لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر أن الموسيقى التركية تطورت بشكل ملحوظ بل تجاوزت الموسيقى العربية بأشواط وذلك عبر المؤسسات التعليمية وتصنيف التراث والاتجاهات اللحنية وألوان الغناء وقوالبه وأساليب العزف المتفردة وبالتالي تطوير ثقافة المستمع التركي التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من الذاكرة والهوية التركية. الموسيقى التركية اليوم أصبحت تشكل لغزا بالنسبة لأحباء الفن الراقي وحتى أمهر العازفين -العرب منهم والعالميين- منذ حداثتها منتصف السبعينات مع أسماء كبيرة مثل زكي موران وأمل صين وأورهان جنجبي فضلا عن الملحنين الكبار أمثال إسماعيل مظفر وسلامة شاهين وخليل كاردومان..وها هي الساحة الفنية في تركيا في السنوات الأخيرة تزخر بأسماء شهيرة على غرار عازف القانون العالمي هايتاتش و»أسطورة هذا القرن» في العزف على الكلارينات حسنو والمغني والملحن إبراهيم تطليس(ذو أصول كردية) وعازف البيانو غوكسيل باكتاغير الذي ألف أكثر من 140مقطوعة موسيقية تضمنت 35إيقاعا و105لحن موسيقي بما فيها الأنماط الموسيقية الجديدة المستوحاة من موسيقى الجاز..والقائمة تطول لتتأكد أن الموسيقى التركية لا حدود لها بدليل أنّك حين تستمع الى أساليب العزف على الصفحات المخصّصة في الموقع الاجتماعي الفياسبوك تصاب بالذهول إزاء أداء بعض الهواة على آلات مختلفة وتدرك جيدا البون الشاسع بين تلك الموسيقى والموسيقى السائدة في عالمنا العربي. واستئناسا بآراء المختصين من تونس كان لنا لقاء مع أحد العازفين التونسيين المهرة على آلة العود بشير الغربي تحدثنا فيه بالخصوص حول مقومات الموسيقى التركية وأسباب تطورها. قال العازف بشير الغربي أن الموسيقى التركية ابتدأت من ذات الأصول الطورانية مثل الموسيقى الكردية والأرمينية والإيرانية فضلا عن الموسيقى العربية والبيزنطية لكنّها استطاعت أن تكوّن شخصيتها المستقلة وتحفظ حدودا لسلمها الموسيقي وتقنيات الأداء والعزف المتصلة أساسا بالشخصية التركية. ليضيف «بمجرّد أن تستمع إلى مقطوعة موسيقية تدرك بسرعة أنها تركية سواء من خلال التوزيع أو اللّحن». كما أن تقنيات التسجيل والآلات والكلام لبشير الغربي- شهدت تطورا كبيرا في تركيا وهو ما ساهم بشكل كبير في انتشار الموسيقى التركية عالميا والمحافظة من جهة أخرى على النسق التصاعدي الذي شهدته ولا تزال. تقاليد الإتقان أشار بشير الغربي كذلك إلى نقطة في غاية الأهمية ألا وهي تقاليد الإتقان في العزف وهو ما تفتقر إليه ساحتنا الموسيقية -على حد تعبيره-. فالعزف في تركيا «أصبح متجذرا فيهم غير مقتصر على الشهائد العلمية لينعكس بصورة إيجابية على أخلاقهم وسلوكهم اليومي» من خلال تبنّي ثقافة الإتقان والحرص على اختراق الحدود وخاصة المحافظة على خصائص الهوية التركية. وقد ضرب بشير الغربي مثلا على ذلك يستحق الذكر وهو عازف الكلارينات العالمي حسنو سنلندريشي صاحب مقطوعات موسيقية في غاية الروعة تحلق بالمستمع الى سدوم المطلق وتؤكد مدى عمق الموسيقى والثقافة التركية. هذا العازف الذي أصبح سفيرا للموسيقى التركية وشارك مع الفرقة العالمية المعروفة «امبريو» واستمر بالتجوال معها. كما رافق العديد من الفنانين الأتراك البارزين سواء في الحفلات الموسيقية أو في التسجيلات..الى أن أسّس خماسيا سمي «حسنو سلنديريتشي والأصدقاء» بغية إيصال الموسيقى التركية إلى شرائح أوسع من المتلقين. كل هذه الأنشطة يرى بشير الغربي أنّها كفيلة بأن تزيد الموسيقى التركية تطورا وانتشارا في العالم ..تقدم يعكس عقلية ورواسب تاريخية لطالما آمنت بأهمية الموسيقى في ترسيخ مفهوم الوطنية.