ثمة عقل خطير، بدأ يتشكل من وراء المناكفات والصراعات السياسية الدائرة رحاها في المشهد السياسي العام ببلادنا، منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات الماضية.. إذ بدأت تتسلل إلى وعي قسم من التونسيين، فكرة وجود صراع بين الإيمان والكفر، والملحدين والمسلمين، والإسلام والحداثة، والعلمانيين والإسلاميين.. إلخ.. ففي غمرة الحراك السياسي، نسي البعض، أن اختزال الجدل السياسي والصراع على الحكم، في ثنائية حركة النهضة وما دونها، سيؤدي في النهاية، إلى خلق استقطاب ثنائي شديد الخطورة، بين النهضة و"المعارضة"، وهو ما قد ينتج ذات الحصيلة التي أفرزتها انتخابات أكتوبر 2011 التاريخية، في أول استحقاق انتخابي قادم.. يخطئ الذين يحرصون على إحداث انقسام في البلاد على أساس ديني، أوعلى خلفية تلك الثنائيات الفكرية والإيديولوجية التي كانت سائدة زمن الحرب الباردة، مطلع سبعينيات وثمانينيات القرن المنقضي، ليس لأن الزمن تجاوزها فحسب، ولكن لأن المشهد السياسي والثقافي لتونس ما بعد ثورة 14 جانفي، ينبغي أن يقوم على مرتكزات مختلفة، أساسها الوفاق، وأعمدتها، الحوار والاختلاف، مهما كانت التباينات والتناقضات الفكرية والإيديولوجية، ولا ينبغي أن ينسى هؤلاء وأولئك، أن الديمقراطية، تراكم في الفكر والممارسة، وليست مجرد قوالب فكرية "منمذجة" يحرص البعض على "إسقاطها"، بالاعتماد على "الزمن" البريطاني أو الفرنسي أو الأميركي أو التركي، أو غيرها من النماذج الجاهزة، وإن بدت ناجحة في سياقها الثقافي والحضاري.. ويبدو أن"الشيخ" (بالمفهوم السياسي للكلمة)، الباجي قائد السبسي، إلتقط هذا الواقع، بمجرد خروجه من الحكم، لذلك سارع إلى إطلاق "مبادرته" يوم 26 جانفي، داعيا إلى "بديل" تكون "الوسطية" عموده الفقري، أي بعيدا عن الأشكال المختلفة للعلمانية، وبمعزل عن المقاربات الإيديولوجية، المستهلكة في المشهد العام اليوم، لأنها مقاربات أحدثت تشويشا في الأذهان والعقول، لن تربح منه بعض الأطراف النافخة فيه، سوى مزيد من الفشل السياسي والانتخابي، وستستفيد منه لاحقا، الأحزاب المنظمة والمهيكلة والمتجانسة فكريا وسياسيا، وهي محدودة جدا في مشهدنا السياسي.. ولا شك أن مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تمر بها بلادنا في هذه الظرفية الصعبة، اقتصاديا واجتماعيا، تقتضي وفاقا واسعا بحجم الرهانات المطروحة على البلاد برمتها، ويخطئ من يعتقد أن هذه الرهانات لغم سينفجر على "الترويكا" الحاكمة فحسب، لأن شظايا القنبلة ستشمل الجميع لا قدر الله.. فهل من الممكن التأسيس للديمقراطية في بلادنا بهذا النوع من التمزق وعمليات التمزيق الإرادية التي تقوم بها أطراف ضد أطراف أخرى؟ وكيف يمكن بناء نموذج ديمقراطي حقيقي، و"ماكينة" التهرئة السياسية للعائلات الحزبية، تتحرك بكيفية أنشط مما كانت تتحرك إبان الثورة أوقبيل الانتخابات؟ وهل يمكن إنجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي بإرادة تقسيم المجتمع إلى يمين ويسار، وأغلبية وأقلية، وحكم ومعارضة، وحداثيين وماضويين؟ إنه منطق عقيم، يذكرنا بمنطق الزعيم بورقيبة لحظة مسكه بزمام الحكم إبان الاستقلال، عندما أقصى كل نفس ديمقراطي كانت بعض الشخصيات السياسية نادت به صلب الدستور التونسي، تماما مثلما أقصى الزيتونيين لاحقا، وهو ما كرس خلال عقود حكمه، منطق الإقصاء، وكان مدخلا للاستبداد الذي بلغ ذروته مع بداية الثمانينات، قبل أن يأتي بن علي ليجد الأرضية مهيأة لتضخيم كرة الاستبداد، بحيث أصبح ثقافة وسلوكا وآليات وقوانين ومؤسسات.. فهل يريد بعض الساسة وسماسرة الإيديولوجيا عندنا، أن يجهضوا التجربة السياسية الجديدة لتونس، حتى وإن كان الهاجس، عناوين الديمقراطية والعلمانية والحداثة؟ من باب أولى وأحرى، إنجاح الانتقال الديمقراطي، وتجاوز هذه الفترة الصعبة، عبر وفاق حقيقي، يمكن للمجلس التأسيسي أن يحتضن حوارا واسعا بشأنه، يكون "مادة" أساسية لانطلاقة جديدة، تضع لبنات رؤية تشاركية بين جميع الأطراف، يكون محورها، تجاوز المخاطر المحدقة بالبلاد، وإنجاح الانتقال الديمقراطي، عبر الشروع في كتابة الدستور، والإعداد للانتخابات القادمة.. بدون ذلك، ستتسع دائرة التجاذبات، ومن غير المستبعد أن تتطور من الساسة إلى المجتمع، ليكون العنف والفوضى هما النتيجة، وهذا ما يريده البعض، عن سوء نية، بل هذا ما يخطط له البعض، ممن وضعوا أموالهم وسخروا إمكاناتهم لتفجير الوضع، لأن الانتقال الديمقراطي الهادئ، سيحيلهم بالضرورة على المساءلة القضائية، وعلى الحساب القانوني.. فما رأي العقلاء من الساسة التونسيين، وهم كثر في بلادنا؟