حالة التجاذب والشد والاختلافات الفقهية بين رجال القانون ورجال السياسة التي شهدتها البلاد يوم 14 جانفي الماضي اثر فرار الرئيس المخلوع ولا تزال تشهدها إلى اليوم.. مازالت تلقي بظلّها على الواقع السياسي والدستوري وحتى على المستقبل القريب للبلاد في ظل ما يكتنف دستور 1959 من هنات وثغرات بعد التنقيحات العديدة التي لحقته طوال السنوات الماضية وجعلت منه وثيقة قانونية على مقاس البعض دون مراعاة المصلحة العليا للبلاد. حول الوضع السياسي والدستوري الراهن وسبل الخروج من بعض المآزق القانونية التي تعانيها ليست الحكومة الحالية فحسب بل مختلف المؤسسات الدستورية للبلاد كان لنا هذا اللقاء مع الدكتور الصادق بلعيد الأستاذ الجامعي والمختص في القانون الدستوري. * قبل كل شيء هل من الممكن أن نعود إلى إشكاليات تطبيق الفصل 57 والفصل 56 من الدستور. وما رافق فرار الرئيس التونسي المخلوع من لخبطة دستورية. - المعروف انه ومنذ اندلاع الثورة القومية وبعد فرار الرئيس السابق طرحت مسالة شغور منصب رئيس الجمهورية. وبالطبع وفي هذه الحالات يجب الرجوع إلى الدستور الذي يتحدث في فصله 57 عن شغور منصب رئيس الجمهورية لكنه لم يتعرض للحالة الخاصة التي نعيشها اليوم وهي حالة فرار من البلاد وفرار من المهمة المناطة برئيس الجمهورية والتي ذهب بعض الفقهاء ورجال القانون إلى حد اعتبارها حالة خيانة عظمى. المشكل أن حالة الفرار والهروب لم يتعرض لها صراحة الفصل 57 الذي تحدث فقط عن الوفاة أو الاستقالة أو العجز التام.لكن لم يتكلم عن إنسان في صحة طيبة وهرب من وظيفه وهو ما يجعل الكثير يقر بان الفصل 57 مبدئيا لا ينطبق وان هناك بالتالي ثغرة في الدستور التونسي في هذا المجال بالذات ويقولون أنه وباعتبار وجود ثغرة في الدستور وجب علينا ترك الدستور بكامله جانبا ومعالجة الأمر الاستثنائي بالمرور إلى وسائل استثنائية يمكن أن تكون في شكل لجنة عليا لرئاسة الدولة مكونة من شخصيات مرموقة ومقبولة عند الشعب يتكلف بصفة وقتية بمهام رئيس الدولة حتى يتسنّى للشعب التونسي صاحب السيادة انتخاب مجلس تأسيسي تشريعي جديد يضع نصا جديدا للدستور ويشرع لكيفية انتخاب رئيس الجمهورية. وهناك نظرة أخرى على نقيض هذه الفكرة وتقول انه من الضروري اعتبار دستور 59 قائما وتطبيق الفصل 57 . وهو ما يعني احترام الدستور وتطبيق ما جاء في هذا الفصل لمعالجة حالة شغور رئيس الجمهورية وبالتالي تعيين رئيس بالنيابة لمدة 60 يوما ثم يتم انتخاب رئيس جديد عندها يحل الرئيس الجديد مجلس النواب ويدعو إلى انتخابات.وهو ما تم فعلا. * لكن في الأخير لم يتم تطبيق أي نص من النصوص الدستورية..لا الفصل 57 ولا 56 ولا غيرهما.باعتبار أن مدة ال 60 يوما لن يتم اعتمادها وستواصل الحكومة المؤقتة عملها لفترة ستة أشهر على الأقل. - فعلا وبعد التخلي عن الفصل 56 نظرا لفرار الرئيس المخلوع وبالتالي يصبح الشغور دائما وغير مؤقت تم اعتماد الفصل 57 .لكن من الناحية الواقعية لا يمكن التطبيق الحرفي للفصل 57 خاصة من ناحية الآجال وهو ما فسح المجال لرأي ثالث يقول بأن البلاد تعيش ظرفا خاصا وللضرورة أحكام ونحن في حالة ضرورة وعدم استقرار داخلي وخارجي لذلك وجب التصرف في مدة ال 60 يوما عبر التأويل واخذ الوقت اللازم من خلال تمديد الفترة من 60 إلى 180 يوما وحتى عام كامل لتبقى البلاد في ظرف استثنائي لمدة 6 أشهر حتى العام. وبكل أسف النص لا يتماشى مع هذا التمشي مما يجعلنا نتساءل هل نحن نعمل على أساس دستور 59 ونحترم كل متطلباته أم نشتغل خارج الدستور. وحسب التمشي الحاصل اليوم فإننا نعمل خارج دستور 59 وهو ما يجعلنا نتساءل عن عدم العمل مباشرة بنظام جديد والدخول في جمهورية ثانية.