عشرون عاما طويلة ثقيلة مضت علي في المنفى، وها أنا أعود أخيرا إلى تونس كما تعود الطيور إلى أعشاشها، والقطرة إلى مستقرها في الثرى، والربيع الباسم إلى الحقول التي أرهقها الشتاء. تركت تونس على هيئة وحال، وها أنا أجدها على حال وهيئة أخرى لم يألفها التونسيون من قبل. غادرت الدوحة عائدا إلى بلدي بعد عشرين عاما وثلاثة أشهر وتسعة أيام.. قلبي يخفق بقوة كعصفور أسير كسير الجناح، أثقلته الأوجاع، يوشك أن يطير من قفصي الصدري من شدة الخفقان. الطريق إلى تونس الذي ظننته قصيرا سريعا تطاول وتمدد حتى خلته لا ينتهي. من الدوحة طرنا على القطرية إلى بيروت. وفي بيروت مكثنا أكثر من 16 ساعة من الانتظار. ومن بيروت طرنا على التونسية إلى اسطنبول. وفي اسطنبول قضينا ساعتين طويلتين من الانتظار. وبعد ذلك الانتظار حلقت بنا طائرة الخطوط التونسية التي لم أركبها منذ عقدين قاصدة تونس.. القلب يزداد خفقانا، والوجد والشوق إلى ذات العيون الخضر يجعل من الوقت الطويل دهرا لا يكاد ينتهي.. تمضي الساعات ثقيلة، وتقترب الطائرة من تونس، ويزداد القلب المعذب شوقا للخضراء وعناء.. إنها لحظات حاسمة لم أعش مثلها من قبل. ومشاعري متناقضة متزاحمة، بعضها يدفع بعضا، وهواجسي تلازمني وتجعل الدقائق ثقيلة كالجبال.. فهل تراني أدخل بلدي آمنا كريما، بعد ثورة شعب عظيم كسر القيد وأسقط الطغيان، أم تراها تفتح الملفات القديمة، وأجد نفسي في السجن الذي حماني الله منه قبل عقدين ونيف شابت فيهما الذوائب وامتلأ القلب هما وكدرا. تحاول الطائرة النزول في مطار تونسقرطاج، لكن الضباب الكثيف يحول دونها.. تمتد الرحلة أكثر.. ربان الطائرة يقرر الذهاب للمنستير.. تطير الطائرة مجددا.. تبتعد عن الأرض التي كدت أنزل عليها، لتحلق في السماء من جديد. بعد نحو عشرين دقيقة بدأت النزول.. مضت الدقائق ثقيلة كسلى، والقلب يمعن في التقلب بين المشاعر والعواطف موج منها يتلوه موج، وفي صخب أمواجها المتلاطم حطت أخيرا الطائرة. وحين لمست عجلاتها الأرض صفق الراكبون فرحا بالسلامة، وانفجرت أنا باكيا، وبراكين المشاعر المتناقضة والزلازل في أعماقي تنتفض وتهتز كأنها مارد من نار. لم أعرف كيف انفجرت الدموع غزيرة كالنبع.. اختنقت بدموعي ونشيجي حتى كاد النفس مني ينقطع. وكاد قلبي لشدة الخفقان يسكت.. بكيت وانتحبت واختلط عليّ الفرح بذكرى الشقاء القديم، واستعدت صورا قديمة تداغمت مع أخرى جديدة حتى كاد يسيطر علي الدوار.. ثم استعدت زمام أمري، واغتسلت بدمعي حتى تطهرت من الحقد والغل وروح الانتقام، ورفرفت الروح فرحة بالعودة بعد يأس، وملأني سرور عظيم. بقينا في المنستير داخل الطائرة لم نغادرها لمدة ساعتين تقريبا، ثم استأنفنا الرحلة من جديد إلى العاصمة بعد أن خف الضباب.. حلّقت الطائرة مجدّدا في السماء.. وأخيرا نزلنا في تونس.. ووطأت قدماي الأرض التي أحببتها وهجرت عنها زمنا مديدا طويلا، واشتقت لعينيها سنين طويلة قاسية ثقيلة، كابدتها حزنا ولهفة وشوقا إلى الأهل والأحبة ومراتع الصبا الحالم الجميل.. وأخيرا اجتزت نقطة الشرطة في المطار.. كان الخوف والشوق يتدافعان في صدري.. لا أنكر أنني كنت خائفا.. لا أنكر