هل سيطول مخاض ولادة الدستور أكثر ممّا نعتقد؟ سؤال بات يطرح بإلحاح و يؤرّق الرأي العام الذي يرنو إلى وضع دستور جديد للبلاد في أقرب الآجال يضع حدّا للتجاذبات السياسية ويؤسس فعليا للجمهورية الثانية على مستوى هيكلة مؤسسات الدولة وتنظيم الحياة السياسية في إطار ديمقراطي يضمن التعددية والحريات العامة.. وإذا كان للمجلس التأسيسي وممثليه المنتخبين من الشعب الذي منحهم الشرعية الوحيدة لتمثيله والتعبير عن إرادته هو الذي «يحتكر» شرعيا مهمة صياغة دستور الدولة مع تشريك كل الأطراف حسب المسموح به قانونا، فإنه -ومنذ الانطلاق في المراحل التحضيرية لأعمال الصياغة- «اشتعل» الشارع وانقسم بين مدافع على مدنية الدولة، وبين مطالب بتطبيق الشريعة و»إنقاذ» البلاد من حالة التغريب المزمنة والمتواصلة منذ الاستقلال حسب رؤيتهم الخاصّة.. حيال ما ذكر نجد أن كل التصريحات الرسمية التي وقع الإدلاء بها سواء من طرف أعضاء الحكومة أو أعضاء المجلس التأسيسي تنصّلت من «المسؤولية المباشرة وتحلّت بالكثير من الديبلوماسية ولم تقطع الشك باليقين وسعت لإيجاد مبرّرات لهذا الحراك الشعبي من هذا وذاك دون أن تبادر بحسم الخلاف نهائيا وفي إطار ما تخوّلها لها الشرعية. مقرر الدستور يتبنى الشريعة مصدرا للدستور ! مقرّر الدستور الحبيب خضر أعلن منذ بداية أعمال الصياغة أن خيار الشريعة مصدرا للتشريع في الدستور خيار مطروح، وقد أجاب في حوار تلفزي عن السؤال المتعلّق بالفصل العاشر من دستور النهضة المزعوم والذي ينصّ على الشريعة مصدرا للدستور بأنه فصل «طبيعي جدّا» لدستور في بلد إسلامي.. حركة النهضة، تبدو أقوال ممثليها ووزرائها متضاربة فشق أبدى موافقته في الإبقاء على الفصل الأوّل، وشق تبيّن لنا من خلال التصريحات الإعلامية أنه «متمسّك» بتطبيق الشريعة.. لكن لا نقف حقيقة على رأي رسمي موحّد للنهضة التي على ما يبدو رضخت لرصيدها الانتخابي من السلفيين رغم أن مسألة إدارج الشريعة من عدمها كمصدر للدستور، مسألة جوهرية ومحورية وفارقة في أعمال الصياغة، لأنها ستحدّد ملامح الدستور القادم وملامح الدولة كذلك.. ورغم أن الكل يتحدّث عن التوافق الحاصل داخل الحكومة وداخل المجلس التأسيسي للإبقاء على الفصل الأوّل من دستور 59 الذي حسم، كما صرّح بذلك بعض نواب التأسيسي حول علاقة الدين بالدولة، وبالتالي فان الجدال في هذه المسألة محسوم، وإثارته في هذا الوقت بالذات هو مدعاة للفرقة وتقسيم المجتمع.. مراوغات كلامية.. وبعد! لكن هذا التوافق لا نعتقد أنه يعبّر صراحة على ما تستبطنه نفوس بعض الأطراف السياسية خاصّة حركة النهضة المعنية مباشرة بهذه المسألة، ليست لأنها الحزب ذو الأغلبية في التأسيسي فقط لكن لأن مرجعيتها الدينية تضعها على محكّ الاختبار بين شعارها الانتخابي المؤكّد على تمسّكها بمدنية الدولة وبين الخيار الآخر المطروح