خبير بمكتب استشارات دولي من البديهي أن يسعى كل انسان في جميع أنحاء العالم أن يكون حداثيا تقدميا ومتحررا. وهنا أتحدث بأصل مفهوم الكلمتين لا بما أصبحت تعنيانه في تونس ما بعد الثورة. لأن من طبيعة الانسان حب التطور والتعرف على كل ماهو جديد وحديث، كما أن الانسان يطمح للرفاه من خلال التقدم المادي والعلمي والاجتماعي. الانسان أيضا يحب أن يكون حرا يملك ارادته وقراره بيده وبالتالي يتحمل مسؤولية اختياراته وعواقبها. في تونس اليوم، عندما تسأل الناس هل أنت حداثي، فإن كانت لهم خلفية سياسية فسيقولون لك ماذا تقصد؟ حداثي بالمعنى الاصطلاحي للكلمة أم حداثي بمعنى الانتماء الايديولوجي والحزبي للكلمة وبالتالي فقد صارت لهذه المفردات دلالات أخرى قد تكون بعيدة تماما عن حقيقة معاني هذه المصطلحات ولا أستغرب أن يكون الرد على السؤال: لا أنا لست حداثيا ولكني رجعي أو ظلامي. طيلة الأشهر الماضية تعرض التونسيون لحملة اعلامية رهيبة في التلفزات الوطنية والاذاعات وبعض الجرائد من قبل أقلية معروفة بانتقادها الشديد لمكونات هويتنا العربية الاسلامية، بحيث يتم تصوير الانهزام الحضاري على أنه تفتح على الآخر وحداثية وتقدمية، كما يصور الانسلاخ عن ضوابطنا الاجتماعية وفي بعض الأحيان حتى الأخلاقية على أنه تحرر وحرية. هذه الحملة الشعواء جعلت التونسيين والتونسيات تحت ضغط شديد. اذا كنت تتبنى الفكر التغريبي، وترى أن تطورنا المادي والاجتماعي لا يكون الا بمخالفة عاداتنا وقيمنا فأنت تقدمي وحداثي ومتحرر، أما اذا كنت تعيش ضمن الضوابط الاخلاقية والاجتماعية وتقوم بغربلة السلوكات الغربية لتختار الافضل فأنت رجعي لأنك تربط نفسك بالماضي لا بالمستقبل، أما اذا كنت متمسكا بدينك وتفتخر بانتمائك لتونس العربية المسلمة فأنت ظلامي تعيش في عصر مضى عليه أربعة عشر قرنا. لذلك ترى من لهم مناصب اجتماعية هامة يسارعون في الاعلان بأنهم «تقدميون وحداثيون»، وحتى الحكومة الانتقالية لم تجمع في أعضائها الا «الحداثيون التقدميون» بما فيهم وزير الشؤون الدينية الذي من المنطقي بحكم وظيفته أن يكون من « الرجعيين» أو حتى «الظلاميين». ان الوقوع في مثل هذا الفخ والخضوع لضغط الأقلية التي تدعي التحرر والحداثة يدل على ضعف الثقة في النفس وفي مقومات هويتنا وحضارتنا الضاربة في التاريخ. حضارتنا العربية الاسلامية بطبيعتها منفتحة منذ عصورها الاولى على الحضارات الأخرى ولم تكن أبدا منغلقة أو ظلامية كما يصفها «حداثيونا». ولا ينقصها اليوم الا بعض التطور المادي والاقتصادي والعلمي. أما مجتمعاتنا فهي أكثر حداثة من الغرب لأن مؤسسة الاسرة مازلت قوية فيها ولأن الضوبط الأخلاقية تعدل جميع الانحرافات. أما فيما يتعلق بالأخلاق والقيم فليس لنا دروس نأخذها من أحد لأننا والى اليوم نحن من يعطي الدروس. نحن في تونس نفخر بأننا مجتمع تقدمي وحداثي لأننا نريد جميعا أن نطور من ذواتنا ومن تماسك مجتمعنا وأن نبني دولة متطورة ماديا واقتصاديا. ومتحررون لأننا أسياد أنفسنا، ارادتنا بيدنا، نخاطب العالم بكل ندية رغم صغر حجمنا لوثوقنا بهويتنا وحضارتنا. لذلك فنحن لسنا مجبرين على مخالفة أحكام ديننا أو التخلي عن لغتنا ولهجتنا ليقال عنا حداثيون أو متفتحين، كما أننا غير مضطرين إلى ضرب قيم مجتمعنا والانسلاخ عن أخلاقنا وعاداتنا حتى يقال عنا متحررين. وعليه فإني أرى أن على أبناء وطننا الذين خدعوا بالمفاهيم البراقة «للحداثة والتقدمية والتحرر» التي يتم تسويقها من بعض التيارات الايديولوجية التي عفا عليها الزمن، أن يراجعوا أنفسهم، وأن يقتنعوا بأن هويتهم هي منبع فخرهم وثقتهم، وأن الحضارات الأخرى لا تحترم من ينسلخ عن حضارته وهويته وأن الغربيين يكونون سعداء عندما تلبس مثلهم لكنهم يكونون أسعد اذا لبست لباسك التقليدي لأنهم يجدون في ذلك اثراء لثقافتهم.