وهو ما يعني بالأساس إلغاء دستور 59 والعمل مع مجلس تأسيسي على دستور جديد . *هذا يؤكد أننا نعيش اليوم حالة عدم وضوح قانوني بين ثلاث حالات لم نعتمد أيا منها بشكل واضح. والمشكل ان البلاد لا يمكنها ان تتحمل طويلا مثل هذا الغموض. بالتأكيد هناك عجلة اقتصادية وجب ان تعود للدوران ومسائل اجتماعية في حاجة للمعالجة ومسائل خارجية تتوفر على عديد الهواجس لذلك وجب وضع أسس ومؤسسات شرعية وديمقراطية تقوم بكل شفافية بمهامها كاملة. البعض يؤكد بان الاتجاه الذي نتبعه اليوم غير مصيب ويتسم بارتباك في الرؤية أدى إلى اضطراب الوضع. اليوم مازلنا في نصف الطريق أخمدنا النار لكن الرؤية لم تتضح نحن في حالة عدم استقرار وأتصور أن الرأي العام لن يقبل طويلا العيش على أساس عدم الاستقرار والغموض.ونخشى من خيبة الأمل وخيبة الأمل لها عواقب. ومن واجب الحكومة اتخاذ عديد الحلول وهي متفرعة كان أولها تجاوز ضغط ال 60 يوما التي تنتهي يوم 20 مارس وهنا يجب الإعلان صراحة من قبل الحكومة والأحزاب ومكونات المجتمع المدني ودون حرج بان الضرورة أجبرتنا على سد الفراغ . * حسب رأيكم إذا حتى الوضع الحالي يمكن أن يقودنا إلى الفراغ. - مادام لم يعلن رسميا وفي بيان حكومي عن قرار تجاوز أجل ال 60 يوما، سنجد أنفسنا في حالة غير شرعية وهو ما يتطلب تكوين لجنة استشارية ترأس الدولة بصفة وقتية وتقوم بتصريف الأعمال وانتخاب مجلس تشريعي . وفي صورة البقاء في حالة الفصل 57 وإقرار تمديد أجل ال 60 يوما فان اعتماد الفصل 39 من الدستور في فقرته الثانية هو المخرج الوحيد من المأزق. وتنص هذه الفقرة الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية انه "وإذا تعذر إجراء الانتخاب في الميعاد المقرر بسبب حالة حرب أو خطر داهم، فإن المدة الرئاسية تمدد بقانون يصادق عليه مجلس النواب، وذلك إلى أن يتسنى إجراء الانتخاب". لكن هنا وجب تأويل مصطلح خطر داهم والسؤال هل نحن الآن في حالة خطر داهم؟ خاصة إذا نظرنا إلى الوضع الأمني العام ووجود عصابات ومليشيات وعمليات قتل وسرقة وعدم استقرار. *لكن المخرج الذي أعلنت عنه ينص على أن التمديد يتم عبر قانون يصادق عليه مجلس النواب..ولكن هذا المجلس يبدو انه غير قادر على عقد جلساته في الظروف الراهنة. - نحن لدينا اليوم رئيس جمهورية مؤقت بإمكاننا أن نمدد له مدة معقولة لكن بشرط أن تكون لنا هياكل مشروعة تقوم بمهامها. *وماذا لو حدث فراغ جديد بحصول طارئ للرئيس الحالي مثلا؟ - كلنا يعرف أن الرئيس المؤقت يمر بظروف صحية غير عادية وحسب الفصل 57 فان رئيس مجلس المستشارين يتولى الرئاسة المؤقتة..ولكن في صورة الحال فان هذا الأخير استقال من مهامه. وبالتالي نسقط مجددا في حالة الفراغ والمطلوب اليوم الإسراع بانتخاب رئيس مجلس مستشارين يكون شخصية مستقلة وتحظى بالإجماع وقتها فقط ستستقر الوضعية الدستورية وتتفرغ الحكومة للعمل وتحوير القوانين اللازمة. كما يمكن أن نلجأ إلى حل ثالث وهو حل سريع ونسبي أساسه النظر في احتمال حل المجالس التشريعية وإنابتها بهياكل دستورية جديدة تمثل الجمهورية الثانية.تتولى إعداد نص دستوري يحل محل دستور 59 الذي أدخلت على كل فصوله تقريبا تعديلات طيلة السنوات الماضية أفقدته هويته وجعلت منه كتلة من "الرقع" لا تخدم الجمهورية بل تخدم الأشخاص. وهذا الحل يخضع اليوم إلى دراسة وتحليل من قبل بعض اخصائيي القانون الدستوري في تونس الذين أعدوا فيه ورقة سنحيطكم بمحتواها قريبا