إحدى المدارس نظمت تظاهرة احتفالية من أهم شروط المشاركة فيها «دخلة قمقومة»!! تلاميذنا يحفظون أغاني الملاعب... أما دروسهم «فيفتح الله»!! بنت عمرها سنتان تتابع برامج الرياضة في التلفزة وتهتزّ مع كل صيحة يطلقها الجمهور..! هي في الواقع ظاهرة لم تغز مدارسنا الأساسية فحسب بما أنها غزت قبلها المعاهد والكليات... وحتى رياض الأطفال لم تسلم منها ولكل واحد منكم أن يجرّب المرور قرب إحدى هذه الرياض أو المدارس الأساسية في أوقات الراحة أو حتى قبل انطلاق أولى حصص الصباح ليتأكد من أن الطبق الرئيسي لهؤلاء الأطفال هو تلك الأغاني التي أنشئت خصيصا للملاعب والقاعات الرياضية فإذا بها تتسرّب إلى أطفال الرياض والمدارس الأساسية...! زيّ الكرة يعوّض الميدعة قبل بضع سنوات كانت الميدعة علامة مميّزة لكل طفل يقصد مدرسة معينة، وقد اجتهد بعض المديرين ففرضوا على تلاميذ مدارسهم ألوانا موحّدة كان لها تأثير إيجابي حتى على نتائجهم الدراسية، أما اليوم فصرنا نرى تسيّبا تتحمل كل الأطراف مسؤوليته فعوضا عن اللون الموحّد أو الميدعة التي يفترض أن تكون مفروضة على كل تلميذ أصبحنا نرى الأحمر والأصفر... والأحمر والأبيض... والأبيض والأسود... والنجمة البيضاء على قميص أحمر... والأخضر والأحمر... وهلمّ جرّا... هذا يعني أن الكثير من التلاميذ صاروا يذهبون إلى مدارسهم بأزياء فرقهم المفضلة وتحت أنظار أوليائهم الذين كان عليهم أن يمنعوهم من ذلك احتراما للدراسة وحرمة المدرسة... وتحت أنظار المسؤولين عن المدارس الذين كان علهيم أن يمنعوا هؤلاء «الكوارجية» من دخول مدارسهم للسبب ذاته..! عن ظهر قلب!! يقول السيد «محمد علي -ش» في هذا السياق: «لقد شاب رأسي بسبب ما أراه من أولادي، فإضافة إلى إصرارهم على الذهاب إلى مدارسهم بالأزياء الرياضية بدعوى أن ذلك عادي ومباح يحزّ في نفسي أنهم يعرفون أسماء اللاعبين واحدا واحدا ويعرفون أرقامهم والخطط التي يلعبون فيها والأهداف التي سجلها بعضهم... ويعرفون تواريخ فرقهم بالتفصيل... وخاصة، وهذا الجديد والمهم في موضوعنا يحفظون أغاني «الفيراج» عن ظهر قلب... كلمة كلمة... وحرفا حرفا... ورغم أن هذه الأغاني فيها ما يخدش الحياء وفيها ما يذكي النعرات الجهوية أو يحرّض على العنف والتباغض عكس ماهو مطلوب في الرياضة فإن أغلب أطفالنا، وأبنائي منهم طبعا يردّدونها وأغلبهم لا يفهم حتى معانيها»! «يفتح الله»! عندما يكون التلميذ مغرما بالكرة وممتازا في دراسته فلا ضير من ذلك طالما أنه يحقّق المعادلة الصعبة في هذا الزمن، أما إذا اختلّ التوازن لفائدة الكرة فإن الأولياء هم من يدفع الثمن في النهاية وفي هذا السياق يضيف السيد «محمد نجيب -ه) قائلا: «لي بنتان وولد واحد وكلهم يزاولون تعليمهم بالمدرسة الأساسية أما البنتان فأمورهما واضحة ولا تسببان لي متاعب... وأما الولد فقد أتعبني كثيرا ولم أعد أعرف كيفية التصرّف معه... غرفته ملأى بصور لاعبيه المفضلين وفي البيت لا يكاد يخلع زي فريقه المفضل حتى أثناء النوم... لقد اشترى كراسا خاصا سجّل فيه كل الأغاني الممكنة لجمهور فريقه المفضل... وإذا سألته عن إحدى هذه الأغاني فإنه يسردها لك سردا وكأنه «حافظ الستين حزب»!! أما عن دراسته فحدّث ولا حرح فرغم أنه في السنة السادسة من التعليم الأساسي فإنه مازال «يهجّي» حتى في اللغة العربية فما بالك بالفرنسية والأنقليزية والرياضيات وبقية المواد الأخرى..؟! نتائجه ضعيفة جدا ولا أعتقد أنه سينجح إلا إذا حدثت معجزة... أما إذا قرّرت وزارة التربية أن يكون موضوع الامتحانات أغاني «الفيراج» فلن يغلبه أحد وسيكون ترتيبه قبل الأول..!! وبكل