لم نحتج لإعادة صياغة نص مسرحية «يحيى يعيش» لأنها تكلمت عن الثورة قبل أن تحدث الفنانة فاطمة بن سعيدان عاشقة المسرح..هي فنانة حتى النخاع. كل شخصية تؤديها إلا ونخالها قد قدت من أجلها. تؤدي فاطمة بن سعيدان أدوارها بصدق كبير حتى يصبح التمييز بين الشخصية وذات الممثلة عملية صعبة. يمكن أن تصادف الفنانة المبدعة في السينما لكن طاقاتها تتفجر بالاساس على خشبة المسرح وخاصة في مسرح الفاضل الجعايبي حيث تعتبر فاطمة بن سعيدان وجليلة بكار من أعمدة هذا المسرح. التقت «الصباح» بهذه الفنانة المبدعة وخاضت معها حول مسائل تهم ماضيها وحاضرها الفني ولكن بالخصوص تهم مستقبل الحركة الفنية في بلادنا على ضوء الأحداث السياسية التي شهدتها تونس منذ بداية العام مع انتصار الثورة الشعبية والتغيير الجذري الذي يعيشه المجتمع التونسي فكان الحوار التالي:
فاطمة بن سعيدان تنجح في جل أدوارها في السينما والمسرح وغالبا ما تلقى تجاوبا كبيرا من الجماهيرأي سر في ذلك؟
أرى أن سر نجاح الأعمال الفنية عامة والمسرحية بصفة خاصة يرجع بالأساس الى إبداع الممثل في تقمص الشخصية ،وهي عملية فنية تقتضي آداء متميزا على الركح وحضورا ذهنيا، ذلك أنني مثلا في جل أعمالي المسرحية أعتمد الارتجال عادة وليس حفظ النصوص كقوالب جاهزة ليكون التفاعل بيني وبين الجمهور صادقا لا شكليا.إضافة الى أن الممثل يجب أن لا يقتصر على تقمص الشخصية فحسب بل هو مطالب بالبحث في كل جوانب العمل الفني ليتمكن من الإضافة وشد المتلقي وإقناعه بالدور.ناهيك أن المجموعة التي تعمل مع المخرج فاضل الجعايبي مثلا في مسرحية «جنون» اعتمدت مطالعة العديد من الكتب المهتمة بعلم النفس بل قامت بزيارات عديدة الى مستشفى الرازي (مستشفى الأمراض النفسية بالعاصمة) لمعاينة العديد من الحالات التي تشكو الفصام وهو موضوع المسرحية..كذلك الأمر بالنسبة لمسرحية «يحيى يعيش»حيث اطلعنا على كتب ومقالات تتحدث عن الفاشية وسياسة العديد من الحكام الطغاة في العالم..وفي «خمسون» اعتمدنا تساجيل نادرة للزعيم الحبيب بورقيبة ومزالي وبن صالح..الى جانب آثار صوفية للحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي..فحب العمل لوحده لا يكفي والموهبة كذلك لوحدها لا تكفي، لا بد من الجدية على الميدان والسخاء في الآداء.
تعاملت مع أبرز المخرجين التونسيين في الساحة الفنية أمثال فريد بوغدير والنوري بوزيد والمنصف ذويب والفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري، هل تعتبرين أنك محظوظة مقارنة ببقية الممثلين والممثلات في تونس؟
أعتبر نفسي محظوظة بالفعل. التعامل مع مثل هؤلاء المبدعين والاحتكاك بهم غالبا ما يولد تنوعا في الأفكار وإثراء على مستوى الإبداع، ثم إن المخرجين السابق ذكرهم يتمتعون بالجدية في طرح مواضيع العمل والحرفية في التعامل مع الممثلين..كما تستطيع أن تشاطرهم الرأي في بعض المسائل في إطار الإقناع لا الفرض ولا التعسف، وهي ظاهرة صحية في غاية الأهمية.
ولكن هل ساهم ارتباطك بمؤسسة فاميليا للانتاج في الحد من حريتك الفنية؟ أم أنه مثل انحيازا لمسرح نخبوي؟
تعاملت مع «فاميليا» مند الثمانينات ولا أعتبر هذا الأمر احتكارا أو حدا من حريتي الفنية ناهيك أنني شاركت في العديد من الأدوار السينمائية مع مخرجين آخرين،إلا أن مسرح فاميليا بالنسبة لي هو بمثابة الأسرة، أين وجدت الجدية في العمل ومناخ الرؤية الفنية والفكرية والعلاقة الطيبة بين الممثلين. ثم إني أعتبر مسرح فاضل الجعايبي مسرح مواطنة لامسرحا نخبويا لانه يتناول جل القضايا التي تهم التونسي عامة، السياسية والاجتماعية والعقائدية..لو كان نخبويا لجزمنا بأن كل المتفرجين الذين ملأوا القاعات لمتابعة هذا النمط مثقفون، والحال أنهم يمثلون العديد من الشرائح الاجتماعية.
لم يتم إعادة صياغة نص مسرحية «يحيى يعيش» بعد 14جانفي، هل يمكن القول أنها نبوءة مسرحية سبقت التاريخ؟
«يحيى يعيش» هي بمثابة شهادة للتاريخ،لأننا ارتأينا بعد مسرحية»خمسون» وجوب طرح موضوع آخر في غاية الأهمية ألا وهو هاجس الخوف من الأنظمة الحاكمة المستبدة ومن كل القيود التي من شأنها أن تساهم في خلق تصحر على جميع المستويات، فكانت المسرحية نقلا صادقا للواقع التونسي وكأنها كانت تتنبأ بقيام ثورة..لهذا السبب لم نشأ إعادة صياغة النص لنحافظ على تلك البصمة الإبداعية التي اتضح بعد الثورة أنها ستظل خالدة بعد أن مثلت مرحلة حاسمة في تاريخ تونس.
من بين أدوارك ما هي الشخصيات التي استهوتك أكثر من غيرها في المسرح أو السينما؟
كل الأدوار دون استثناء وخاصة المسرحية، لأني أؤمن بأن الفنان يجب أن يتقمص دوره عن وعي ومحبة ودراية كبيرة بالموضوع..وكل الشخصيات التي تقمصتها في المسرح كانت تمثلني لأن مسؤولية الإبداع الشخصي توظف بعد دراسة الفكرة المطروحة للتعبير بحرية عما يخالج ذاتك إزاء الموضوع..بينما في السينما الأمر يختلف إذ أضطر الى تقمص الشخصية كما تقدم إلي..
عقب ثورة 14جانفي عرف الوسط المسرحي العديد من التجاذبات والصدامات بين ممثلي القطاع، ما تعليقك على هذه المسألة؟
ما حدث من متاهات لا يمكن إلا أن نأسف عليه. الفنان مطالب بأن يدافع عن العمل وليس الفرد.. كذلك النقابات ينبغي أن تدعو الى ذلك حرصا منها على النهوض بالأعمال المسرحية وإعطاء كل ذي حق حقه..لأن قطاع المسرح في تونس يضم الهواة وأساتذة مسرح وحرفيين..كل منهم يجب أن يتمتع بحقه حسب موقعه..
العديد من الأخصائيين الاجتماعيين يرون أن الحديث عن أطوار ثورتنا وتجسيدها في اعمال فنية يتطلب المزيد من الوقت ودراسة معمقة لشخصية التونسي بعد عقود طويلة من الكبت والاضطهاد، ما رأيك؟
يجب على كل تونسي التطلع الى ذاته من جديد وأن يقوم بمصالحة معها بعد التغيرات الجذرية التي حصلت في البلاد.. أنا لا أؤمن بفكرة ما قبل الثورة وما بعدها..علماء الاجتماع من موقعهم والفنانون بأعمالهم المتنوعة يجب أن يحرصوا دائما على كشف مواطن الخلل في كل المجالات.وخاصة المجال الثقافي لاني أعتقد أن مصير تونس يتعلق بولادة ثورة ثقافية بالأساس..
ما هي أمنياتك بخصوص المنظومة الابداعية في تونس مستقبلا؟
أتمنى أن كل التونسيين تجمعهم محبة الوطن من جديد..وأن يتحول المجتمع التونسي الى مجتمع فاعل ويقطع مع الاستهلاك للرقي بذواتنا..يجب أن نسعى الى بناء أجيال في ظل الكرامة والعدالة وهنا أستحضر مثل الشيخ الذي سئل عن سبب زرعه نخلة بالرغم من انها تتطلب وقتا طويلا جدا لتينع فكان رده «زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون»..
لو تحدثينا عن تجربتك مع الأطفال فاقدي السمع؟
تجربة جميلة دامت سنوات، لها وقع خاص في حياتي المهنية والشخصية..تجربة كانت تجاوبا مع اقتراح من زميلتي ناجية محلة (طبيبة نفسانية)..وكم كنت سعيدة حين وصل هؤلاء التلاميذ الى مستويات مرموقة في مراحل متقدمة..منهم من أصبح أستاذا جامعيا، ومنهم من التحق بالمسرح الوطني.. يجب أن نأخذ بيد كل محتاج الى المساعدة.. فالإحاطة اللازمة والمعاملة دون فوقية من شأنهما أن يحققا المستحيل..
ماهو جديد فاطمة بن سعيدان؟
كنا بصدد تصوير فيلم «باب الفلة» لناصر كريم وهو أول فيلم تونسي يصور بعد الثورة يضم أبرز الممثلين التونسيين على غرار فتحي الهداوي ، علي بن نور،يونس الفارحي..وفاطمة بن سعيدان في دور ثانوي..وليس لدي أي مشكل لتقمص مثل هذه الأدوار. الفنان الحقيقي يجب أن يتقن كل الادوار ليثري رصيده الفني. لي عمل آخر مع محمد دمق ولم نشرع بعد في التصوير..
يحيى يعيش حقق نجاحا كبيرا في الخارج كيف تجاوبتم مع الأمر؟
في الحقيقة كل الأعمال كانت ناجحة وكنا بمثابة السفراء للتعريف بالمسرح التونسي وتقديم أنفسنا كتونسيين بالأساس وكلنا فخر بثورتنا المباركة.