الخوف من بعض التجمعيين وجيوب الردة بعد الثورة لا يقل خطورة ممن حولوا المهمات الرئيسية لقيام الثورة بتونس من تحقيق المساواة و العدالة الاجتماعية والكرامة والحق في الشغل و غيرها إلى نقاشات بيزنطية لا تسمن و لا تغني من جوع: أصحابها يأتون من حين لآخر ليستعرضوا عضلاتهم و ليطلعونا على ما قرأوه من كتب و ما لديهم من حماس و انتصار لفكر معين و معاداة لاديولوجيا لا تتوافق و أهواءهم و مطامحهم. بكل بساطة و بكل وضوح نقول لهؤلاء الذين أصبح دأبهم و ديدنهم الحديث عن المسائل الدينية سواء منها الفقهية أو التشريعية و الحديث عن السنة و الشعية وآخرها الجدل القائم حول براءة عائشة رضي الله عنها أو ضرب عرضها و اتهامها بالزنا... من سمح لهؤلاء باتخاذ المنابر الاذاعية و التلفزية وسيلة لإفراغ جعبتهم لكي يكيل الواحد للآخر السب و الشتم و كل حزب بما لديه فرحون... و كلما تقدمت الأيام و الأشهر تتناسى القضايا التي من أجلها انتفضت شريحة من المجتمع التونسي كانت مهضومة و مسلوبة الحقوق تعيش تحت حافة الفقر وأفواهها مكمومة. أين كان هؤلاء زمن الجمر أيام القهر حينما كان السيف مسلولا صباحا مساء؟ إنهم بملء الفم المثقفون التقليديون الذين عاشوا في برجهم العاجي بعيدا بعد السماء عن الأرض عن الجماهير الشعبية و كانوا مرتاحين بوضعهم الطبقي الذي يوفر لهم السيارة الفارهة و البيت الفاخر و العيش الرغيد و ما تخيل لهم مراتبهم من الترحال في كثير من بلدان العالم و منهم أيضا من كان ينعم بموائد السلطان و هداياه و أوسمته و نياشينه. أين كان هؤلاء لما سقط الشهداء في الحوض المنجمي؟ أين كان هؤلاء لما قمع المنتفضون في بنقردان و الظلم و القهر تحكم به البلاد؟ أين هؤلاء حينما ارتفعت الأسعار مئات المرات و سنت القوانين الجائرة و عمت المحسوبية و الرشوة كل أنحاء البلاد؟ أين كان هؤلاء حينما عبث بالبرامج التربوية و أفرغت المنظومة التربوية من محتواها التكويني و المعرفي و بعدها الوطني و شلّ المستوى اللغوي للناشئة؟ أين كان هؤلاء المثقفون والبارعون في الحوار و الجدل و النقاش حينما كان المخلوع يعلن في كل مناسبة: نأذن اليوم ب ، نأذن اليوم ب..، نأذن اليوم ب.. و يكون في ذلك خراب البلاد و التلاعب بمصالح العباد؟ كان هؤلاء يومئذ ينظرون في الصالونات في رفاهية المكيفات صيفا و شتاء يتاجرون في بيع مؤلفاتهم ويهرولون لإلقاء محاضراتهم بالمقابل و التي لم تكن تحكي آلام شعبهم و همه و فاقته و لم تكن شاهد عيان و لو بحرف واحد عمّا تعانيه الطبقات المهضومة و المسحوقة من ظلم و عسف وويل السياط و إنما همهم الوحيد العودة بنا إلى الماضي و إن كتبوا اليوم فإنهم يقتنصون الفترة التاريخية التي تعيشها البلاد ليروجوا بضاعتهم, اليوم نقول لهم بصوت عال بأن هذه المنابر ليست منابرهم و ليس لهم الحق في اكتساحها بل إنها منابر الذين صنعوها بتضحياتهم ونضالاتهم و ذاقوا عذاب السجون و لهيب عصا الجلاد بن علي و زبانيته ذنبهم الوحيد أنهم ضاقوا ذرعا بالضيم وأنقض ظهورهم البأس الاجتماعي و هم صامتون قابعون في مواقعهم الضخمة والفاخرة و عن مشاغل المعذبين من أبناء شعبهم معرضون و مولون لهم الأدبار. إن هذه المنابر أمانة في أعناق من خرج ليتصدى للظلم و يقاوم الاستبداد في عهد الدكتاتور و جوقته حتى يواصل من خلاله طريق النضال نحو الحرية و الكرامة الوطنية و العدالة الاجتماعية و لا لترك المجال لمن تمتعوا بالأمس بوضعيتهم المريحة و عاشوا حياتهم صامتين أو مؤيدين أو مناشدين و اليوم يريدون أن يتمتعوا باللقمة السائغة بلذة ثمرة لم يعملوا يوما على غرسها ورعايتها ولم يذوقوا من أجلها صروف البأساء و الضراء... أين هؤلاء من آمال و أحلام معتصمي القصبة 1 و القصبة 2 الذين زحفوا لذلك التجمهر التاريخي من كل حدب و صوب لإسقاط الحكومة الأولى و الحكومة الثانية كما فعلوا في اليوم المشهود 14 جانفي أمام وزارة الداخلية لا يلوون على شئ و لا مآرب لهم غير إطاحة بن علي؟ من هؤلاء الذين دخلوا بيوتنا بدون استئذان عبر وسائل الإعلام السمعية و البصرية باسم ما يمتلكونه من رصيد علمي و معرفي أو شهادات جامعية؟ ليخبرنا هؤلاء عن عدد المسيرات التي شاركوا فيها في زمن بورقيبة أو بن علي، ليخبرنا هؤلاء عن عدد الزيارات التي قاموا بها إلى الأماكن المنكوبة ليؤازروا أهلها و لو بكلمة طيبة. ليخبرنا هؤلاء عن عدد كلمات الحق التي قالوها في وجه مسؤول جائر متسلط أم كانوا أداة طيعة لتطبيق سياسة بن علي سواء في المجال الثقافي أو التربوي أو الاقتصادي و غيرها. ليخبرنا هؤلاء عن الهواتف و المراسلات أو الوقوف لحما و دما إلى جانب من حكم عليهم بتهم سياسية أو نقابية و لم يتنصلوا من أقرب الناس إليهم و لم يخافوا و لم يخشوا من أن تلحق بهم التهم فتخرجهم من وضعيتهم المريحة ونعيمهم الكبير؟ إن الذين صنعوا 14 جانفي 2011 ليسوا كما يعتقد الكلمنجيون و المنظرون كثيرو الكلام عديمو الممارسة بأنهم سيساقون كما أراد بن علي أن يسوقهم.