كان المسرح البلدي في امسية اول امس حاضنا للعشرات من عشاق الشعر ومن عشاق محمود درويش تحديدا عشاق استقبلوا شاعرهم بالتصفيق والهتاف والوقوف، فأجابهم شاكرا ثم دخل قصيدته دون مقدمات او ثرثرة دخلها بلغته وذاكرته ودمه وايقاع الداخل فيه. انها امسية خاض فيها محمود درويش مغامرة غير عادية كللت بالنجاح فهي امسية مختلفة عن كل الامسيات الأخرى التي قدمها في تونس لم يقرأ فيها قصائد وانما خصصها لقصيدة واحدة مطولة سماها «الجدارية» قصيدة كتبها عام 1999 ونشرت عن دار رياض الريس في لبنان عام 2000 واتت على قرابة المائة وخمس صفحات. ليس من السهل ان ينخرط شاعر في تجربة كهذه ولكن درويش بقدرته على المغامرة وشدة التصاقه بقصيدته وعزمه على ايصالها لاكثر عدد ممكن من احباء شعره. قرأ «الجدارية» طيلة ساعة او اكثر دون ان يزاحمها بأي قصيدة اخرى من قصائده الكثيرة والمعروفة. ومثل هذا الاختيار يعكس امتلاء درويش بذاته كشاعر يتحكم في عملية التلقي ويستطيع ان يقودها نحو النجاح، خصوصا ان الكاريزما التي يتمتع بها والمشروعية الابداعية لقصيدة «الجدارية» قد خولا له خوض التجربة باقناع. وقد بدا محمود درويش وهو يقرأ «الجدارية» اقرب القصائد الى نفسه والى جسده وكأنه يكتبها من جديد. استعاد حالتها وقلقها وصراعها ومجموعة الاحاسيس والاسئلة التي احاطت به وهو يعيش مخاض «الجدارية» ويكتبها.. رأينا محمود درويش وهو يُنازل الموت ببسالة وبضعف ويقول له «هزمتك يا موت الفنون جميعها». وللعلم كتب محمود درويش هذه القصيدة على اثر ازمة صحية مر بها وعاش خلالها حالة من الغيبوبة وشاهد فيها ذهنه وجسده وروحه في صور اخرى عمقت لديه اسئلة جديدة وسافرت به الى مناطق مجهولة في النفس والوجود: لا شيء يوجعني على باب القيامة لا الزمان ولا العواصف. لا أحس بخفة الاشياء او ثقل الهواجس. لم أجد احدا لأسأل اين «ابني» الان؟ اين مدينة الموتى، وأين أنا؟ فلا عدم هنا في اللا هنا.. في اللا زمان، ولا وجود وكأنني قد مت قبل الآن.. اعرف هذه الرؤية وأعرف أنني امضي الى ما ليست اعرف، ربما مازلت حيا في مكان ما، واعرفُ ما أريدُ.. ان قصيدة «الجدارية» قد مكنت محمود درويش من ان يوازي بين الموسيقى الداخلية والموسيقى الخارجية بعد أن كانت السطوة لموسيقى الخارج.. بل ان ايقاع نفسه في الداخل وايقاعاتها المختلفة الخافتة الصوت بحكم اقامتها في اعماق الشاعر، ألبست الجدارية وقارا من نوع آخر لا يمكن ان يصنعه سوى شعر الذات وسيرتها الطويلة هذا هو اسمك قالت امرأة، وغابت في ممر بياضها هذا هو اسمك، فاحفظ اسمك جيدا لا تختلف معه على حرف ولا تعبأ برايات القبائل، كن صديقا لاسمك الافقي جرّبه مع الاحياء والموتى ودروبه على النطق الصحيح برفقة الغرباء واكتبه على احدى صخور الكهف، يا اسمي: سوف تكبر حين اكبر الغريب أخو الغريب سنأخذ الانثى بحرف العلة المنذور للنايات. يا اسمي: أين نحن الآن؟ قل: ما الآن، ما الغد؟ ما الزمان وما المكان وما القديم وما الجديد؟ سنكون يوما ما نريدُ (...) في هذه القصيدة، يدخل درويش غرفته وغرفة الشعر السرية لذلك نراه مقاطعا في كل مقاطع «الجدارية» رائحه الثورة، مقيما حوارا وحوارات مع الموت اولا ومعه الامكنة والأزمنة والواقع والحلم ثانيا. حوار فيه انشاد واثق، نجح درويش في ايصاله بصوته بالاضافةالى صنعته الشعرية. وفي الجدارية وظف تقنية الحوار والسيناريو وفتح نوافذ على غرف دانتي الموي وروني شار وانتقل ببراعة شاعر كبير من الفكرة والرموز الى تفاصيل صغيرة (فرشاة الاسنان) الصابون (ماكنة الحلاقة..). كل شيء يمكن ان يساعده على تحديد هوية الذات والموت والارض والحياة، اقعده درويش في «جداريته» وتلك هي فرادة هذه القصيدة التي عرت اكثر من كل مجموعاته التي سبقتها عمق درويش الشعري خصوصا انه في هذا العمل لم يتخل درويش عن معجمه بشكل مطلق بل في اكثر من مقطع نرى مجموعاته «آرى ما اريد» و«أحد عشر كوكبا» و«يوميات الحزن العادي» ولكن في نفس الوقت يغيب كل ذلك في كثير من المقاطع الاخرى وتلك هي ما يُعبر عنها بصنعة الشاعر الكبير. لقد كتب محمود درويش في امسية اول امس «الجدارية» بصوته فكان موفقا وغلبت مواطن القوة في القصيدة مواطن الخفوت فيها، ذلك الخفوت الذي لا بد منه عندما يقرر ذهن الشاعر ان يفرض مفردات بذاتها، لشدة بلاغتها الوجودية والفلسفية على حساب الشعري احيانا. آمال موسى
...ويتسلم جائزة 7 نوفمبر للإبداع: الجائزة رسالة تضامن من تونس إلى المبدع الفلسطيني الوطني... والإنساني تونس - الصباح: شهدت صباح أمس القاعة الكبرى للمكتبة الوطنية حفلا تسلم خلاله الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش جائزة السابع من نوفمبر للإبداع التي أسندها له سيادة رئيس الجمهورية في الذكرى العشرين للتحول. وعبّر الشاعر الفلسطيني محمود درويش في هذا الحفل الذي حضره جمع هام من المثقفين عن عميق تأثره بهذا التكريم وقال «إن بين تونسوفلسطين قصة حب معلن ووفاء الفلسطينيينلتونس عميق كعذاباتهم... احتضنتهم منفيين ووفّرت لهم حرية النشاط السياسي لمواصلة المسيرة... وحين أتيحت لهم العودة إلى جزء من بلادهم ودّعتهم بكل الحب والوفاء لفلسطين». وأضاف شاعر فلسطين الكبير: «إن الجائزة الكريمة هي رسالة حب وتضامن من الشعب التونسي ممثلا في سيادة الرئيس إلى دور الإبداع الفلسطيني الوطني والإنساني ممثلا في شخصي». معرض وثائقي وشهد مدخل القاعة معرضا وثائقيا تضمّن مجموعة من مؤلفات الشاعر محمود درويش وما كتب عن أشعاره وعددا من حواراته في الصحافة الوطنية.