بقلم: جعفر حسين الانتهازية كظاهرة في المجتمع هي اتخاذ الإنسان لمواقف سياسية أو فكرية لا يؤمن بها في سبيل تحقيق مصالح فردية أو حماية مصالح شخصية، أو أن يتخذ الشخص مواقفه السياسية وآراءه الفكرية حسب تغيير الظروف أملا في الحصول على مصلحته الخاصة والمحافظة عليها أي أن الانتهازية تعني التضحية بالأهداف الإستراتيجية من اجل تحقيق أهداف مرحلية مؤقتة. فماذا نعني بمفهوم الانتهازية؟ من أين يأتي الانتهازيون؟ والخصائص التي تميزهم؟ تشتق الكلمة في معناها اللغوي من مادة ( نهز ) التي تعني اغتنم ، والانتهاز هو المبادرة ويقال انتهز الفرصة أي اغتنمها وبادر إليها ، وهي في معناها الاصطلاحي أو السياسي لا تختلف كثيرا عن المعنى اللغوي المشار إليه فالإنسان العاقل هو الذي يغتنم الفرص ويستثمرها من أجل أهداف معينة وتختلف باختلاف منطلقاتها فقد تكون محدودة ضيقة الأفق لا تخرج عن إطار المنفعية الذاتية القصيرة الأمد ، أو أهدافا سامية ومثلا عليا يكافح الإنسان في سبيل تحقيقها ويضحي بالغالي والنفيس على مذابحها وعند ذلك يصبح استغلال مثل هذه الفرص المتاحة عملا مشروعا بل وواجبا شرعيا قد يحاسب الإنسان على التفريط بهما وتفويتهما. أما عن منشأ ومصدر الانتهازية اجتماعيا فقد يأتي الانتهازي من أي طبقة في المجتمع ومن عموم الفئات، ولكننا يمكن لنا أن نحدد أكثر الفئات الاجتماعية التي يظهر منها الانتهازي. 1- الفئة الوسطى : وهي بيئة جيدة لنمو هذه الظاهرة ، ففي زوايا هذه الفئة شرائح فئات كثيرة تعيش بطرق غير مشروعة تقوم حياتها على اقتناص الفرص التجارية والاحتكار والصفقات والسمسرة والوساطة والمحسوبية والصداقات مع الشركات الأجنبية ، لذلك فإن همها الوحيد أن تلتصق بالطبقة السياسية الحاكمة وأن تنسج معها علاقات ودية بشتى الوسائل الأمر الذي يجعلها تدخل الحياة السياسية لحماية مصالحها الخاصة. 2- الفئة المثقفة : وهي مصدر مهم لظهور الانتهازية لأن المثقف في الوسط المتخلف غالبا ما يستغل ثقافته لتحقيق مآربه الشخصية، وهذا لا يعني بأن الثقافة العامة هي التي تخلق الانتهازية بل هي عامل مساعد ومهم لمن تتوافر فيه الروح الانتهازية، وذلك لأن البعض من هذه الفئة يحاول أن يحقق مصالحه بواسطة دخوله النشاط السياسي أو النشاطات الأخرى فمثلا : الموظفون الملتفون حول الوزير أو المدير ويتملقون ساعين وراء الترقيات والمنافع، وأيضا فئات من الشعراء والكتاب الذين يستعملون أقلامهم للمديح والثناء أو للذم والقدح حسبما تقتضيه المناسبة. 3- الأحزاب الثورية والمنظمات الشعبية : ويعود السبب في ظهور هذا المرض في الأحزاب الثورية والمنظمات الشعبية إلى الضعف الأخلاقي لدى بعض الأفراد الذين يشكلون كوادر الحزب أو المنظمة الشعبية ، وإلى عدم تلقي التربية العلمية والثورية بشكل صحيح نتيجة عدم اقترانها برقابة صارمة على السلوك والممارسات والأخذ بالاعتبار المحسوبيات والولاءات الشخصية الضيقة، مما يؤدي إلي نتيجة حتمية هي فقدان سيطرة القيادة على كوادرها إن لم تكن مشاركة لها في تحقيق مثل هذه المصالح. فالأحزاب والحركات عندما تنتقل من حالة المعارضة والاضطهاد إلى حالة النصر واستلام السلطة تكون معرضة لانبثاق الميول الانتهازية الكامنة لدى بعض الأفراد الذين ناضلوا في صفوفها، ولكن ليس الانتصار هو الذي يخلق ذلك بل الضعف الخلقي وعدم توازن الشخصية ، والأمثلة كثيرة على الأفراد المنحدرين من طبقات فقيرة وعملوا في صفوف الأحزاب الثورية وأصبحوا في غاية الانتهازية بمجرد أن أصبحوا مسؤولين ، كما أن المنظمات الشعبية تعتبر أيضا وسطا ملائما لظهور الكثير من الشخصيات الانتهازية في صفوفها. أما عن الخصائص التي تميز الانتهازية، فلا بد أن نشير أن الانتهازية ليست ظاهرة عامة بل ظاهرة فردية تخص التركيب الأخلاقي للفرد ، وقد يجتمع الانتهازيون في فئة أو تجمع ، ولكن هذا التجمع هو مؤقت تقتضيه الظروف ويزول فور زوالها ، لذا فالصفة الأولى لأي تجمع انتهازي