بقلم: ابراهيم شبوح في مثل ظروف تونس الثائرة والمتحولَة إلى وجودٍ جديدٍ يَصْنعه أهلُها الطيبون بإرادتهم، ويَلْتحمون بالحياة بدون أوْصياء، في هذه الأَحْوال يكونُ للمثقفين من أهل الفِكْر حضور المُسْهِمِين في التحليل والإنارة والتَرشيد، يواكِبون أولئك الذين أسوَدت أيديهم بالبارود ونزفت جِراحُهم، بينما ظلت أعينهم تُشرق بالإلْهام. أثناء انعقاد نَدْوة الأستاذ محمد الطالبي في بيت الحكمة خرج الأستاذ جمعة شيخة ليعلن عن وُجوده يقذفُ ويُردد أسطوانته الحائرة بابن خلدون وتُراثه المُهاجِر. ووَدَدْتُ لو أنه عاصَر ابنَ خَلْدون وتمَسك به حتى لا يُهاجر هربًا مما أعده له أهلُ الحَسَد والغيرة وقُبح النفوس من مَهالك. ففي ردك على مقالي تحدثتَ عن اللجان العلمية التي خططَتْ لنَشْر كتاب العبر، فنقلْتَ كلامي عن هذه اللجنة القاهرية بما يوهمُ أنه من إفاداتك، وقد خطَتْ عند تأسيسها سنة 1936 خطوةً مهمة في نشر الكتاب، وكانت تَنْتظر أن تعْتمد النسخةَ الفارسيَة التي أرسلَها ابنُ خلدون من مصر إلى مكتبة أبي فارس عبْد العزيز المريني سنة 799ه بفاس، ولم يتحقق لها ذلك، لتَلاشي أكثر أجزاء النسخة واختفاء جزء المقدمة خاصة، وبقي أكثر الجزء الثاني الذي بدأوا بنَشْره ولكنهم لم يَعْتمدوه، وتساءَلْتُ عما ذكَره الناشر السيد محمد المهدي الحبابي رحمه الله في مقدمته واستند عليه العلامة أحمد أمين من أن الوزارة المَغْربية أعلنت بإذْن السلطان الموافقةَ على مقابلة هذا العَمل بنسْخة ابن خَلدون الموقوفة على القروييِن، وتشكَكْتُ في صحة هذا الوَعْد، لأن الجزءَ الثاني الذي نشره الأستاذ علال الفاسي وعبد العزيز بن إدريس رحمهما الله يوجد ما يقابله بل أكثره في النسخة الفارسية ولم يُسْتعمل. وهذه حقيقة تعبر عن دقة ما كتبتُ (النص من مقدمتي. الجزء 1: 24 26 # ). وقد حرفتَ بأني " كَذبتُ الناشر والأستاذ أحمد أمين ثم المحققين جميعًا، وأنها تُهم خَطيرة لخيرة عُلماء العالم العربي في القَرْن العشرين " ! ! في حين أنني قلتُ: إن هذا المشروع قد فتَر بعد أن انطلقَ بحماسٍ سرعان ما خَفَت. ولم أكن أعرف وقتها أسبابَ توقفه. حتى قرأتُ أخيرًا في رسالةٍ كتبها الأمير شكيب أرسلان يَذْكر أن الحكومة الفرنسية ضايَقَتْ النَاشر السيد الحبابي ونَفَتْه خارج وطنه لصلته ومراسلاته مع الأمير الأرسلاني الذي تعتبره من أكبر أعداء الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي. (أرسلان: عروة الاتحاد ص 150، بيروت 2009) وكم كنتُ أرجو لك أن تمر بك حالةُ إنصاف، لتذكرَ على الأقل بقيةَ ما كتبتُه عن هذه اللجْنة (وقد كان لي شَرفُ وَصْلِ سَندي بثلاثة منهم)، فقد قلتُ: إن أهم ما قَدَمه هذا المشروع وَقْتها من