أستاذنا، أو كما تعوّدنا أن نناديك: "عمّي الجيلاني". كثيرا ما عنّ لي أن أكتب إليك. ولكنّي لم أجرؤ على الكتابة ولو مرّة. وكثيرا ما تحدثت عنك في مجالس خاصّة من عمق نفسي ومع اشتعال جوارحي، ولكنّي لم أتحدّث عنك بحضورك وفي مناسبة عامّة إلاّ مرّة وحيدة: بمناسبة الاحتفال بحصولنا على الترخيص للفرع التونسي لمنظمة العفو الدولية. وها أنّي أجدني هذه المرة مدفوعا من داخلي لأن أكتب إليك، ولأن أرغب منك في أن تسمح لي بأن أنشر على الملإ ما أكتبه إليك. أمّا ما حرّك سواكني واستفزّ قلمي فهو صدور النشرة الجديدة من كتاب :"معركة الزلاّج (1911)" الذي وضعته منذ مطلع ستينيات القرن الماضي مع الكبير الكبير محمّد المرزوقي . عمّي الجيلاني، وأنا أقرأ الكتاب مجدّدا أدركت أنّني كنت قرأته عشرات المرّات. ولمّا أدركت ذلك أدركت أنّه كان لكتابك شأن هامّ في تكويني وأثر كبير على كياني. فأنا قرأت الكتاب يافعا، وقرأته طفلا، وقرأته وأنا أهرول إلى شبابي ثمّ قرأته شابّا في حياته شيء من تجربة ومعاناة. و يخيل إليّ الآن أنّني لن أجانب الصّواب إن أنا صرّحت بأنّه كان لكتابك فعل في مسار حياتي بل وإن أنا اتّهمتك: "إنّك بكتابك قد نحتّ شيئا في فؤادي وقددت شيئا من عقلي. ودفعتني -برفق- نحو مساري" لقد كان لكتابك عن "معركة الزلاّج" أوّل أثر فتح عينيّ على النضال، وأوّل أثر بيّن لي -و إن دون تصريح- أنّ النّضال واجب، وأنّ أوّل المعنيين به والمقبلين عليه هم ساكنو الهوامش، وأنّ التاريخ لا ينسى وإن بدا لفاعليه أنّه ينسى، وأن النّضال عطاء دون انتظار، ومعاناة صرفة وسعادة حيث لا تنتظر السعادة. ومن كتابك أيضا تسلّل إلى عقلي برهان بأنّ التحدّي ممكن وواجب وأنّ الديّجور -وإن اشتدّ- لا بدّ زائل. بعد ذلك، جاء زمن كنّا نبحث فيه عن كتب نتعلّم منها كيف نقاوم وكيف نصمد وكيف نصبر... ومن هذه الكتب كان كتاب "بابيّون" (فراشة) لهنري شاريار الذي تحدّث عن "كايان". ولأنّني كنت قد قرأت كتابك عن "معركة الزلاّج" فلقد عرفت أين تقع "كايان"، وما هي،... ومن الكتاب الثّاني عدت إلى الأوّل... ورأيت فيه كيف تواصلت الحياة بعد أن طال صاحبها ما هو أعسر من الموت وأفظع . عمّي الجيلاني، بعد ذلك قرأت لك في مواضيع ومآرب أخرى. لكنّني ظللت أقرنك، على الدّوام، بكتابك عن "معركة الزلاّج". وعرفت نضال شعبنا مذ أصابه الاحتلال، وأبعد من ذلك قبلا وبعدا، لكنّني لم أنس أبدا ما قرأته عن "معركة الزلاّج". وظلّت هذه المعركة أصل النّضال في وجداني. وعرفتك بعد ذلك بضحكتك، وطرافاتك، وتلك الشكائر الضّخمة ملأى خضرا وغلالا، والقفاف ملأى كتبا وحُبّا، وذلك البذل المتحضّر -المتواضع- الذي لا يسمّي نفسه بل يتخفّى استحياء - الذي يفيض منك، ومن خالتي حبيبة، رفيقة أيّامك، على عشرات لا أشكّ في أنّه يسعدهم أن أقول أنّنا أحسسناكما، كلّنا، أبا وأماّ لنا جميعا وليس لفتحي وحده. عمّي الجيلاني، بعد ذاك كان النّور. واستقبلتنا جميعا في بيتك في يوم وليلة لن يقدر الزّمان وجوره على أن يمحياهما من ذاكرتي، بل ومن وجداني: لقد كنت أنت الشمس -المركز- المحور، ومن حولك كنّا - بعضنا خارج من الوحشة للتوّ، وبعضنا سبق بالخروج ولكنّه كان ما يزال يستذكر بعناء كيف يخطو المرء خارج الوحشة... وحولك وحولنا كان أحبّة وأصدقاء ومتعاطفون، وأيضا... جماعة من السّلط. وهنا أتّهمك بتهمة أخرى:"لقد علّمتني- علّمتنا أنّ في البشر، جميع البشر، خيرا وإن هم ظلموا، أو استكانوا للظلّم وسكتوا عنه". بل وأتّهمك أيضا بأنّك جمعت بين التناقضات وأوحيت لنا بأنّ الصّفح شيمة الضّحايا، وناديتنا إلى عوالم أرحب، وعلّمتنا أن الحياة تنّوع وتعدّد. عمّي الجيلاني لقد كنت على الدّوام معنا، وببسمتك وطرفتك وإشارتك شبه الخفية أو المستحيية علّمتنا أنّنا، قبلا وبعدا، من وطن واحد، وأنّ على من كابد وضحّى وصمد واجب أن يقاوم على أكثر من صعيد وصعيد، وواجب أن يشهد، وواجب أن يستمّر. عمّي الجيلاني اعتمدت في توجيه التهمة إليك على جوارحي ووجداني. ولم أسند تهمي لا لفصول قانون ولا لتعلاّت تحقيق... وبالمنهج ذاته أحكم عليك بأنّك واحد منّا، بل ومن معلّمينا... وأقول لك: إنّني سعيد بأنّك ابتسمت لي ذات يوم عندما قلت لك أنّني أريدك أبا ثانيا لي، ولم ترفض. وأرجو أن تقبل أن أمضي هذا بإضافة "فاء" في مطلع إسمي: فصادق. 24 مارس 2009 ملحق : هل تعلم عمّي-أبي- صديقي أنّ النّص المكتوب على نصب الزلاّج بباب عليوه هو من خطّ صاحبك الشادلي بن غربال؟