تحت عنوان «موسم عالمي» كان افتتاح الدورة الاولى لمهرجان الحمامات الدولي في 31 جويلية 1964 بعمل مسرحي تونسي بعنوان «عطيل» للفنان الراحل علي بن عياد وبطولة الفنان المصري جميل راتب.. ومنذ تلك الصائفة انفتح مسرح الهواء الطلق بالمركز الثقافي الدولي بالحمامات للعروض المسرحية وظل منذورا لها طيلة عقوده الاربعة.. كما انه اصبح من اهم التظاهرات الثقافية الدولية في تونس.. خلال كل دورة من دوراته المتعاقبة يحاول المهرجان ان يظل وفيا لتوجهاته الكبرى واهدافه التأسيسية والمتمثلة في الانتصار للانتاجات الفنية التونسية الجادة واحتضان المبدعين التونسيين وان يظل الانتاج المسرحي حاضرا بقوة على خشبة ذلك المسرح الفريد.. وان يشرع المهرجان نوافذه على ثقافات العالم وفنون الشعوب وان يقاوم الانسياق وراء الظواهر الفنية التي تطرأ في الساحة الفنية والثقافية كالفقاقيع. وجاءت الدورة الثالثة والاربعون لمهرجان الحمامات الدولي التي تواصلت منذ الخامس عشر من جويلية الماضي الى غاية الحادي والعشرين من اوت الجاري (فيما يخص العروض الركحية) لتؤكد هذا التوجه التثقيفي الذي دأب عليه المهرجان. ملامسة لوعي الجمهور اهم ما ميز هذه الدورة الثالثة والاربعين لمهرجان الحمامات الدولي انفرادها ببرمجة عروض وطنية تونسية واخرى عالمية تفد مباشرة الى الحمامات دون سواها من المهرجانات التونسية الدولية في عروض حصرية.. كما شهدت البرمجة حضور اسماء ونجوم مع ابداعات شغلت الناس واسالت الكثير من الحبر.. فالمهرجان لا ينساق في هذا الباب وراء موضة عصره الفنية وتلبية رغبة جمهوره في جميع الحالات دون العودة الى ماضيه وتوجهاته.. وتاريخ المهرجان حال بالمواعيد التي استقدم فيها اعمالا وابداعات مشاكسة او تعاني من ضغط الرقابة او فرقا موسيقية تتميز اعمالها بجرأة الطرح والكلمة المتمردة وخشبة المسرح تتذكر مرور فنانين امثال مارسيل خليفة و«ناس الغيوان» و«جيل جيلالة» من المغرب ومجموعة «قناوة ديقزنون» من الجزائر ودريد لحام.. ويوسف شاهين.. الدورة الثالثة والاربعون واصلت ملامستها لوعي المتفرج وقطعها مع ثقافة «البهجة والحبور» واعتلت خلالها «فاميليا للانتاج» الركح بالعمل المسرحي المثير للجدل «خمسون» للفاضل الجعايبي على مستوى الاخراج وجليلة بكار على مستوى النص.. هذا العمل الذي عانى مشكلة رقابية ابان انتاجه في سنة 2006 واستقطب عرضه في الحمامات لصائفة 2007 جمهورا غفيرا فاق توقعات المنظمين. هذه العروض المشاغبة والمشاكسة ايضا استزاد فيها المهرجان في دورة تحريك السواكن لتحضر مجموعة «جيل جيلالة» من المغرب. واستقبل الركح الفنان الجزائري المثير للجدل بعزيز الذي لا يعترف فوق الركح بالخطوط الحمراء.. بعزيز غنى في سهرة 11 أوت امام جمهور مغاربي: تونسي وجزائري ابرز اغانيه مثل «الباندية اولاد الحرام» او «الجنرالات» «البوليسية» وغيرها.. توالت سهرات المهرجان واستقدم من مصر الفنان والشاعر الكبير عبد الرحمان الابنودي فارس الكلمة الحرة وجامع التراث في سهرة كبرى تفرد بها لهذه