اليوم والمتعلّق بالشريعة مصدرا للدستور.. وما لا نستسيغه هو هذه المراوغات الكلامية فبعض وزراء النهضة صرّحوا بإمكانية الإبقاء على الفصل الأول من الدستور.. وبعض ممثلي الحركة منهم رئيس لجنة التوطئة عتيق ونائبة رئيس المجلس التأسيسي محرزية العبيدي فقد أبديا تفهّما للمواقف المطالبة بتطبيق الشريعة.. وبعض ممثلي النهضة في لجنة التوطئة طرحوا فكرة عرض المسألة على الاستفتاء الشعبي.. مراوغات ومواقف متضاربة جعلت موقف حركة النهضة يكتنفه الغموض ومدعاة للريبة والشكّ حول نواياها الحقيقية، خصوصا وأنها لم تحسم المسألة بموقف واضح وجليّ.. «السلفيون.. هل يحكمون من خلف الستار؟!» من غريب الصدف أن تتزامن المظاهرات المطالبة بتطبيق الشريعة مع أحداث مؤسفة، تقول السلط الأمنية أنها معزولة ولا تندرج في سياق توجّه سياسي معيّن، ونقصد الانتهاك المشين للمقدسات على غرار تدنيس المصحف الشريف ورسم نجمة داود على حائط جامع الفتح.. هذا دون اعتبار واقعة «تنكيس» العلم التونسي من طرف أحد السلفيين.. وهذا اللبس في وضع التحرّكات الشعبية هو في سياق منطقي، وقد بلغ أيضا المواقف الرسمية للأحزاب المعنية التي يبدو أنها متخوفة من حسم المسألة.. ولا بدّ أن نشير الى أن «انقلاب «حركة النهضة على برنامجها الانتخابي الذي كان متمسّكا بمدنية الدولة، وإصداع بعض قياديي الحركة اليوم ومنهم الحبيب اللوز بأن لا ضرر اليوم من التنصيص على الشريعة جعلنا نطرح سؤالا هل استطاع السلفيون باحتكارهم للفضاء العام التأثير في قرارات النهضة ومسارها؟ ويرى سياسيون منهم جنيدي عبد الجواد عن حركة التجديد المندمجة حديثا مع حزب العمل، أن الشريعة هي في حدّ ذاتها شرائع، وإذا اتبعنا هذا المسار فسنسقط في متاهات خطيرة تقسّم المجتمع وتضرب النسيج الاجتماعي، فالدستور هو دستور كل التونسيين وهو يضمن حرية المعتقد، ولن يتنافى مع الشريعة السمحاء. منية العرفاوي
آمال قرامي (باحثة في علم الأديان) : «حراس» الشريعة يريدون الاستمتاع بالسلطة عبر التحكم في نمط العيش تطبيق الشريعة «اختطاف» للمسار الديمقراطي.. أن يتظاهر الناس ويرفعون شعارات تعبّر عن مطالبهم فذاك حق مشروع لا يختلف فيه اثنان.. لكن تقسيم الشارع بين كفر وإيمان والزجّ بالمقدسات في تجاذبات ايديولوجية فذلك ما لا يستساغ باعتبار أن مشاكل البلاد والعباد أعمق وأخطر.. «الأسبوعي» طرحت أسئلة على الدكتورة آمال القرامي الباحثة في علم الأديان والمتعلقة خاصّة بالشعارات التي ترفع لتطبيق الشريعة وفي أيّ سياق نضعها وكيف يمكن التعامل معها سياسيا وفي البداية تقول آمال القرامي: «أعتبر أنّ رفع فئة من التونسيين شعار الشريعة الإسلامية مصدر أساسي للدستور ينمّ عن تصوّر لمشروع مجتمعيّ يحلم به هؤلاء ويمارسون ضغطا يزداد يوما بعد آخر علّه يتحقّق. فمطلب العمل بالشريعة أو تفعيل الشريعة يحجب المطلب