رَمْزٍ متسع الدِلالة، هو أن تلك النخبة التي آزرَت الناشر والتفَتْ حوله وتعهدت بإعْداد أجزاء الكتاب، كانت عميقةَ الإيمان بأن عبد الرحمن بن خَلْدون، الحضرمي الأصول، التونسي المولد والنَشْأة، الأندلسي المغاربي في تَجْربته وتطور وَعْيه، المصري الذي أَنْهَى حياتَه في رحاب القاهرة بعد تقلُب الزَمان علَيْه بالخَفْضِ والرفع، أن هذا التونسي الضاربَ في الآفاق، الباحث عن مُسْتقر، قيمة إنسانية كُبْرى، ورمزٌ بارز ومُتفرد من رموز التنوير، وحَصيلة ثقافية عظيمة، وبذلك تمدد وَطنُه في الشَرق والغَرب، و" ملأ الدنيا وشَغل الناس "، وأصبَح تُراثًا إنسانيًا. لقد كانت هذه اللَجنة لجنَة فِعْلٍ، ظهر لها أثرٌ واضحٌ في تصحيح الكتاب وإخراجه على أصولٍ خطيه ومُراجعة دقيقة. شملت الجزء الثاني بكامله من التجزئة السباعية. أما اللجنة الثانية التي ذكرتَها واندسَسْت فيها، فإنك في أول الثمانينات عند تقدمي بالمشروع لم تكن غير مبتدئ في حياتك الجامعية، فلماذا تطلبُ النهايات في البدايات؟!، ولا أذكر أني اجتمعت بها حول الموضوع أو صدَر إلي أمرُ تَكْليفها لي بمهمة (!) فهذا كلام عجيب. وقد قلتُ قولي في هذا الأَمْر ولا أعيده بعد الآن، وهو أن المشروع مشروعي تقدمت به مفصَلاً وحاضرتُ فيه، وكان تقديمه لبيت الحكمة التي كنت عضوًا في مجلسها العلمي، باقتراح من الأستاذ عز الدين باش شاوش (وزير الثقافة الحالي) وهو وحده الذي يعرف ويؤكد حقيقةَ ما أقول، وكيف بدأ المشروع وكيف انتهى. ولم أستلم منه ولا من غيره أَي مُقابل، ولم يصلْني أي تكليف بالمهمة التي كلَفتني بجمْع المَخْطوطات وتَقْديمها إلى حَضْرتك! وابحثْ إن كنت تجد لي وصلاً من المال العام قد تحول إلي بأي صيغة كانت. وذكرت متجنيًا أني اقضي أغلب الأوقات خارج تونس في مهمات رسمية وغير رسمية، وهذا تشويه، فحجم ما أنجزته من أعمالٍ ضمن مسؤولياتي يسفه ذلك، ووثائق الوزارة موجودة تمكن من الإحصاء والمقارنة. والرحلات العلمية بدأتها بعد ترك العمل الرسمي سنة 1994 ولديَ كل مستندات أسفاري. وكانت نظرتي التي حررتها للأستاذ المرحوم أحمد عبد السلام أن يكون المشروع مغاربيا وعربيا وأوروبيًا، وتلك منزلة ابن خلدون، وليس مقتصرًا على فئة أو بلد واحد، فالتوسع في التشريك انفتاحٌ على ما انفتح عليه ابن خلدون الذي عرف أكثر من وَطَن، ولأن بعضَ الحِقَب التاريخية لا يوجد المختصون فيها مجمعين في كل بلد، مثل التتار والهند، والباحثون الذين يتوفر فيهم التمكن من العربية وأساليبها، ومعرفة تاريخ تلك الحِقب التي يعتنون بها، والإطلاع الواسع على مصادرها التي تمكنهم من المراقبة والتدقيق، وإجادة قراءة الخُطوط القديمة هم قلة نادرةٌ، لذلك اتخذت الوجْهة التي