الصائفة وامسية شعرية مثلت الحدث الصيفي. تكريم الابداعات التونسية سهرة مهرجان الحمامات الدولي تعود ايضا الى ذلك الركح المحاري الشكل وذي الطراز المعماري البديع الذي شيد على ضفاف بحر درة المتوسط مدينة الحمامات في تصميم فريد للمهندس الفرنسي شيميتوف وبمساهمة في التمويل من المؤسسة البرتغالية «فلبكيان». مسرح الهواء الطلق جاء تحفة فنية فريدة جمعت بين عناصر المسرح اليوناني الحديث والركح الايليزابيت.. ركح عصري متجذر في محيط طبيعي خلاب تزيد من سحره اطلالته على بحر فيروزي صاف. في هذه الدورة استضاف المهرجان سبعة اعمال مسرحية تونسية وهو رقم يعادله فيه اي مهرجان صيفي تونسي سواء أكان دوليا ام وطنيا. وكعادة المهرجان في تكريم المسرح التونسي كان الافتتاح بعمل جديد للمسرح الوطني وهو قراءة جديدة لمأساة «عطيل» للانقليزي وليام شيكسبير بامضاء المسرحي التونسي محمد ادريس.. وعرض الاختتام ايضا جاء مسرحيا تونسيا مع الفنان حمادي المزي في عمل بعنوان «موال».. وبين مساحة عرضي الافتتاح والاختتام ضمت البرمجة عروضا لمسرحية «جنون» للفاضل الجعايبي وجليلة بكار و«حرارة الروح» (اوفردوز) لحسام الساحلي التي اذهلت النقاد والجمهور في مهرجان المسرح التجريبي بمصر.. كما احتوت البرمجة عرضا لمسرحية «فن» (آرت) مع ثلاثي من الطراز الرفيع وهم محمد كوكة وهشام رستم ورؤوف بن يغلان.. وعرضا من نوع الوان مان شو «واحد منا» مع الممثل جعفر القاسمي. ثلاثي «آرت» قدموا درسا في المسرح تحت المطر. تنوع الرؤى والمقاربات يؤكد مدير المهرجان الاستاذ فتحي الخراط بان هذه التظاهرة الدولية الكبرى تسعى دوما لان يكون للانتاج التونسي حيز هام في البرمجة وان تتاح للفنانين والمبدعين التونسيين فرصة للالتقاء بالجمهور.. وفي هذا ايضا رغبة في ابراز تنوع الرؤى والمقاربات في النسيج الثقافي التونسي. في هذه الدورة الثالثة والاربعين حضر الانتاج التونسي بقوة ممثلا في مختلف صنوف الفرجة فاضافة الى الفن الرابع نلاحظ ايضا حضورا لفن الباليه مع الباليه التونسي العربي في انتاج تونسي وسوري مشترك الى جانب اشعاع الاغنية التونسية بمختلف اتجاهاتها مثل المالوف مع زياد غرسة والطربية مع «نادي الاصيل» بصفاقس والموسيقى البدوية والصوفية مع عرض الفنان منير الطرودي. والنغم الجميل والطرب الاصل والكلمة الراقية مع سنية مبارك والموسيقى الكلاسيكية مع الاوركستر السمفوني المدرسي والجامعي التونسي والحضور للموسم الثاني على التوالي للنجمة التونسية امينة فاخت لتجدد العهد مع جمهور الحمامات الذي احبها واحبته.. الاغنية التونسية تألفت ايضا من خلال عرض «اطراب» لمجموعة الفنان حمادي بن عثمان. بين الشرق والغرب مثلما انفتح مسرح الهواء الطلق بالمركز الثقافي الدولي بالحمامات على التجارب الفنية التونسية وكان خلية حياة للمسرح التونسي فقد فتح المهرجان ذراعيه الى العالم العربي بمشرقه ومغربه والى فنون القارة الام افريقيا.. كما غص المسرح باعداد الجماهير وهي تستمتع بفنون العالم.. فمهرجان الحمامات