بقلم العميد الأستاذ الحبيب شيخ روحه (1 فيفري 1951) انا شخصيا لم اكن اصدق لو قيل لي في بداية الخمسينات انني سأتحول الى صحفي ومحترف... لقد كنت على علاقة بالصحافة فأصدقائي من الصحفيين كثيرون و»من تحت السور» يشهد بذلك، ولكني كنت اعيش في خضم آخر.. حتى قرر الحزب ضرورة «الاندساس» في كل المؤسسات التي يتاح لنا دخولها وهكذا كان.. فوجدت نفسي كاهية رئيس للسيد محمد بدرة رئيس الغرفة التجارية للعاصمة نسيطر على هذه المؤسسة مع عدد آخر من الوطنيين، وكان مديرها وقتها السيد الباهي الادغم وكانت سبقت هذه المرحلة مرحلة اخرى تمثلت في اقامة منظمات جماهيرية للإحاطة بكل خلايا المجتمع.. فكان ان أسس الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الفلاحين واتحاد الصناعة والتجارة الذي كنت ايضا احد مؤسسيه وفي نطاقه تم الاعداد «للاندساس» في الغرف التجارية التي كانت قبل ذلك حكرا على الفرنسيين وغير الوطنيين.. كان الحزب وقتها يعد للمعركة الحاسمة.. وكان دخول المؤسسات احد مظاهر الهجمة.. ولكن كان لا بد ايضا من صوت لابلاغ الرسالة.. واتفق «الكبار» على اصدار جريدة يومية كان الرئيس الحبيب بورقيبة وراء المشروع.. وكان المكلف بتنفيذه بالاساس فرحات حشاد. ولما كانت الحجرة التجارية اطارا جيدا وقانونيا للاجتماع، ففيها وبأعضائها تقرر انشاء الجريدة.. اتفقنا على ان تكون شركة مساهمة واتفقنا على ان اتولى انا الاشراف عليها.. تحمست للمشروع وسلمت في ما أمامي وما ورائي، في انتظار وصول المساهمات.. ولكنها لم تصل ابدا فيما اخذ موعد الصدور المقرر يقترب. اخترنا الاسم.. «الصباح».. دلالة على صباح جديد.. واخذنا نشتغل.. اتفقنا مع «هنري سماجة» مدير «لابريس» انذاك على ان يتولى طبعها، واتفقنا على المبلغ المالي للطبع، وشرعنا في تأسيس الاسرة.. اخترنا الحبيب الشطي، وكان يشتغل وقتها في جريدة «الزهرة»، واخترنا الهادي العبيدي اقدر الصحفيين المعروفين وقتها، واخترنا توفيق بوغدير.. وحسن عباس.. وكثيرين اخرين. كنا نعقد اجتماعات يومية قبل الانطلاق يحضرها بالاساس فرحات حشاد والباهي الادغم ومعهما كل من المرحوم علي البلهوان والمرحوم علي الزواوي والمرحوم الشيخ المختار بن محمود والشيخ محمود الباجي والمرحوم عبد الله فرحات والمرحوم محمد فرحات وعدة قضاة، والاساتذة محمود المسعدي والشاذلي القليبي ومحمد مزالي ومصطفى الفيلالي والطيب السحباني واحمد بن صالح ومحجوب بن ميلاد وغيرهم كثير. وكان هدف الاجتماعات ضبط السياسة بمظهريها الاثنين: 1) السياسة السياسية.. وكان منطلق الجريدة واضحا فقد احدثت لتكون لسان الحركة الوطنية في خضم الازمة التي كانت تستعد لها البلاد وتثير بها شرارة الثورة الوطنية ضد الاستعمار. 2) السياسة الاعلامية.. واخترنا ان تكون «الصباح» نوعا جديدا. وفعلا كانت كذلك وسيذكر التاريخ ان لم يكن ذكر بعد ان «الصباح» تعد اول جريدة اخبارية باللغة العربية في تونس.. فقد انتقلت الصحافة التونسية من صحافة المقال المسائية الى صحافة الخبر السريع والتحليل الدقيق، والمتابعة الفورية للتطورات الحاصلة على الساحة. وكان ان نجحنا في الرهان.. ليلة الاول من فيفري 1951 كانت ليلة التحدي.. ليلة الرهان.. وجاءنا الرئيس بورقيبة الى المكاتب في نهج الدباغين ليلة سفره الى الخارج للدعوة للقضية التونسية والتي استمرت حتى 15 ديسمبر حين نزل الرئيس في باريس وفي نهاية زيارته صدرت مذكرة الحكومة الفرنسية، جاء اذن ليشجع ويوجه ومعه تصفحنا مشروع العدد الاول في غمرة من الحماس والسرور والفرحة بنتاج اشهر طويلة من العمل.. ولكن مع المعاناة من مواجهة القارئ. ٭ ٭ تعب كل تلك الاشهر كان لا شيء امام التعب المضني واليومي الذي كنا نعانيه والذي عانيناه بعد ذلك على مدى ال35 سنة التي مرت من عمر «الصباح».. بدأنا المشوار