اخترتُها في تَنْويع التشريك. ولقد أسأتَ أيها الأستاذ بما لا يشرفك وبما يعود عليك أثره، عندما اعتبرت الذين أسهموا في انجاز العَمل متطفلينَ غير مختصين ومُرْتزقة ولَيْسو باحثين، فهذا تجاوز وجهل بأقدار الناس، فتلك الأسماء مقترنة بأعمالها التي تقوم عليها مكتبة التراث وينتفع بها الناس، ومجال انتشارهم والثقة في عملهم أمرٌ يقَدِرُه أهل الإنصاف من أهل العلم. أقدم بعض ما يَرد على أوهامك وإيهامك وكل مقاصدك التي تحتمي في عَرْضها دائمًا بذكر أسْماء أحْترمُها وكأنك تتَمترَسُ وراءَها. " تحدثت عن اختلافي مع اللجنة وأني تفرَدتُ بطريقةٍ في التحقيق غير علمية، وتمسكْتُ بها حتى تُحَل " اللجنة " وأَنفردَ بالمشروع، ليصبحَ عملاً ناقصًا لا يخلو من شوائب " (!). أقول: إني لا أذكر أني ناقشتُ مع أحد مناهج التَحقيق، فذلك لا يتم عادةً إلا في مرحلة أخيرة بعد أن تتوفر مواد العمل الكاملة.وتذكُر " أنَ المشروع كان مشروعَ دَوْلة فتحوَل إلى مشروع فَرْد ". وأعيد لك أن أي مشروع يقوم بإرادة أَصْحابه ووضوح تَصوُراتِهم، وعندما تقَدَمْت بالمشروع المتكامل كنتُ من أَجْهزة الدَوْلة الثَقافية العامِلة. وكأي باحثٍ جاد لم أفْترْ عن متابعة مصادري ومُلاحقتها حيثما تكون، وتَحْليلها ومعرفة ما يُسْتند عليه منْها وما هو ثانوي، وهذا جهدٌ فرديٌ لم يقدمْه لي أحد ولا ينبغي لي أن أتنازل عنه لأحد، وإذا تذكَرتَ أيها الأستاذ أن لك أو لغيرك ورقةٌ قدمتَها لي أو إشارةٌ أفدتُ منها، أو لجهةٍ ما صورةٌ لمخطوطٍ جاءت لغَيْري وانفردْتُ بها دونَه، فليُطْلبْ ذلك ويُعلن، وكفى إفكًا. وصورُ مواد التراث من مخطوطاتٍ وآثار تُنْقل وتُتبادل بدون مَنْع، والمنع خاص بالأصول وليس كما زعمتَ، وكان بإمكانك أن تطلب من مكتبات العالم الكبرى ما تريد فيجيئك على قرص ممغنط، فلماذا أنت متوقف أكثر من عقدين، هل تنتظر الذي كلفته بتجميع المخطوطات لتبدأ العمل! أليس هذا أمرٌ عُجاب؟! ما نقلتَهُ عن الأستاذ أبي القاسم محمد كرو وهو صديق أحترمه، يحتاج إلى إضاءة بسيطة، هو أني لم أقابل الأستاذ محمد بن تاويت الطنجي يرحمه الله منذ عودته إلى المغرب بكل تراثه، ثم استئناف هجرته الثانية إلى تركيا وحتى وفاته، ولم أَلْتق بالأستاذ إحسان عباس رحمه الله في إستانبول قط. وأفيدك إن كان الأمر يهمك ولا يغمك، أني أُعْلمت أنه عُثر على صندوقين فيهما كل عمل المرحوم الطنجي في المقدمة والفهْرسة، وهي بطاقاتٌ ومادتُها أشبهُ بالشرح للكتاب الأَوَل خاصة، وأنتظر التفاصيل. أشرتُ في ردي الأول لكتاب " سكردان السلطان "، فتلقفْتَ الموضوع والتفَفْتَ عليه، فخففتَ من شأنه وأقمت صفًا أولَ للدفاع، لتقول أني أردت أن أتَهم المحققينَ ووزارةَ الثفاقة، وهذه