الرئيسيّ، وهو اعتماد نمط عيش مشرقي يُؤثر الظاهر على الباطن، ويغلّب الطقوسيّة الشكلانيّة على حساب صدق الضمير، وهو نموذج تسرّب إلينا من خلال الفضائيات الدينيّة وخطاب الدعاة الدينيين. إلاّ أنّ هذا المطلب يفتقر إلى الدقّة والوضوح من جهة، وغير معبّر عن الواقع الذي يعيشه المجتمع التونسي، من جهة أخرى. فإذا طلبت من هؤلاء المتظاهرين ما هو تعريفهم للشريعة ستجد تفاوتا في الردود ، وسوء فهم للمصطلح لدى معظمهم من ثمّة فكلّ يفهم الشريعة من منظوره الخاصّ بل إنّني أذهب إلى أنّ هذه الجموع تقع ضحيّة أطراف تحرّكها دون أن تمدّها بالمعرفة المعمّقة أو تزوّدها بآليات تخوّل لها فهم تاريخيّة الشريعة وتمكنّها من إعادة التفكير فيها وفق التراكم المعرفيّ الذي حصل عبر التاريخ. سجالات مفتعلة ومهمشون وتضيف قرامي: «الشريعة لم تطبّق عبر المراحل التاريخية بطريقة آلية ومنمّطة وموحّدة كما يتصوّر البعض بل إنّها خضعت لمؤثرات متعدّدة كالأعراف السائدة في مختلف المجتمعات وفهوم أصحاب المذاهب وعملهم (السنة، الشيعة، الخوارج..) وإكراهات السياسة ومقتضيات الاجتماع وغيرها من العوامل. إنّ هذه الطروحات النخبوية والسجالات المفتعلة في مثل هذا التوقيت لا تعبّر عن مطالب فئات المهمّشين الذين قادوا الثورة التونسية وحلموا باستعادة إنسانيتهم عبر العمل والكرامة والحرية والعدالة.. كما أنّها تتنكّر لحاجات الناس ولا تبالي بمعاناتهم اليومية وتتعمّد تجاهل الأزمات الحقيقية التي تمرّ بها البلاد كاستشراء البطالة وتفشّي الفقر وهشاشة الوضع الصحّي وانهيار المنظومة الاقتصادية».. الانتصار للشريعة لا يعني رغبة في إنقاذ البلاد وتضيف الباحثة في علم الأديان آمال القرامي «وهو أمر راجع إلى عجز عن إنتاج مقترحات عملية للخروج من الأزمات وعلى هذا الأساس فإنّها تعدّ هجينة لا غاية لها سوى الهيمنة على المجال العام المدني وإعادة تشكيله وفق تصوّرات تقليدية أو متشدّدة ل-حرّاس الشريعة- الذين يرومون احتلال مواقع والاستمتاع بسلطة عبر التحكّم في نظام الأسرة والعلاقات الاجتماعية ونمط العيش وأساليب التفكير ومناهج التعليم.. موظّفين في ذلك أشكالا معولمة في التعبئة والتجييش. ولعلّ هذه المطالب التي تتذرّع بالانتصار للشريعة لا تعكس رغبة في إنقاذ البلاد والعباد بقدر ما تعبّر عن مطالب سياسية واضحة. إنّنا بحاجة ماسة إلى تحقيق الأهداف الجوهريّة التي سالت من أجلها دماء الشهداء وقامت عليها الثورة تلك التي سمحت لتونس بأن تحتلّ موقعا مشرّفا في العالم وسمحت للتونسيين بالتعبير. فالثورة إذن هي ثورة الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعية وليست ثورة من أجل قيام الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة. وإن حدث هذا فإنّ مسار التحوّل نحو الديمقراطية قد حاد عن مسلكه وأهدافه وتمّ اختطافه. منية