ومعنا فرحات حشاد كان الوحيد من الزعماء الوطنيين الذي ظل طليقا.. وكان يأتينا كل يوم في المساء ويحضر معنا عملية.. الطبخ، طبعا طبخ الجريدة، وحتى ليلة اغتياله كان معنا، غادرنا الى بيته ولم يعد، لأن يد الاجرام قد امتدت اليه وألغته من الوجود محاولة بذلك إلغاء فكره وتأثيره ووطنيته.. ولكن هيهات.. لنقل ان الصحافة بالنسبة لنا لم تتحول وقتها الى مهنة لنا.. كانت هواية.. وحتى عندما تحولت الى مهنة فانها لم تتخلص من ان تكون هواية ونضالا.. ومع كل عدد كنا ومازلنا نشعر بالمعاناة، كنا ومازلنا نحس وكأننا ندخل امتحانا جديدا.. من اجل النجاح في كسب عطف واقبال القراء.. وما اصعب ان يجتاز المرء امتحانا كل يوم. وكان لابد لنا ان نتوجه الى كل الفئات.. لذلك احدثنا صفحة الشباب.. فكلفنا بها الشبان السادة محمود المستيري وعمر الفزاني وزهير الشلي وفريد السوداني ومحمد التريكي وغيرهم.. وكنا نسعى لتعبئة هذه الفئة الشبابية لفائدة اهداف الامة في الحرية والاستقلال آنذاك. وجاءت احداث 1952 سريعة.. وتحولت «الصباح» ليس الى مجرد صحيفة وطنية بل الى خلية متقدمة من خلايا الكفاح الوطني.. كانت «الصباح» تعبيرا عن مشاعر ومطامح وكفاحات الوطنيين كجريدة.. وكانت في نفس الوقت مصدرا جيدا يشع على العالم بأخبار تونس.. اختار لنا الحزب السيد محمد المصمودي رئيس الشعبة الدستورية في باريس انذاك مراسلا في باريس.. وفي فترات لاحقة ساهم معنا المفكر الفرنسي الكبير جان روس والمرحوم محمد بن فضل.. والسيد الحبيب بن الشيخ. كنا نتلقى المعلومات لنشرها من مكتبنا هناك.. ومن المكتب نسرب ايضا معلومات عما يجري في تونس.. عن الكفاح الوطني عن العسف الاستعماري.. كان محمد المصمودي يعقد الندوات الصحفية في مكتب «الصباح» بقصر «شايو».. ولا ننسى ان باريس وقتها كانت عاصمة العالم.. فالامم المتحدة كانت مستقرة في قصر شايو بالعاصمة الفرنسية قبل ان تتحول الى نيويورك في مبناها الجديد في وقت لاحق. اذكر انه وبعد احداث تازركة المشهورة التي ذبح فيها الجيش الفرنسي عديد الشهداء واغتصب البنات.. استخرجنا عشرات آلاف الصور ووزعناها عن طريق مكتب باريس على اطراف العالم حيث نشرت واطلع عليها الزعماء وقادة العالم في كل مكان. في فترة الاستعمار تم ايقافنا عديد المرات وفرضت علينا الرقابة حدودا لا نتجاوزها وكان الهادي العبيدي رحمه الله بعد ان تم نفينا الحبيب الشطي وأنا وحسن عباس وآخرين الى رمادة حيث نقل الرئيس الى هناك من طبرقة كان الهادي العبيدي يخترق الرقابة احيانا ويكتب مقالاته النارية التي عرف بها.. كانت فترة صعبة ولكنها انتهت الى النصر.. والآن هل توقف جهاد الصحيفة؟ لا أبدا.. كانت امامنا معارك عديدة لابد ان نخوضها وننجح فيها.. كانت هناك معركة التنمية الداخلية واندفعنا فيها بكل طاقاتنا. وكانت هناك معركة تحرير مناطق المغرب العربي.. وهذه أيضا خضناها بكل عزيمة فقد وقفنا الى جنب المغرب وكانت صحيفتنا تذهب الى الرباط والدار البيضاء ومراكش وفاس وطنجة في اكياس الخضر ويوزعها الشباب الوطني في حزب الاستقلال انذاك كالأساتذة عبد الرحيم بوعبيد وبن شقرون وبوستة وغيرهم من شباب حزب الاستقلال لتلهب الحماس وتدفع الى مزيد التضحية.. وخلال الثورة الجزائرية كنا في المقدمة الى درجة أن اعدادا من الجزائريين كانوا يشتغلون معنا منهم الاساتذة عبد الله شريط الأستاذ الجامعي الان في الجزائر وعبد الرحمان شريط السفير في بغداد حاليا والازهاري شريط مسؤول الصحافة في حزب جبهة التحرير ومحمد الميلي السفير في اليونسكو وبورغدة وبن سليس وغيرهم والقصاص المبدع الطاهر وطار وعيسى الذي كان يلهب حماس الجماهير في تعليقاته في الاذاعة التونسية بعد ذلك في حصة «صوت الجزائر» واخرون. وكان انتصار الثورة الجزائرية انتصارا لنا في «الصباح» أيضا ونحن نودع