الدولي المطل ركحه على ضفاف الازرق الكبير.. لم ينس ان ينفتح على فنون الشعوب مرددا مع بابلو نيرودا مقولته «ان العالم أرحب..» ومؤكدا مفهوم حوار الحضارات بالفعل لا بالشعارات.. العروض الدولية في هذه الصائفة انفرد في العديد منها المهرجان ببرمجتها دون غيره.. فالفرق المغاربية نلاحظها من خلال حضور مطربة الفن الاندلسي الجزائري زكية قارة تركي والفرقة المغربية «جيل جيلالة» التي استقطب عرضها جمهورا مغاربيا غفيرا.. كما اطربت مجموعة اساتذة الطرب والتراث المصرية جمهور الحمامات باصوات عذبة وخاصة الفنان محسن فاروق ولعل السهرة المصرية مع عرض «التغريبة الهلالية» لعبد الرحمان الابنودي وفرقة الصعايدة تمثل بالتأكيد الحدث الذي انفرد به مهرجان الحمامات الدولي لهذه الصائفة.. فالشاعر المصري والعربي الكبير وصديق تونس والمركز الثقافي الدولي بالحمامات الذي اقام فيه وحاضر في فضاءاته حل ضيفا على ركح مسرح الهواء الطلق وكذلك نجما لامسية شعرية انتظمت بالمناسبة امام حضور قياسي لوسائل الاعلام والمثقفين ومن بلد الجمال والجبال لبنان غنت الفنانة كارول سماحة في سهرة كبرى تميزت بالحضور الجماهيري وحسن الاداء. لوحات في فن الباليه ضمن العروض الدولية تألقت في هذه الدورة فنون الباليه اذ ابهر باليه ايغور موسياف من روسيا سمار المهرجان في سهرة ستظل عالقة في البال جمعت بين رشاقة الحركة وسحر الايقاع وابهار الالوان بشكل رائع. ومن تركيا حضر باليه «نيران الاناضول» (فاير اوف اناتوليا) ليبهر الحضور بلوحاته الكوريغرافية البديعة والتي يظل يقدمها بنفس البراعة والتوضيح في مختلف انحاء العالم في سلسلة عروض متواصلة على مدار العام. بقية العروض الاجنبية كانت مع ايطاليا وايرلندا وتميز الحضور الكوبي بسحر الايقاع والرقص الشبابي والتفاعل الجماهيري من خلال العرض الرائع للمجموعة الكوبية القادمة من هافانا «لاشارانغا هابانيرا» هذه الفرقة عادت الى مهرجان الحمامات لتجد نفس الاقبال الجماهيري المكثف والاعجاب المتعاظم لانغام «الصالصا». وفي باب العروض الاجنبية نذكر كذلك عرض ايقاعات الصحراء مع المجموعة القادمة من تومبكتو المالية «تارثيت توارق» كما عاش جمهور مهرجان الحمامات الدولي احلى اللحظات مع العرض الايقاعي الذي اقترحته المجموعة العالمية «بلوز براذرز» وبحضور ركحي مدهش. هذا ولاقت اغلب عروض مهرجان الحمامات الدولي اقبالا جماهيريا محمودا في بعض السهرات وقياسيا ومنقطع النظير في سهرات اخرى.. فحفل كارول سماحة حقق اقبالا جماهيريا غفيرا فاجأ الفنانة نفسها مثلما صرحت بذلك عقب الحفل واثثناء المؤتمر الاعلامي الذي جمعها بحشد من ممثلي الصحافة المكتوبة والمرئية نفس الشيء حدث مع امينة فاخت كما غصت المدارج (حوالي الفي متفرج) بالجماهير التي جاءت لعرض الفرقة المغربية «جيل جيلالة». العديد من النقاد والملاحظين في تونس يرون في مهرجان الحمامات الدولي الحصن الاخير للفن الراقي والمناسبة الصيفية النادرة لاكتشاف موسيقى مغايرة «بعيدا عن الفوضى واللغط الفني الكاذب».