أنني تخيلت أن أعتقل وأعذب.. لكن شوقي كان أعظم، وفرحي كان من أي شيء عداه أكبر. نظرت موظفة المطار في جواز سفري ثم في عيني، وعادت للجواز تقلبه، ثم نظرت في عيني مجددا.. شعرت أنها محرجة، فاسمي عندها اسم إرهابي هارب.. وها أنا أعود حرا لبلدي، ويرحل الطاغية إلى مرتع الذل والخزي والهوان.. وسبحان مقلب الأزمان والأحوال، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء.. يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وهو العزيز القدير. ختمت الموظفة الجواز وقالت لي مرحبا بك في تونسالجديدة. **** O **** ماذا أصف من تونسالجديدة وماذا أترك منها، وأنا العائد إليها بعد غياب طويل؟ وكيف أصفها ولا أصف حالي فيها.. فرحي بها وغربتي عنها؟ وهل تطيب الكتابة عن بلد ومدينة إن لم تكتب من أعماقك ومشاعرك فيها عن أعماقك ومشاعرك المتقلبة فيها وبسببها؟. إن تونس أضحت اليوم أيها القارئ العزيز بلدا عظيما ثائرا مملوء كرامة وفخرا، على غير ما عرفها الناس من قبل، وهي تستحق عن جدارة أن تكتب فيها المقالات والخواطر والكتب، وهي كلها لا تفيها من حقها إلا القليل. شارع الحبيب بورقيبة، الذي كان رمز هيبة الدولة، وسطوة السلطة، وقوة الأجهزة الظاهرة والخفية، المرعبة المخيفة كلها، باتت جادة كبيرة للكرامة والحرية، يموج حراكا وإبداعا وثورة سلمية، تكتب التاريخ بالشموع في مواجهة الرصاص، وبالجمال في مواجهة القبح، وبالكرامة في مواجهة الذل والهوان.. الشارع الذي كان يخاف الناس فيه من ظلهم، يمضون فيه مسرعين متوجسين من شر مستطير، لا يعرفون من أين قد يأتيهم، صار شارعا صادحا بالحرية، يغني للكرامة، ويصنع التاريخ.. تاريخ ثورة عبقرية أذهلت الأمم. في هذا الشارع الحزين البائس المخيف سابقا، المنفجر فرحا وحيوية وجمالا وبهاء هذه الأيام، يقع مقر وزارة الداخلية. في هذا المقر المخيف سُلخت فيما مضى جلود، وأزهقت أرواح، وكسرت عظام، وأهينت نفوس أبية، مُرّغت في الهوان.. في هذا المقر كان الرعب والشيطان يسكنان معا، يقوي أحدهما الآخر، ويتفننان في زرع الشر ورعاية الطغيان.. هناك في ذلك المقر المخيف الذي دخلته في يوم عابر مخيف في السنين الغابرة، قبل رحلة النفي والتيه والتهجير، كان بعض البشر يتحولون إلى وحوش ضارية، وبعضهم الآخر إلى خراف وأضحيات تذبح وتسلخ وتطبخ على نخب الطغيان.. في ذاك المقر كان الشر ينبت من تحت الصخر، وينزل من السماء، ويطلع مع الماء من الحنفية، ويتسلل من شقوق الجدران. هناك كانت عصابة الطاغية تخطط وتنظم وتنشر من هناك الرعب والهلع في النفوس.. لكنها اليوم، يا لتغير الزمان بقدرة الله العزيز القادر، باتت مرعوبة خائفة. غبت عن العاصمة عشرين عاما وثلاثة أشهر وتسعة أيام. عدت إليها فوجدت نفسي غريبا عنها كأنني لم أعرفها يوما. آلمني ذلك الشعور كثيرا.. خنقتني الغصة وكادت الدموع تنفجر من عيني. أخرج من باب الفندق وأنا أتوقع أن أجد المدينة القديمة على يميني.. أمشي خطوات، ثم أكتشف أنني أسير في الاتجاه الخاطئ.. أتوقف قليلا.. أتأمل الوجوه وأشكال الناس، وتشعر نفسي بالبهجة حين أرى الشباب الصادح بالحرية والكرامة في شارع الخوف القديم..(يتبع)