بعيون تترقرق فيها الدموع افواج الزملاء الذين ذهبوا لبناء الدولة الجديدة. ثم كانت ايضا هناك معارك التحرير في افريقيا.. وفي فلسطين التي كان للصباح شرف نشر أول بيان لثورتها المظفرة تحت اسم «العاصفة» غداة يوم أول جانفي 1965. المعركة الثالثة التي واجهناها هي معركة التطوير والحداثة.. والتي بدأناها في الستينات ولكن بمواجهة عراقيل كثيرة.. وفي سنة 1972 بعد 21 سنة على اصدار العدد الاول يوما بيوم انطلقنا في اتباع احدث الطرق الفنية بادخال الطباعة على «الأوفسات»، ثم بادخال الطباعة التصويرية الالكترونية، وكنا أول مؤسسة في تونس. والمغرب العربي وافريقيا تعتمد هذه الاساليب.. كانت مغامرة دخلناها وكسبنا الرهان فيها أيضا.. ولكنها مغامرة متواصلة لاننا مازلنا نطور. ومع هذه المعارك الثلاث التي خضناها ومازلنا نخوضها كان المحتوى هو الهم الأكبر الذي يأخذ الحيز الأوفر من اهتمامنا.. فالجريدة.. أي جريدة في حاجة الى ان تتغير.. الى ان تتطور وهذا ما حرصنا عليه. كان لابد من التغيير الشكلي.. قفزنا بعدد الصفحات من اربع صفحات ثم صفحتين فقط في 1951 الى 16 صفحة حاليا.. وخرجنا من عالم الطباعة التقليدية الى عالم الطباعة الالكترونية وادخلنا من اساليب الصحافة العصرية كل جديد.. ولكن أيضا كان لابد من التطور المضموني وهنا لابد أن اذكر أن «الصباح» تبنت ومازالت تتبنى قضايا مصيرية تهم حياة الشعب ومستقبله. لقد تبنينا قضية التعريب والاصالة في وقت كان يغامر من يتحدث عنهما ويوصف بالرجعي والظلامي. لقد تبنينا قضايا الشعب ومازلنا ندافع عن مطالبه.. لقد تبنينا قضية الديموقراطية وكانت «الصباح» هي اول صحيفة في تونس تطلق نداء للتعددية الحزبية في وقفقة التأمل سنة 1970 ثم في شهر اوت 1977 ومازالت هذه القضية شغلنا الشاغل لاننا نعتقد انها هي التي يمكن ان تقي شعبنا من الانحرافات والتفرد والخطأ والاصرار على الخطأ.. ولانها هي التي تسمح لنا بأن نقول كأفراد ومجموعات كلمة في المستقبل الذي يجب ان ننحته جميعا. ومع تطور «الصباح» كان لابد ان نتوسع في نوعية الخدمات ونوعية القراء الذين نتجه اليهم.. في اول جوان 1975 اصدرنا عن «دار الصباح» جريدة «لوطون» (الزمان).. وكان هدفنا واضحا.. هو تقديم خدمة صحفية تعتمد الاصالة والعروبة لهؤلاء الذين مع اصالتهم حكم عليهم بان لا يقرأوا العربية.. وكانت تجربة ناجحة.. اعتمدت لغة اجنبية لتبليغ رسالة الاصالة والتعريب والاسلام الى الذين لا يجدونها فيما توفر في السوق من صحف. في بداية جانفي 1985 اصدرنا دفعة واحدة 3 صحف اسبوعية. «الصدى» لتكون صحيفة الشباب المتفتح الذي ينظر الى المستقبل. «لوطون هبدو» و«الصباح الأسبوعي» للحفاظ على حضور دائم ومتواصل.. ومع الاحتفال بالذكرى 35 لتأسيس هذه الصحيفة التي اصبحت مدرسة خريجوها يسيرون اليوم عدة عناوين في البلاد ويحتلون مناصب مرموقة في الوزارة والسفارة وقيادة المؤسسات ويعتبرون رمزا للاداء الجيد والايمان بالقضايا.. مع هذا الاحتفال نود ان نقول اننا نواصل السير على نفس الخط.. خدمة صحفية جيدة ومتنوعة للقارئ.. تمسك بالقضايا المصيرية للتونسيين والعرب والانسانية.. وعمل دائب لنكون دائما في مستوى ما ينتظره قراؤنا الأكثر انتشارا اليوم بين المطبوعات التونسية وشعبنا الذي يراقب خطانا ويشجعنا. ماذا نتمنى اليوم؟ نتمنى ان نكون دوما في خدمة بلادنا وان نواصل المسيرة التي بدأناها منذ 35 سنة لخدمة وطننا في كل مجالات الكفاح التي يخوضها. ان نستمر في نصرة قضايا العروبة والاسلام.. التي هي جزء لا يتجزأ من قضايا الانسان المعاصر أينما كان.. ان نتابع خدمة القضايا المصيرية كتثبيت الهوية العربية والاسلامية.. كدفع التعريب.. كتعميق المسار الديمقراطي وابداء الرأي في كل ما يعتوره من قصور. وكل صباح وأنتم في لقاء جديد مع «الصباح».