يقر الملاحظون والمتتبعون للمشهد الإعلامي لتونس ما بعد الثورة أن الإعلام لم يخرج بعد عن المشهد القديم ولم يطرح عنه جلباب الانكماش ولم يتدرج سلم الحرفية بعد، و"لم يضمد جراحه" ولازال يشكو التهميش وعدم إعادة هيكلة القطاع ولم يطرح حلولا عملية تخرج به من السطحية من جهة و"الانفلات" من جهة أخرى... بالرغم من أن محدثينا أجمعوا على أن من "الخطإ الإقرار أو الحديث عن انفلات إعلامي" سواء في ما يخص الأحداث اليومية بصفة عامة أو تناول أحداث القصبة 2 أو ما نتج من "ضجة " اتهم فيها الإعلام بالتهويل والمبالغة على إثر تصريحات السيد فرحات الراجحي. ففي غياب الحقيقة أو بالأحرى في تغييب مهمة الإعلام ألا وهي طلب الحقيقة كمبدإأساسي لهذه المهنة على مدى عقود طويلة أصبح من الصعب على التونسي كمتلق أن يستوعب هذا "الانفتاح الإعلامي المركب" الذي لا يخضع في بعض جوانبه إلى الحرفية . يقول جمال الزرن أستاذ محاضر في علوم الإعلام والإتصال "لأول مرة تعي السلطة التنفيذية ما يمكن أن تقدر عليه الصحافة المكتوبة في مناخ حر أكثر منه مناخ استبدادي، وليس المهم فيما قاله الراجحي وإنما تأثير ما قاله في الرأي العام أي فيما نشر ووقع تداوله في الصحف، وبالتالي تحول الصحافة التونسية من صحافة البلاغات الإعلامية إلى صحافة الصحفيين وخلق أحداث وراءها إعلاميون لا مؤسسات" مضيفا أن "الإعلام هو خلطة مركبة وهو ظاهرة مجتمعية وليست مسألة خاصة بصحفيين كأشخاص، لذا من الخطإ الحديث عن انفلات إعلامي بل يمكن الحديث عن ثورة في الإعلام بعد نشر تصريحات الراجحي" مؤكدا أن "الصحافة اليوم في وضعها الطبيعي وعلينا أن نشجعها بفتح ملف الإعلام لا في الأروقة والنزل بل في الإدارات المعنية وإبعاد رموز الفساد منها لكون الإعلام يمثل قضية مجتمع، فاليوم مخطئ من يريد أن يحكم الشعب التونسي ولا يأخذ بعين الاعتبار أهمية الصحفي والإعلام في تشكيل الرأي العام وحرية التعبير لأن التونسي كمتلق كان مقصيا ومهمشا من المشهد الإعلامي لذلك على إعلام الخدمات العامة أن يتطلع بالدور الريادي في إظهار قيمة التعددية والاختلاف في التوجهات والإنصاف والعدالة وإظهار الحقيقة ونشرها". ومن جهته قال محسن الخوني مختص في الفلسفة الأخلاقية والسياسية أنه "لا يمكن أن نكرس لإعلام حر إلا عند بلوغ الحقيقة عبر وسائل قد تكون متاحة ومتعددة وقد تكون غير ذلك، فالحاصل اليوم أن الإشاعات تدور في الشارع وتتداول بالمقاهي دون تكذيبها أو تأكيدها من قبل السلط المعنية أضف إلى ذلك غياب الإعلام لنشر الحقيقة، فبمجرد التفوه بها من مسؤول سابق في إطار غير رسمي تأخذ حيزا كبيرا في أذهان الناس وبالتالي تشفي الغليل بحثا عن الحقيقة وعن إجابات مقنعة، ولهذا أُبرىء الإعلام من تهمة الانفلات والمبالغة والتهويل باعتبار أن حريته تعني التناقض وخروج الإشاعة والإعلام بالضرورة يعني الخلاف والخصام وإلا عدنا إلى ردة الفعل القديمة والدولة القديمة". كما أكد الخوني أنه "على الإعلام أن لا يهتم بالشارع وينصب نفسه معلما من منظور أخلاقي ويسقط في منطق السياسة فلا تكون له بالتالي سلطة على المشهد التونسي بصفة عامة وإنما يصبح تابعا للسلطة، فالحقيقة هي الغاية المرجوة، فقد يكون للإعلام وظيفة تهدئة الجماهير ولكن يبقى الاختلاف في كيفية التهدئة ووسائلها وعليه يجب التعامل مع الشعب على أنه ناضج ومسؤول ولا يتحقق ذلك إلا بالأسلوب والتقنية والشكل الذي تقدم به الحقيقة بعيدا عن أي إيديولوجيات أو تأثيرات نفسية، فإعلامنا اليوم طغت عليه العاطفة حتى في ترويج الأخبار وتحليلها". وفي ذات السياق قال محمود الذوادي مدير مركز تونس لحرية الصحافة أن "الإعلام مازال يتحرك في نفس الإطار القديم، فمصدر القرار تحول من قرطاج إلى القصبة،" موضحا "صحيح أن هناك انفتاحا ولكن بقي الإعلام إلى حد اليوم غير قادر على الإلتساق بالواقع، ومهمة انقاذه موكولة إلى الصحفيين وحدهم دون غيرهم وعليهم أن لا ينتظروا أي تغيير لا من هذه الحكومة ولا من غيرها وعليهم أن يحققوا النقلة النوعية بأنفسهم والتخلي عن الجلباب القديم بامتهان الحرفية والموضوعية في التعامل مع الأحداث".