التي تغطي الجدران والاسوار اينما جلنا بابصارنا فتفرض علينا فرضا قراءتها ومشاهدتها لما احتوت عليه من زخرف الكلام والالوان انها تشتمل على تعابير لغوية وذوقية منحرفة فلا هي اللهجة الدارجة التي يتكلمها اباؤنا ولا العربية الفصحى التي نعرفها ولا هي كذلك لغة اجنبية سليمة كما نتعلمها في المدارس، فهي خليط ومزيج مبتذل من استعمالات لغوية لا اصل ولا فضل لها تجلب اليها انظار التلاميذ فترسخ في اذهانهم وتصبح من مفردات قواميسهم واستعمالاتهم وتخاطبهم وربما يلتجئ بعضهم الى استخدامها في فروضهم المدرسية، فهل بعد ذلك يصح لنا ان نحاسبهم اذا اعوج اللسان واستهجن الكلام وابتذل المعنى واختل التركيب ورمى بكتاب المطالعة في سلة النسيان!!! فتلميذ اليوم قد عزف الكتاب لان هذا الكتاب لم يتغير ولم يواكب التطورات والتحولات امام هذا الكم الهائل من وسائل واشكال الاعلام ولم يعد يرغب في تصفح كتاب او مجلة او صحيفة وان فعل ذلك فلمجرد الاطلاع وبسرعة على اخبار الرياضة واللاعبين والفنانين. والغريب في الامر ان هناك من التلاميذ من يتبجح بأنه لم يقرأ في حياته وليس في يومه او في شهره ولو لدقيقة واحدة صفحة من كتاب مطالعة حتى ولو فرض عليه ذلك غصبا من طرف استاذه، فهذا امر مرهق ومزعج حقا في حقلنا التعليمي والتكويني لاعداد رجالات الغد. وبالتالي فلا غرابة ان تثبت هذه الدراسات ان المدة الزمنية اليومية التي يخصصها الشاب عامة في المطالعة لا تتعدى الثلاث دقائق. فكيف نرغب ابناءنا في التصالح مع الكتاب ونكف عن شكوى العزوف عن المطالعة؟ وما هو دور المدرسة في خلق اجيال تحافظ على الكتاب وتعشقه وتدرك اهميته وتتباهى بمطالعته؟ ما هي الاليات والادوات اللازمة لزرع حب المطالعة لدى التلميذ في زمن الانترنات والوسائط الرقمية الاخرى؟ هل فكرنا نحن جيل الكبار في تغيير شكل الكتاب ومسالكه؟ فنحن نصر وبالحاح شديد على ان نضع بين ايدي ابنائنا كتابا ورقيا في شكله التقليدي ونجبرهم على قراءته فيحسون وكأن مطالعة كتاب هو شكل من اشكال العقاب المعنوي، وبهذه الطريقة التعسفية سوف لن ننجح في ذلك في زمن متغير يتلقى اغلب جيله المعارف والعلوم عبر وسائل حديثة ومتطورة ووسائط معرفية اخرى غير وسائطنا نحن منها السلبي ومنها الايجابي، فكثيرهم تعود الابحار على «النات» للاطلاع على اسرار الكون وكنه المحيطات ويجوبون العالم طولا وعرضا في دقائق وبالتالي يطلعون على عالم الصحف والمجلات والبرامج والكتب والمكتبات «الفيس بوك» دون عناء. والسؤال هو: هل نحن نضع امامهم حقا هذه الوسائط والوسائل الحديثة لاستغلالها في دراستهم وترشيدهم للتواصل معنا حتى يواكبوا مجريات العصر ام اننا لازلنا في برجنا العاجي ننظر اليهم وهم ينحدرون الى الهاوية؟ وهل نحن فعلا نعمل على ترغيب ابنائنا في قراءة امهات كتبنا ومصادر معارفنا واصول ثقافتنا وعلمنا غير هذه الوسائط العصرية؟ وحسب رأيي ولترغيب التلميذ في المطالعة وجب علينا اتخاذ بعض الاجراءات العاجلة والملحة: العمل على التعريف بالمكتبات العمومية واهمية الدور الذي تضطلع به وذلك عبر وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة ترسيخا لعادة محمودة وممارسة ثقافية مستديمة. التكثيف من التظاهرات والحملات التحسيسية داخل الفضاءات التربوية والمكتبية وخارجها وبكل الطرق المتاحة. تعميم قاعات المراجعة بالمؤسسات التربوية وتأثيثها بما يلزم من الكتب والحواسيب. التكثيف من المسابقات الوطنية في اللغات (كمسابقة الاملاء باللغة الفرنسية التي تقوم بها وزارة الاشراف حاليا) او المسابقات الوطنية لابداعات الطفل بمختلف مراحله العمرية. تخصيص ايام للمطالعة والمعلومات في المدن والارياف على حد السواء وتخصيص حوافز لها تنظيم انشطة مختلفة محورها الكتاب في المناسبات الثقافية والاعياد الوطنية والدينية بمختلف الفضاءات التعليمية مزيد تنظيم دورات تكوينية لتدريب العاملين بالمكتبات وتأهيلهم لمواكبة التطورات في مجال علم المكتبات والمعلومات. تعصير الخدمات التي تقدمها المكتبات العمومية لروادها من التلاميذ وتجهيزها بالحواسيب المرتبطة بشبكة الانترنات وتعميمها في كامل جهات البلاد وذلك ليتمكن الشاب من اكتساب القدرة على القراءة الصحيحة المسترسلة والمنظمة والكتابة بخط مقروء وواضح وفهم بعض معاني النص الصريحة منها والضمنية واكتساب الزاد اللغوي الملائم ونمط الكتابة المقصود. صحيح ان هناك مجهودات ومحاولات لا يستهان بها في هذا المجال لكننا مازلنا بعيدين عن هذا الهدف المنشود. وليعلم المعرضون عن المطالعة من ابنائنا ان للكتاب دور كبير وهام في تعليم وتثقيف الانسان باعتباره من اقدم المناهل المعرفية والعلمية في مختلف المجالات، ورغم التطور التكنولوجي والاتصالي والاعلامي الهام يبقى للكتاب اهمية كبرى ومكانة رفيعة يحظى فيها بالتبجيل والاعتناء والاهتمام. لذلك خصصت الدولة جهودا في استحداث مؤسسات ثقافية مرتبطة بالكتاب مثل دار الكاتب وبيت الشعر والمؤسسة التونسية لحماية حقوق المؤلفين الى غير ذلك من المؤسسات التي تساهم في تعزيز حضور الكتاب والتشجيع على الاقبال عليه ومطالعته بالتنسيق مع عديد الاطراف الفاعلة كوزارة التربية والتكوين ووزارة الثقافة وجمعيات احباء المكتبة والكتاب والمنظمات المهنية لاتحاد الكتاب واتحاد الناشرين. وفي الختام وحتى لا اكون متشائما اقول ان لا خوف على الكتاب فهو سيظل موجودا جنبا الى جنب مع الكتاب الالكتروني وهواته ومناصريه وعشاقه ومطالعوه سيظلون موجودين لان هذه الثورة التقنية والرقمية سوف لن تستطيع القضاء عليه بمعناه المادي فهو اهم وسيط للعلوم واللغات والابداعات والصور فالامم والشعوب حققت ازدهارها ورقيها من خلال وجود الكتاب وتداوله بين الناس رغم ان الكتاب في هذا العصر يتحول احيانا الى تجارة ويتصف بالسطحية والسذاجة التي بدأت تكتسح محتوياته في بعض الاختصاصات وبالتالي لا يمكنني القول ان الكتاب في خطر او ان قراءته في نقصان لان الكتاب الورقي سهل في حمله وتناوله على خلاف الكتاب الرقمي فله اطاره ومكانه وتناوله يصعب في بعض الاحيان. وما علينا نحن الاولياء والمربين الا انتهاج سياسة مرنة وذكية لترغيب الابناء في المطالعة والاستئناس بها ترسيخا لعادة محمودة وممارسة ثقافية دائمة. (*) مدير المدرسة الاعدادية 2 مارس 1934 بالزهراء