هي التغير وعدم الثبات على المواقف ، والشيء الوحيد الثابت عند الانتهازي هو مصلحته الشخصية الأنانية وكل ما عداه يتغير ، انه يغير مواقفه وآراءه وأشكال معيشته وصداقاته وعلاقاته بالآخرين من يوم لآخر ومن ساعة لأخرى إذا ما اقتضت مصلحته الشخصية ذلك. ثانيا، لا تشكل الانتهازية طبقة أو فئة وإنما تأتي من عموم الطبقات والفئات، والفرق كبير بينها وبين الطبقات الرجعية المعادية للتقدم لأن الطبقات التي تدافع عن القديم يكون لها موقف واضح وصريح تدافع عنه وتعتقد أنه صحيح وصواب. ثالثا، الانتهازية ليس لها موقف صريح وواضح لأن مواقفها وآراءها لا تنبع من معتقداتها بل من مصالحها المتسارعة والمتقلبة فهي تقول اليوم ما تنقضه غدا وتقول إذن ما تتخلى عنه بعد غد وهي لا تطرح آراءها بشكل نظرية متكاملة بل بشكل مواقف سياسية آنية. وأخيرا، لا تمتلك الانتهازية أي شيء يمكن أن تقدمه للمجتمع، ولا يمكن أن تكون عاملا إيجابيا في مرحلة من المراحل، ولا تطرح نفسها كنظام بديل لأي شيء وإن كانت تطرح نفسها كرمز من رموز الحكم في بعض الأحيان، والسبب في ذلك أنها لا تهتم بتنظيم المجتمع بل بتحقيق مصالح أنانية خاصة بها فقط. وهناك أصناف من الانتهازيين يبدون مهارات كافية للعب على الحبال متى حتمت عليهم مصالحهم الشخصية والذاتية، فالأنانية هي الصفة البارزة لدى أمثال هؤلاء فمنهم من يلبس ثوب التقدمية والعلمانية تارة وأخرى ينحاز إلى مذاهب و فئات رجعية أو يدعي الوطنية في حين يلهث وراء المخططات الأجنبية والهدف من وراء ذلك كله هو الحصول على منافع مادية أو بغية تبوء مناصب رسمية أو من اجل تحقيق الشهرة. وتبرز في مجتمعنا العربي ظاهرة المثقف الانتهازي على سبيل المثال بشكل واضح حيث تتراكم انتهازيته على طريقة مع وضد. إن الانتهازية تتطابق ونظرة الفيلسوف الإنقليزي توماس هوبز صاحب المدرسة النفعية للإنسان، حيث يصوره بأنه ذئب يتربص بأخيه الإنسان ليفتك به، فهو يسعى دائماً للحصول على القوة ليقهر بها الآخرين، وهنا ينشأ الصراع لفرض السيطرة وإشباع الرغبات، وإذا افتقر إلى القوة الكافية لجأ إلى الحيلة والمكر والدهاء والخديعة لكي يقهر غيره، مما يجعلها تتناغم مع الضلالات الداروينية التي تنظر للعلاقات بين الأفراد والشعوب والأمم بأنها قائمة على الصراع المستند على منطق: «البقاء للأقوى»، وهي كذلك تطبيق عملي لنظرية (الغاية تبرر الوسيلة) التي تبناها ميكافيلي، وخصص لها كتابه المعنون: «الأمير» شرحاً وتأصيلاً، وقد أصبحت داءً عضالاً يفتك بالأمم والشعوب، ووباء اجتماعياً وخيماً تنهار بسببه الحضارات والمجتمعات عندما يدب في أوصالها وينتشر في جسدها على حين غفلة منها، ويسري بين جميع شرائحها ومختلف فئاتها سريان النار في الهشيم، وتتحول هذه المجتمعات تحت تأثيره إلى مجموعات وعصابات من الانتهازيين النفعيين الذين يضحون بكل شيء من أجل تحقيق مآربهم الخاصة ومنافعهم العاجلة، ثم لا تسل بعد ذلك عن اضطراب المفاهيم، واختلال الموازين كإفراز طبيعي لهذه الممارسات؛ فالكذب دهاء، والتعفف بلاهة، والصدق سذاجة، والنصح حسد أو سوء أدب، والانضباط تعقيد، والباطل حق والشرف تهمة، وهلم جرا، في سلسلة من المفاهيم المقلوبة والمعايير المضطربة. إن تطرقنا لهذا الموضوع لا يعني أنه مس بشخص أو فئة اجتماعية بعينها لكن حاولنا تحليل هذه الظاهرة سوسيولوجيا، ولكننا نطرح تساؤلا فيما يخص مجتمعنا التونسي هل تنامت أو تقلصت هذه الظاهرة بعد ثورة 14 جانفي 2011، إذا تنامت ما هي أسباب ذلك يا ترى؟ وإذا تقلصت ما هي مظاهر وتجليات التقلص وما مؤشرات ذلك اجتماعيا ومختلف القطاعات؟ هل انتخابات المجلس التأسيسي المفروض أن تكون فيها الانتخابات شفافة وديمقراطية هل سيسلم المجتمع من بعض الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب ا لداعية إلى المبادئ الآنفة الذكر في مختلف المنابر في بقاء هذه الظاهرة بقوة، أم حليمة ستعود إلى عادتها القديمة بتعبير مجازي؟