لقد سبق أن قرأت لك عام 1980 ونحن بجناحH من المغفور له حبس 9 أفريل قصيدة نثريّة كتبتها للمنشّط الثقافي والاعلامي فرج شوشان بعد أن شاهدنا له حوارا تلفزيا مع نزار قبّاني... ونهارها، أو ليلتها- أنت تعلم أنّ النّهار والليل في الزمن السّجني كثيرا ما يستويان- يومها أدركت أنّك كاتب كاتب. وخلال السنوات الاخيرة قرأت لك مقالات نشرت بعضها هنا وهنالك أو خصصتني مع بعض آخرين بأن أطلعتني عليها وإن لم تنشر، فازددت اقتناعا بأنّك كاتب-كاتب، بل ومبدع يقدر على الجمع بين طرافة الفكرة وشذى العبارة ورشاقة الهيكل. وددت لو نشرت أوّلا عن مواضيع كشمس الغروب التي اقتحمتها بسيّارتك ونحن جذلون بعمل أنجزناه وبحر أنعم علينا. أو كالشرطيّ الذي جادلنا ذات فجر عن عبثية الوجود وعن الموت والنّضال وأشياء كثيرة لمجرّد أنّه اِقتنع أنّنا أناس من طينة أخرى وصحّ عنده أنّك إنّما اخترقت حواجزه لا تجاهلا ولا تحدّيا ولا هروبا بل لانّ سعيك وراء فكرة أفقدك رؤية الاشياء أمامك. أو عن بعض حبيباتك، الكثير. أو عن اللحظة التي التقيت فيها ب"داداك ديجة" وثبت لديك أنّ "المنزل الجربيّ" الذي ندخله بعد طول طواف في "الجوادّي" (المسالك الترابية) هو فعلا منزل أجدادك ومسقط رأس أبيك.. أو عن الشمس التي اكتوينا بها في أطراف مدنين والبئر الاحمر وسيدي مخلوف ذات صائفة اِستثنائية القيظ ونحن نعاين فقر أسر الارياف وننسج من خيوط العنكبوت برامج تنمية لها. أو عن الجليل عبد الحفيظ الشابيّ الذي شغّلني وقبل أن تنضمّوا إليّ، أنت ولفيف من الرفاق الخارجين لتوّهم من الديجور، هم أيضا، في زمن عزّ فيه من يشغّلنا. أو عن الضّحك: ضحك نور الدّين بن خضر، في نومه وفي يقظته، ونوادر أبيك. أو عن باريس ما قبل... وما بعد.. ولكنّ للكتابة مكرها. وللابداع، ولا شكّ، حكمته. قرأت كتابك ليلة توقيعك لنسخه الاولى... وبشغف. رغم أنّني كنت قرأت أغلبه مخطوطا. ورغم أن كتابك يفوح حبسا، ومعاناة، وعذابا، فإنّني وجدت فيه كثيرا ممّا كنت أشتهي أن تكتب فيه... وجدت عاطفة. ووجدت هندا. إنصاف الوالدين ؛ والوفاء الذي أعرفه فيك ؛ وحبّا خالصا وعنيفا ومستمرّا عشته بين ما عشته وتعيشه من قصص حبّ وعلاقات عشق لا تنتهي ؛ وتقديسك التعدَّدَ والتنوّع.. في كلّ شيء. ووجدت شيئا من المرح الذي يغلب على روحك والهزل الذي تتقنه. كما وجدتُك تنحو، من حين لاخر، نحو الجدل والحجاج والتفلسف... كتابك، يا فتحي، أكّد لي أنّك كاتب-كاتب. وأنّك على أيّ حال كاتب ولو بلا ورقات يسار، ودون أن تكون مررت على سراط النّضال والعناد. لكنّني، يا فتحي، وجدتك-في بعض ثنايا كتابك- تكبح جماحك وتحدّ من اندفاعك وتغالب حياءك فيغلبك... ومن ذلك أنّني رأيتك تكاد تبرّر ما لا يمكن ولا يجب تبريره، وتجد الاعذار لمن لا تعوزهم الاعذار ولا يحتاجون أعذارك بل ولا يستأهلونها. كما أنّني أحسست أحيانا أنّك، لحيائك، حبّرت بعض الامور على نحو قد ينقاد معه بعض القراء إلى متاهة تخيّل لهم أنّ ما عشته- ما عشناه كان نزهة أو "خرجة سافاري" مخطّطة مسبقا ومحسوبة العواقب... صحيح أنّ عنادك عِنادَنا وشاعريتنا الصّرفة قد سهّلا لنا عبور الدّيجور بأقلّ الخسائر... لكنّ الدّيجور كان وما يزال بآثاره التي لا تندمل ديجورا، كما كانت الجراح جراحا غائرة وبعضها لم ولن يندمل، وكانت العذابات عذابات ليس لنا نحن فحسب، أو حتّى أوّلا، بل لاهلنا وللاحبّة جميعا ولجيل كامل. أمّا الظلم فكان جورا كثيف الطبقات متراصّها، جورا لا يبرّر ولا يفسّر ولا يغتفر.. جورا تعدّى أثره ضحاياه المباشرين وشلّ بعسفه وظلمائه أفئدة وأحلام أجيال كاملة ومقدّرات البلد. فتحي! يعجبني سموّ روحك، وجلدُكَ، وأخلاقك السّمحة، وتبرّعك بصكّ الغفران لمن لم يطلبوه، وإمالتك بصرك نحو المُشرِق والوضّاءِ والورديّ... لكن ألا ترى معي أنّ الدّم يحتاج هو أيضا لونَه؟ وأنّ ما مَرَّ من العمر عصفًا وعسفا وما انطبع في الصّميم مُكَبِّلا للاتي يستأهل هو أيضا أن نصفه بدقّة ونذكره بتفصيل أمين، وأن يُعلن فاعلوه، أو ورثة فاعليه، أنّه كان أوعى من هفوة، وأقسى من محْنة عابرة، وأوسع من خيار فاعل أوحد، وأظلم من حقد لا إداري، إداريّ، وأغلظ من ضربات عصا خزعبلات خريف عمر؟ رفيقي، أخي، صديقي ! وجدتَ كثيرا منك في ما كتبتَ... ولكنّني حرتُ أحيانا أمام ما لن أسّميه كما فعلت أنت ضعفَ ذاكرة بل توقَا إلى النّسيان والتّجاوز. كما غضبت أحيانا وكلّما خُيّلَ إليّ أنّك تتعمّد ما قد يبدو جَلْدًا للذّات أو تقزيما لمعاناتها ولتَوْقِها وأنّك بقدر ما تتسامح معهم وتتساهل تتناسى شيئا من تفاصيل بعض من تحدّينا واندفاعنا ولو كان متهوّرا وبعضٍ من أفعالنا التي هي بطولات حقيقية وإن كانت بلا مستقبل... كما أحزنني أن تدفعك شدّة تواضعك حتّى لان "تصغّر" الاحرف التي خطّ بها عنوان الكتاب واسمك على الغلاف. رفيقي، أخي، صديقي: فتحي ! أكتفي، بهذا تحيّة على طريقتنا. مع تأكيدي أنّني لو كتبت عمّا كتبت عنه سألوم نفسي، دون شكّ، عن مثل ما لمتك عنه. وأنا آمل أن لا أعاتبك ذات يوم (قريب) لانّك لم تعاود. بل إنّني على يقين أنّك ستعاود. فأنت كاتب - كاتب. ولست مجرّد مدوّن شهادة.