قرأت مقالا للزميل محسن الزغلامي في "الصباح" تضمن رأيا شخصيا محترما، لكنه من نوع الآراء التي لا يمكن ألا تستدعي منا التفكر وإعمال العقل، اتعاظا من تجارب التاريخ القريب والبعيد، واستشرافا لأقوم السبل التي تنأى بثورتنا عن المطبات والمزالق. انطلق صاحب الرأي من ملاحظة لم يعد يختلف حولها كثيرون، وهي أن أعمال «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي» باتت تتسم بمشاحنات ومناكفات تُقلل من مصداقيتها. وبنى على ذلك التشخيص العام وجهة نظر تدعو للعمل على إيجاد هيئة بديلة. إلى هذا الحد لا اعتراض على الفكرة، فالتسلسل المنطقي متماسك، والمقدمات صحيحة ومن حق كل فرد أن يجتهد لإيجاد البدائل التي يعتبرها أنسب لهذه المرحلة. لكن ما يحتاج إلى تمحيص ومناقشة هو طبيعة الصيغة البديلة، التي لا ترى بُدا من إقحام المؤسسة العسكرية في إدارة الشأن السياسي. ويعتقد صاحب الفكرة أنه من «الضروري أن تكون هناك هيئة عليا مهيمنة وذات نفوذ وتحظى بالمصداقية لدى الشعب وقواه الوطنية - أولا وآخرا - يكون أعضاؤها بمثابة الأمناء على هذه الثورة العظيمة». مَن هؤلاء؟ يُجيب المُجيب بأنهم «شرفاء المؤسسة العسكرية الوطنية التي كانت ولا تزال الظهير القوي لهذه الثورة والتي انتصرت في الوقت الحاسم من عمر الثورة للشعب الثائر ولدماء الشهداء من أبنائه». ويزيد إيضاحا عندما يعتبر أن رجال المؤسسة العسكرية «هم المؤهلون أكثر من سواهم ليكونوا حاضرين كأعضاء في صلب هذه الهيئة التي يمكن أن تحمل اسم «هيئة أمناء الثورة». وهنا لا بد من وضع الأمور في نصابها، إذ هناك حقائق هي موضع إجماع لابد من استحضارها عند مناقشة موضوع على هذه الدرجة من الأهمية والحساسية في آن معا. المؤسسة والدور ثلاث حقائق ينبغي أن تكون حاضرة لدى مناقشة هذه الفكرة: أولها أن الجيش الوطني، والمقصود هنا قيادته، لعب دورا حاسما في نجاح الثورة، وكان الكاتب مُحقا تماما في التذكير بذلك الدور, ثانيا أن المؤسسة العسكرية حمت الثورة بعد فرار رأس النظام وحافظت على مؤسسات الدولة كما أنها ذادت ومازالت تذود عن الحمى في وجه التداعيات الخطرة والقاسية للحرب الدائرة على مرمى حجر من حدودنا، وأحيانا داخل حياضنا وثالثا أن هذا الدور، على دقته وخطورته، لم يُغو تلك المؤسسة والقائمين عليها بالإستحواذ على الحكم، مثلما حصل في ثورات أخرى تسلم فيها مجلس عسكري مفاتيح الثورة ولا أقصد بذلك تجارب قريبة منا زمنيا وإنما حتى تجارب بعيدة، مثل ثورة الشعب السوداني الأولى ضد المشير ابراهيم عبود في21 أكتوبر 1964 أو ثورته الثانية ضد المشير جعفر النميري في 6 أفريل 1985، وهما ثورتان مدنيتان وسلميتان. بيت القصيد أن للمؤسسة العسكرية دورا مُحددا، واضح المعالم، دقيق التخوم لا يمكن اللعب فيه أو اللعب به وللمؤسسات السياسية، التي هي مدنية بالتعريف، دور آخر ووظائف أخرى تواضع عليها الفكر السياسي منذ أيام الإغريق، ولم يُبدع فيها الفكر البشري الكثير من بعدهم. ما يهمنا كتونسيين أن تاريخنا لم يحفل بالتداخل بين هذين النطاقين، بل على العكس ظلت المؤسسة العسكرية تنأى بنفسها عن الإشتغال بلعبة السياسة وتتفادى ركوب هذا المركب المُغري، على عكس بلدان عربية عدة عرفت انتشار التنظيمات الحزبية داخل القوات المسلحة، مما تسبب في كوارث ليست أقلها الإنقلابات المتكررة وكان كل انقلاب يطلع على الشعب ب»مجلس قيادة ثورة» يسطو على الحكم ويستأثر بحق التحدث باسم الشعب، لكي يُوزع الإمتيازات بين أفراده. ولم يسلم أي بلد عربي أو افريقي من البلدان التي حكمتها طغمة عسكرية من تلك المصادرة لحقوق الشعوب وللحريات العامة والفردية والفرق شاسع بين العسكر والعسكرتاريا، وإن كان المقام لا يسمح باستعراض ما ارتكبت العسكرتاريات العربية والإفريقية من فظاعات في حق الشعوب... ولعل تجربتنا في تونس اتسمت طيلة خمسة عقود ببُعدها عن ذلك الأنموذج السيء، نتيجة خيار جوهري وضع المؤسسات المدنية في مكانها، رغم كل السلبيات التي شابتها، ووضع المؤسسة العسكرية أيضا في مكانها، على رغم محاولات إقحامها في الصراعات السياسية، مثلما حصل في قصر هلال في أكتوبر 1977، ثم في انتفاضة الخبز في 1984. ثلاثة استنتاجات وسؤال يقودنا هذا الإستعراض السريع إلى استنتاج أول مفاده أن المؤسسة العسكرية في تونس بقيت متسامية فوق الصراعات الحزبية والفئوية والشخصية، وهذا مكسب لا يُقدر بثمن، بل لا تُقدر قيمته إلا الشعوب التي اكتوت بسعير عسكرة الدولة، كما هو الحال في سوريا ومصر والسودان وليبيا وغيرها وبناء عليه، فموقف الجيش الوطني قيادة وجنودا خلال الثورة لم يأت من فراغ، وإنما هو استلهام واستمرار لقيم جمهورية راسخة الجذور ويُحيلنا الإستنتاجان الآنفان إلى ثالث نلتقطه من واقعنا المعيش اليوم، ومفاده أن المؤسسة العسكرية لم تكترث بالمشاحنات والخلافات السياسية منذ انتصار الثورة، وهي لم تُبد أية رغبة في إقحام نفسها في هذا النوع من الجدل، فما الداعي لمحاولة حشرها في أمر لم تكن يوما منذورة له، ولا هي راغبة في ركوب مركبه؟ ألا تستدعي الفرادة التونسية، بما هي تميز وسط العسكرتاريات والملكيات المُحيطة، مزيدا من التأصيل والتمكين بدل التشكيك والمراجعة؟ بهذا المعنى نعود إلى طرح السؤال الجوهري المُثار في مقال الزميل الزغلامي، أيهما أسلم: أن نجد حلولا وبدائل لتصحيح أداء «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي»، بالمحافظة على تقاليدنا الجمهورية، التي هي مفخرتنا، على رغم كل ما شابها أيام بورقيبة وبن علي، أم بهدم المعبد واقتراف ما احترسنا منه منذ ميلاد الدولة الوطنية؟ * إعلامي