بقلم: المولدي الشاوش إن ثورة تونس الرائعة والهادئة، والمزلزلة لعروش الدكتاتورية الفاسدة والمتوحشة، والتي حركتها وفجرت بركانها النائم الفتوة التونسية، إنها لإنجاز فريد حققه التونسيون الذين استطاعوا تحطيم حواجز الاستبداد وقيوده، التي أفقدتنا الشهامة، فاستسلمنا للعسف والغربة والإستلاب لأكثر من خمسين سنة، عشناها نجتر الخيبات المتتالية، سياسيا، واجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا، ونحن في محراب الزعيم الأوحد، والرئيس الأوحد، نخاف بأسه وقمعه، مذعنين لمشيئته، وكدنا نخلص له العبادة من دون الله، وهكذا أصبحت أرضنا التونسية المعطاء، فريسة سهلة للرياح العاتية، تعصف بها من الجهات الست، مكتسحة مدنها النشيطة، وقراها الهادئة، واريافها الفيحاء، المافيا النوفمبرية، التي جنحت بها نحو الإفلاس والتصحر، فاستسلم المواطنون لهذا الوضع الفاسد والمخزي، وهم يجترون المرارة في صمت عميق، الا ما رحم ربك من بعض الساسة، والكتاب، والشعراء، والمفكرين، والمبدعين، والحقوقيين، المناوئين للاستبداد... والذين لا أثرعميقا لفكرهم النير، في هذا المحيط من الفساد والنفاق، والذي تلاطمت أمواجه بعديد الانتهازيين، من هذه الجهة او تلك، فلا الكتاب والشعراء، ولا الصحافيون ولا الحقوقيون، حققوا رسالتهم نحو الوطن، بل الكل يعيشون التهميش والكبت، والانفصام، ومن شذ عن ذلك وحاول السباحة ضد التيار فلا ينجو من الجلادين إلا بالهجرة إلى الشمال، وما فيها من ألام... ولكن مهما اشتدت الأزمات، فان الثقافة لها الدور الجوهري في حياة الشعوب، باشاعة التحرر، وعزل الافكار الانهزامية، وافساح المجال للمواطنين كي يعبروا عن أحلامهم خفية وجهرا، وذلك بالنقد البناء، القادر على غربلة كل ما يصل إلى أسماعهم، وبالرفض القاطع للسلبيات، مهما دعمتها القوى التي من ورائها، وتقبل كل ما هو ايجابي يطور ويوسع حياة الناس، ويرقى بطموحاتهم وآمالهم المرجوة، وبهذا تنجلي العَتَمة المخيمة بربوعنا رَدَحًا من الزمن، والتي لا ننتظر من أحد فكها عنا، سواء من الأصدقاء، او الأشقاء، بل لا يجليها الا المصلحون والمفكرون ببلادنا، ولكن للأسف الشديد، أن بعض الشاذين من نخبنا الفكرية، الذين خانوا رسالتهم، واحترفوا لأكثر من عقدين، تلميع صورة النظام النوفمبري الفاسد، باصدار الكتب والدراسات الضافية، هنا وهناك، رغم الوضوح التام لفساده المستشري في مفاصل أجهزته الحكومية من العمادة إلى هرم السلطة. لكن الشيء المخزي والعجيب، والذي يبعث على الحيرة والإبتئاس، أن نرى كثيرا من هذه النماذج البشرية المتحدث عنهم، ومن عديد الشرائح الاجتماعية الأخرى، والذين لا رصيد لهم في بنك النضال، ولا في ثورة الانسان التونسي، وبكل صفاقة أصبحوا من المنظرين في القنوات التلفزية، والإذاعات، والجرائد، والنوادي، وهم بالأمس الدابر، كانوا موالين مطبلين للرئيس المخلوع وبطانته، وهكذا وبسرعة البرق، صاروا يتصدرون العديد من القائمات الانتخابية على اختلاف أطيافها، وهم يلهثون وراء اغتصاب الثقة من المواطنين بالطرق المشبوهة، من اجل الوصول إلى كرسي وثير في المجلس التأسيسي، والغاية عندهم تبرر الوسيلة، أليس حَرِيا بهذه الشرائح الطفيلية ان يبتعدوا عن المنابر الاعلامية ؟ ويلازموا دورهم صيانة لماء الوجه، ويتركوا المناضلين والشبان الذين صنعوا الثورة بالدماء الزكية، وتعرضوا للعسف والقمع والتنكيل يواصلوا رسالتهم من أجل الحرية والعدالة والكرامة. فالشعب التونسي ذكي يفرق بين المناضلين الخُلص، والمتسللين الذين ملأوا الساحة الوطنية بضجيحهم المُقْرف، في وسائل الاعلام بمختلف أنواعها، والكثير من هؤلاء مُعدلون جينيا من رحم التجمع المنحل. بينما نحن في هذه الفترة الحساسة، في حاجة ماسة إلى الشباب المتعلم والمتخرج من الجامعات الوطنية والعالمية، والذين لهم من الخبرة العلمية والعملية والبحثية، التي تؤهلهم للقيادة والإسهام في اخراجنا من بوتقة التخلف الذي لازمنا طويلا، ونحن نشاهد دول العالم المصنع تسجل القفزات تلو القفزات، بمعانقة التكنولوجيا التي طورت حياتهم إلى الأحسن والأرقى، وتوصلوا بواسطتها إلى الابتكارات المذهلة في عالم المعلوماتية والإتصال، والتي خلقت حضارة جديدة، وتقدما غير مسبوقين، وسع حياتهم، وقرب المسافات بينهم، وأشعوا بها على العالم، فجنوا من ورائها الثروات الخيالية لشعوبهم، والتي تغولوا بها على دول العالم الثالث، واستعمروه واستغلوه تكنولوجيا، علاوة على استغلال مصادر ثرواته النفطية والمعدنية بمختلف أصنافها، مع التحكم في أسعارها بالأسواق العالمية، وأصحابها عن هذا مبعدون. هذه هي المعادلة العالمية الفاجرة، التي عشناها زمن النظام العالمي القديم، ونعيشها زمن النظام العالمي الجديد والشرس في القرن الواحد والعشرين. إذن فلا يمكن الخروج من هذا الوضع المؤلم، الا بتخطي الحواجز التي تَحُول بيننا وبين التوغل في الثورة العلمية والتكنولوجية، واغتصاب نصيبنا منها، لا كمستهلكين فحسب، بل طموحنا يمتد إلى التوغل في أغوارها، والمشاركة في ابداعها، وتسخيرها في معركة بناء الذات الوطنية التي لازمها الكساد والتخلف، الذي عشش في أذهاننا شيبا وشبابا، واحال تصرفاتنا إلى نشاز لا بد من مراجعته، بإشاعة ثورة ثقافية علمية جديدة، تؤهل الأجيال من جديد، إلى السير الحكيم ببلادنا نحو الآفاق الرحبة، لنصبح بنائين لا مخربين وفوضويين، وأن نسعى جميعا في قراءة ماضينا وحاضرنا، وتقويم هذا وذاك، من أجل تأسيس وبعث انسان تونسي جديد، مؤمن بالنضال الذي يُؤمن للجميع العزة والكرامة. ولا ننسى المفكرين والإصلاحيين الذين لهم الدور الريادي والجوهري في معركة التغيير إلى الأحسن. والتغيير هو الكلمة السحرية والأساسية في بناء الحضارات على مر التاريخ، لأن التغيير من السلب إلى الإيجاب لا يأتي من فراغ، إذ لا بد له من عناصر متماسكة مع بعضها البعض ليستقيم البناء. والعنصر الأساسي هو البحوث العلمية الجادة التي تكسبنا القدرة على التجدد والتطور والإبداع.