صدق لقد احترت معه وتعبت لأني في النهاية سأدفع الثمن إذا لم ينجح نظرا إلى محدودية مواردي وعدم قدرتي على الانفاق عليه سنوات إضافية من دراسته». في وسائل النقل والشوارع قبل أن نمضي مع شهادات بعض المواطنين في هذا الموضوع دعونا نتوقّف قليلا مع المشهد التالي... في أغلب وسائل النقل العمومي وفي الشوارع والساحات العمومية يتكرّر السيناريو بصفة يومية كلما التقت مجموعة من الأصدقاء الذين يجمعهم حب معيّن... ودون احترام للآخرين ينطلقون في ترديد تلك الأغاني مع ما يصاحبها من «تطبيل» على كراسي الحافلات وعربات المترو أو نوافذها... يحدث هذا دون مناسبة... فقط لأن ثقافة «الفيراج» استشرت في شرايين هؤلاء الأطفال والشباب بشكل ينبئ بأن كل الفضاءات ووسائل النقل العمومي قد تصبح في يوم من الأيام البديل الطبيعي لملاعب الكرة وقاعاتها..! غريبة في إحدى المدارس منذ بضعة أسابيع نظمت إحدى المدارس الأساسية بإحدى الضواحي الجنوبية تظاهرة احتفالية لفائدة أطفال المدرسة ورغم أنها كانت دون مناسبة فقد كان الغرض منها الترفيه عن هؤلاء الأطفال يوم أحد، ويبدو أن إدارة المدرسة لم تنتبه إلى خطورة ما فعلت رغم أن القصد شريف مثلما قلت، فقد طلبت من التلاميذ أن يقسّموا أنفسهم إلى مجموعات تتولّى كل مجموعة منهم إعداد «دخلة قمقومة» على غرار الدخلة التي باتت موضة الجماهير الرياضية حتى في القسم العاشر..! ووعدت المجموعة التي تعد أحسن دخلة بالمشاركة في مسابقة أو لعبة تشبه «دليلك ملك» وتصل جائزتها إلى 300 دينار... ومنذ فجر ذلك الأحد نهض تلاميذ تلك المدرسة فلبسوا أقمصة فرقهم المفضلة وحملوا اللافتات والأعلام التي اشتروها من أموال والديهم قبل يومين أو ثلاثة أيام وجابوا الشوارع والأنهج والساحات ثم تجمّعوا أمام المدرسة كل يغنّي على ليلاه ويتفنّن في إظهار أن دخلته أحسن وأجمل وأروع..!! ألم تجد غيرها؟! هذا الكلام موجه طبعا إلى إدارة تلك المدرسة وبالفعل ألم تجد غير هذا الأسلوب لترغيب التلاميذ في حضور الحفل؟! لماذا لم تطلب منهم أن يتسابقوا في الرسم أو التعبير الكتابي أو القصة أو الشعر أو حتى في الغناء أو أيضا في العدو الريفي للحصول على جوائز عوض أن تطلب منهم دخلة لن تزيد إلا في تجهيلهم وحشو أدمغتهم بكلام من المفروض أن يمنع من تخطي أسوار المدارس وعتباتها أصلا؟! وهل إلى هذا الحد يبلغ التهاون بالعلم والتشجيع على ثقافة الملاعب بكل ما تنطوي عليه من مخاطر على هؤلاء الأطفال؟! إنها فعلا غريبة وسابقة خطيرة وكان على إدارة المدرسة التفكير ألف مرّة قبل الإقدام عليها وتنفيذها. البنت والجمهور السيد أحمد شيخ لا يحب الكرة ولا يريد التحدث عنها، ورغم ذلك أدلى بدلوه في الموضوع فقال: «الآن أنا جدّ بعد أن تزوج أبنائي وبناتي وصار لهم أبناء، ورغم أني لا أحب الكرة ولا أريد التحدث عنها فإني أرى عدواها وآثارها من خلال حفيدتي وهي لم تتجاوز بعد العامين من عمرها، هذه البنت ومن كثرة ما تراه من والدها ومن باقي أفراد العائلة من غرام بالكرة صارت تشاهد معهم البرامج الرياضية بكل شغف. وعندما تبثّ الأهداف المسجلة التي يصاحبها عادة صياح الجمهور تراها تهتزّ وتقفز وترفع يديها إلى فوق على غرار ما يفعله اللاعب الذي يسجل الهدف وكأنها هي التي سجلت الهدف... هذا ما تفعله البنت في العامين من العمر فماذا ستفعل عندما تبلغ العشرين وما بعد العشرين؟! الأكيد أنها ستشتري ملعبا أو ربما تشتري فريقا بأكمله... وهذا يعود طبعا إلى ما تفعله الكرة بالشباب وحتى بأطفال مازالوا لم يتخلّوا عن ال"Sucette"...!!». تحقيق: جمال المالكي للتعليق على هذا الموضوع: