بقلم صالح عطية لم يكن السيد الباجي قائد السبسي، رئيس الوزراء المؤقت، أمام مهمة سهلة أمس الأول وهو يتوجه للشعب التونسي من خلال حوار متلفز مع القنوات التونسية الثلاثة... فقد تسببت تصريحات وزير الداخلية السابق، فرحات الراجحي في حالة من العنف والتخريب والنهب والسلب في أغلب المدن والولايات التونسية، وخلقت نوعا من التوتر في الأوساط الشعبية، وكرست الإحساس بالخوف والهلع، كما أضفت على المشهد التونسي الكثير من الضبابية والغموض، بعد حالة من الاستقرار النسبي التي عرفتها البلاد خلال الأسابيع الماضية... ولا شك أن هذه التطورات التي تسببت في أزمة ثقة جديدة بين الشعب التونسي والحكومة، جعلت الرأي العام يطرح الكثير من التساؤلات حول تصريحات الراجحي، والحقيقة من الخيال فيما قاله، سيما بخصوص الانقلاب العسكري وحكومة الظل والتنسيق مع الجزائر وغيرها... وكان لابد على الوزير الأول من تقديم إجابات تعيد الثقة، وتزيل الخوف، وتبقي على البعض من رمزية الدولة ومؤسسة الحكومة، وتجعل الأنظار تتجه إلى الموعد الانتخابي القادم، من دون المساس بعلاقات تونس الخارجية، أو تفجير الوضع السياسي الداخلي... فكيف تعامل قائد السبسي مع هذه التطورات؟ وهل توفق في إيقاف «كرة النار» التي كانت تتدحرج باتجاه ملعب الدولة ومحيط الحكومة والمؤسسة العسكرية ومستقبل البلاد؟
وضع صعب.. ولكن..
يمكن القول أن رئيس الحكومة، الذي كان يمشي بين حبّات الجمر المتناثرة هنا وهناك، وجه أكثر من رسالة لأكثر من طرف، وبدا حريصا على استبعاد عناصر الإرباك من المشهد العام.. فعلى الصعيد الشعبي، قدم الرجل الصورة كما هي رغم أنها شديدة التشويش، وحقن الوضع بجرعات من الأمل توجهت بالخصوص للجهات المسحوقة.. أوضح قائد السبسي أن الوضع الاقتصادي شديد الهشاشة، فالسياحة متوقفة أو تكاد، والحكومة تعكف على إعداد ميزانية تكميلية للخروج من المأزق الراهن، والموازنة التونسية بحاجة إلى مبلغ 5 ألاف مليون دينار سنويا (لمدة 5 سنوت متتالية) لكي تتجاوز البلاد أزمة مالية واقتصادية متوقعة، فيما الوضع الأمني المنفلت يزيد الأمر تعقيدا.. في مقابل ذلك تتحرك الحكومة لتوفير الاستثمارات وايجاد فرص عمل وحراك تنموي في الجهات، وقال ان نسبة %80 من الأموال التي ستخصص للتنمية ستتجه نحو القصرين وسيدي بوزيد والقيروان وجندوبة وقفصة والكاف.. مبرزا ان حضور تونس في اجتماع القوى الكبرى الثمانية (G8) في غضون الفترة المقبلة، سيمكنها من أجنحة جديدة للحصول على مساعدات دولية واستثمارات بفضل الثورة التونسية.
من وراء الانفلات الأمني؟
وبذات الوضوح، قال رئيس الحكومة، ان الوضع الامني تفجر في غضون اليومين الماضيين، مباشرة اثر الاعلان عن الصيغة التوفيقية بين الحكومة والهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة بخصوص الفصل 15 من القانون الانتخابي.. ملاحظا أنه «كلما تحسن الوضع الامني، تاتي ازمة مفتعلة لأمر في نفس يعقوب»،، فتعيدنا الى نقطة الصفر.. ومع أنه لم يتهم احدا بعينه، الا انه قال: « نحن نعرفهم»، دون ان يسمي حزبا سياسيا محددا. لكنه اشار بشكل واضح ان (حركة النهضة) ليست طرفا فيما حصل من انخرام امني مؤخرا، وهذا يعني ان ثمة جهة سياسية ما، هي المتسببة في الوضع الراهن، وقد تكون لها علاقة بأحداث سليانة والملف الناجم عنها، الذي مايزال حاليا قيد المعالجة القضائية.. واذا كان المرء يتفهم اسباب تكتم قائد السبسي عن ذكر المتسببين في التطورات الامنية الاخيرة، ربما لاعتبارات سياسية، حتى لا يؤدي ذلك الى تضخيم صورتهم وحجمهم الانتخابي فان الرأي العام التونسي، يتطلع للكشف عن هؤلاء الذين خولت لهم أنفسهم الدفع بالبلاد في هذا الاتجاه.. وربما لم يعد من الممكن الصمت عليهم او على غيرهم..
حول «حكومة الظل»
ونفى الوزير الاول نفيا قاطعا من جهة اخرى، ما كان ردده وزير الداخلية السابق، فرحات الراجحي، حول وجود حكومة خفية تدير الدولة» من وراء ستار»، قائلا: «لن يحكم معي احد ما دمت في الوزارة الاولى» مضيفا: «لأنني اتحمل مسؤوليتي كاملة»، وهذا يعني ان سيناريو وجود السيد كمال اللطيف، ضمن اللعبة الحكومية الراهنة، أمر في دائرة الاستحالة، وفقا لتأكيدات قائد السبسي.. لكن هل للسيد اللطيف علاقات بدوائر الحكومة ربما أتاحت له لعب دور ما في صناعة القرار السياسي، او في بعض التعيينات؟ وهل يتوفر الرجل على علاقات وسط الوجوه الحكومية الجديدة تسمح له بالاضطلاع بوظيفة محددة صلب الدولة بصيغتها الانتقالية الراهنة؟ وإذا كانت للسيد كمال اللطيف ادوار سياسية وطنية مثلما صرح بذلك فهل بوسعه توظيفها في حكومة تكنوقراطية، فضلا عن كونها مؤقتة، مهمتها تصريف الأعمال فحسب؟ أسئلة ستكشف الاسابيع القادمة نصيب الصحة من الخطا فيها..
«لوبيات».. جديدة
في مقابل غياب «الحكومة الخفية» لم ينف السيد الباجي قائد السبسي «وجود لوبيات في النظام الجديد» وحصر هوية هذه اللوبيات في «الاحزاب التي تطالب بتاجيل الانتخابات».. لكنه شدد على ان تاريخ 24 جويلية هو التاريخ النهائي الذي اختارته الحكومة لاجراء انتخابات المجلس التاسيسي، مستبعدا امكانية تأجيل هذا الموعد الا إذا حصلت «قوة قاهرة»، على حد تعبيره في إشارة ربما الى حالة عصيان مدني، وهذا أمر معقد وصعب الحصول في وضع شبيبه بالوضع الوطني الراهن.. في ذات السياق لم يخف قائد السبسي كون حرص الحكومة على اجراء هذه الانتخابات، انما يرتبط برغبتها في اكساب المؤسسات ومنها مؤسسة الحكومة الشرعية اللازمة، وبالتالي فإن خيار التأجيل سيطيل من حالة غياب الشرعية بما قد يفتح البلاد على احتمالات أخرى، وهذا معناه أن مقترح حكومة وحدة وطنية، على النحو الذي رفع من قبل بعض الشباب قبل يومين بالعاصمة، لم يعد له معنى، ومن ثم فهو «أمر غير وارد» حسب قول رئيس الحكومة.. لكن ذلك لم يمنع الوزير الأول من ان يفتح جناح امل جديد للوضع السياسي والحزبي من خلال الاشارة الى «حاجة البلاد الى وفاق وطني»، ملمحا الى امكانية الشروع في مشاورات مع القوى السياسية لبحث « «الترتيبات السياسية» للمرحلة المقبلة، من اجل تجنب حالة الاحتقان السياسي السائدة حاليا..
رسائل أخرى
على ان حوار الباجي قائد السبسي تضمن رسائل أخرى شديدة الأهمية يمكن اختزالها في النقاط التالية: * رفض الحكومة القبول باتخاذ الأراضي التونسية سبيلا لضرب ليبيا تحت أي مبرر، ففي ذلك مس بالسيادة التونسية، وهو ما اعتبره قائد السبسي مؤشرا على غياب الحس الوطني لدى من يعتقدون ذلك.. * ان البطء في مستوى المؤسسة القضائية هو الذي يقف حائلا دون الاسراع في حسم ملفات رموز الفساد في النظام المخلوع، ومعنى هذا ان الحكومة لا تتحمل مسؤولية في هذا التأخير طالما هنالك حرص على استقلالية القضاء.. * تعامله مع تصريحات الراجحي بكيفية تليق بما «تفوه» به لأحد المواقع الالكترونية.. * تبسيطه مسألة الانقلاب العسكري الذي تم الحديث عنه، وهو ما يعني استبعاد هذا الخيار بالنسبة للحكومة المؤقتة وللمؤسسة العسكرية.. والسؤال المطروح في ضوء هذه القراءة، هل يتمكن قائد السبسي من ازالة الاحتقان الامني والسياسي والاعلامي بهذه التصريحات، ام ان لبعض الاطراف السياسية التي يعنيها تفجير الوضع، رأي آخر؟