وصفت جريدة «فرانس سوار» العريقة الفنان الفرنسي جون جاك ميلتو «بكونه احد عظماء النصف الثاني من القرن العشرين، فهو رجل موسيقي متنور، ومنفتح، فضلا عن كونه صاحب موهبة متدفقة بالعطاء الفني والانساني دون ان ننسى انه رجل متواضع رغم ألبومه التاريخي الثري". وأنت لا شك وأنت تخرج من العرض الذي يقدمه ستصفه بكونه «ملك الأرمونيكا» بلا منازع. فهل لهذه الآلة الصغيرة كل هذه السطوة؟ وهل يمكن لفنان أن يصبح عالميا اذا ما نجح في «النفخ» في ثقوبها التي تصدر عادة نغمات جميلة وكأنها مسجلة داخلها؟ ويكفي أن تنفخ في هذه الثقوب حتى تخرج منها؟.. جون جاك ميلتو كان ضيفا على مهرجان المدينة وقدم عرضا متميزا مساء الجمعة الماضي في قصر خير الدين بحضور جمهور كبير ومتميز هو الآخر، جانب منه يتشكل من الأجانب المقيمين في تونس. وما نبدأ به هو أن هذا العرض هو حصيلة عمل دام أسبوعا كاملا في رحاب المعهد العالي للموسيقى حيث نشط جون جاك ميلتو ورشة موسيقية مع عدد من الطلبة المتفوقين في هذا الفن الابداعي الجميل، فلقد استعمل هو وبقية عناصر فرقته المتكونة من عازفين على «الباتري» وعلى القيتارة وعلى السكسيفون، استعمل قدراته الفنية للتجاوب مع فرقة وترية عناصرها تمكنوا من أن ينفذوا بعض القطع الموسيقية التي صدرت عنهم وكأنها تصدر عن فرقة سنفونيات عالمية الهمة وعميقة في الخبرة والتجربة. كما أن هذا العرض في واقع الامر بدأ يتشكل في الذهن منذ اكثر من سنة في باريس لما التقى جون جاك ميلتو بفنانة تونسية اسمها آمال المثلوثي، أصبحت الساحتان الفنية في تونس وفرنسا تعرفانها وتقدران تجربتها في الغناء والموسيقى، فهي تغني بالعربية وبالفرنسية، وبالانقليزية وبالايطالية بنفس الروح وبنفس الابعاد ذلك أنها تدخل تطويعا خاصا على الأغنية وتتجاوب مع الكلمات بشكل واضح.. ومؤثر جدا.. جون جاك ميلتو دعاها، اذن لتكون ضيفة على الرباعي الذي يتحرك به في كامل أوروبا وفي افريقيا.. وفي آسيا وامريكا.. وغيرها حيث روج لآلة الأرمونيكا التي عرف كيف يجعلها ناطقة، منافسة للبيانو في هدوئه.. وغضبه ومزاحمة الساكسفون في صخبها المفرح.. والمحزن حسب الوضع النفسي للمبدع. وما كان لهذا العرض أن يكون في الواقع لولا التعاون الكبير بين مهرجان المدينة بالعاصمة والمعهد الفرنسي للتعاون الذي تولى العملية التنظيمية بكامل تفاصيلها انطلاقا من باريس. وجاء اذن هذا الفنان العالمي واشتغل لمدة اسبوع في ورشة فنية بالمعهد العالي للموسيقى بادارة الفنان الدكتور محمد زين العابدين.. ثم كان العرض يوم الجمعة الماضي. ثم كان الجواب على السؤال الذي انطلقنا منه عما اذا كان ممكنا أن تجعل الأرمونيكا صاحبها عظيما.. وعالميا.. هذا حدث بالفعل.. والمسألة ليست من قبيل الصدفة ولا من قبيل «الصناعة الاعلامية الدعائية».. أبدا فهذا الرجل على مر الأيام ومنذ بداية الستينات وهو يستنطق آلته الصغيرة فأتقنها ونطقت بين يديه اللتين تتحركان بسرعة عجيبة.. وتساعدان على كلام «صادر عن الارمونيكا».. نعم هذه الآلة الساحرة تتكلم وتقول كلاما رائعا جميلا.. وأحيانا ثائرا.. حتى هي تعرف متى تثور ومتى تغير من جلدها. لقد جعلها جون جاك ميلتو احدى صديقات موسيقى «البلوز» ورفيقة الباطري والساكسيفون. هذا ما يمكن أن نخرج به من هذا الحفل الذي نشطه جون جاك ميلتو بنفسه، فهو الذي قدم لنا الرباعي الذي يشكل فرقته، وهو الذي فسر لنا بعض المقاطع واعطى نظرة تاريخية عن البعض الآخر، وهو الذي قدم لنا آمال المثلوثي التي أبهرت الحاضرين وصفقوا لها طويلا لعزفها.. ولأدائها للأغاني ب«كل اللغات».. وهو الذي قدم لنا الفرقة التي تشكلت من الطلبة المتفوقين في المعهد العالي للموسيقى بتونس.. لقد أثبت جون جاك ميلتو بهذا العرض انه رجل التنوير والانفتاح وهو على استعداد واضح لتقبل الاخر والاستفادة منه وإفادته. الحفل كان في النهاية نموذجا من الحوار بين شعبين، ومن التثاقف في احترام وتقدير كبيرين.. وكانت الموسيقى هي اللغة المستعملة.. وكان واضحا أن هذا الفن مثل كل الابداعات الأدبية والفنية قادر على الحب واشاعته وعلى التسامح وترسيخ ثقافته في كل الاذهان.. لقد غنت آمال المثلوثي وأكدت أنها قادرة على أن تساهم في الحوار الندي، فهي تغني بالعربية بنغمات غربية لا على صوت الأرمونيكا فقط بل مع كل الآلات الغربية. كما أنها غنت بالانقليزية وكأنها كانت تغني بالعربية.. وتمكنت من أن تنال الاعجاب والاحترام من الطرفين.. أقول ذلك رغم أن الكلمات التي استعملتها في أغانيها بالعربية خالية من التركيبة الشعرية مثل أغنية: خائف من الوحده خائف من الزمن خائف من الموت وخائف لا نموت وأنا حي واضح أن الكلمات تعبر عن الهم الذي يعيش به الفنان أو هو همّ يعيشه انسان هذا العصر الخائف من الوحدة، لكنها وهي تغني في أماكن وفضاءات اكتسبت العالمية من الواجب أن تتخير الكلمات وأن تكون بها أرقى واكثر اتساقا مع الأدب. أما شباب المعهد العالي للموسيقى وأساتذته فانهم كانوا قادرين على العزف الجميل للنغمات والايقاعات الغربية والسنفونية وهو أمر لا يريح ثقافيا فقط، بل يبعث ايضا على بعض الاطمئنان على الساحة الموسيقية التي أصبحت في السنوات الأخيرة فقيرة من العازفين المتميزين والمقتدرين والمبدعين.. وأخيرا أعيد القول بأن جون جاك ميلتو الذي طوع الأرمونيكا الى البلوز والتحم به حتى النخاع وفر لنا فرصة جميلة لاستعادة بعض النغمات التي كنا نستمع اليها في الستينات وهي قادمة من تاريخ أبعد، قادمة من بداية القرن العشرين. وأكد جون جاك ميلتو أن الموسيقى ليست موضة، ولا هي بدعة تنتهي.. انها ابداع متواصل في كل الشعوب حتى ولو نبعت في قبيلة صغيرة.. ولو كانت النغمات قديمة لا يمكن تحديد تاريخها.