مُراوغة، وليس الأمرُ على ما تصورتَ، فأنا أَعْلم أن وزير الثقافة لا شأنَ له بذاك الأمر ولم يُرغمْك عليه، والمقدمة التي نشرتَها باسْمه ليست لغته وأسلوبُه، وأنك وحدك المتصدر والمرجع لاخْتيار النص، وصاحب المقدمة التاريخية التي استعرضتَ فيها فضائل الرقم " سبعة " من السماوات السبع، والمثاني السبع، وأشواط الطواف، والأحرف السبع التي نزل عليها القرآن، ودرجات السلم الموسيقي، و"السبعة ديناري " في الكارطة. ووَضَعْتَ على صدْر الكتاب أنه " نشرةٌ خاصة بمناسبة الاحتفال بالذكرى السابعة للسابع من نوفمبر " وهذا التوظيف الرخيص لم نأبهْ له لان متتَبع ذلك يجد ما هو أهم منه في مجلتك الطريفة، ولكني أشرتُ للكتاب لأكشفَ لك وَحْدك حدودَ التبجح بمعنى العمل العلْمي والمنهجية العلمية وما إلى ذلك مما ترفع به صَوْتَك وتتستر خلْفه. فقد فتحتُ تحقيقَك لقسم السكردان، ووَقَعْت على صفحة 32، لأقرأ: "حكى أبو الفرج معافى بن زكرياء النهرواني في كتابه الجليس والأنيس عن محمد بن مسلم السعدي قال: وجه إلي يحيى بن أكتم " وعلقتَ في الحاشية على الأسماء الثلاثة بما أترك لك وأنت الأستاذ المتميز الحكم عليه، قلتَ: صاحب الاسم الأَول: لعله سليمان بن أبي طالب المتوفى سنة 493ه/ 1100م. والثاني لعله محمد بن محمد توفي سنة 756ه / 1355م والثالث يحيى بن أكتم (صوابه بالثاء) توفي سنة 242ه / 557م (كذا). فالمعافى بن زكرياء وليس بالتنكير، وجاء صحيحا في الطبعة القديمة، وهو من كبار علماء العربية، وكتابه الأنيس مطبوع يُذكِر بأمالي القالي وكامل المبرد، وترجمته في نحو عشرين مصدرًا، ووفاته كانت سنة 303ه / 1000م وليس 493ه، وليس اسمه سليمان، فالمعافى اسمٌ واضح، وكتب الطبقات والتراجم دقيقة وصادقة كبطاقات الحالة المدنية، ثم كيف تربط بين التواريخ التي ذكرتها في سند الرواية بدءًا بسنة 493ه وصاعدًا إلى 756ه وصاعدا إلى 242ه (؟!!!!). وأنا أربأ بك أن تتميز بالعناد في غير ما يُعاند الناس فيه، وبالإصرار على ما ينقفلُ عليه ذهنُك، وبالتأكد والتصديق لما يقع في سمعك مما يُناسب غرضَك، وبتأويل ما تراهُ عينُك على ما يقر في سابق علْمك؛ ولو أني قرأتُ لك " ما أشَعْته في مجلتك جازمًا أن ابن الصباح المورسْكي من مدينة المرية. مستمدًا ذلك من قوله: " وكتبه بالأمرية من ضعف البصر". وقد علق وأجابك على ذلك الأستاذ العالم محمد بن شريفة في نشرته الجيدة لرحلة ابن الصباح: أن هذا فَهْمُ من لا يعرف الألفاظَ الأندلسية، والصوابُ في معنى العبارة هو أنه كتبه مستعينا بالأَمْرية أي بالنظارات، وهي جَمْع مِرَا أي مرآة. وذكر أ.ابن شريفة القواميس والشواهد على استعمال الكلمة وما جاء منها في شعر ابن قزمان. (مقدمة الرحلة ص 15).