لئن تعالت أصوات المسحوقين والمفقّرين والمعطلين عن العمل للمطالبة بحق الشغل اللائق والصحة المجانية والتعليم الجيّد والفكر الحرّ وتضمينها في الدستور، فإن "الدسترة" لا تكفي على حدّ تأكيد عدد من الجامعيين والحقوقيين المشاركين في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية المنتظم أمس واليوم بالعاصمة بالشراكة مع الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، بل يجب إيجاد الآليات الضرورية لتمثّل تلك الحقوق وتجسيدها على أرض الواقع. ونبّهوا في هذا اللقاء الذي حضره خبراء من إفريقيا الجنوبية وكولمبيا وبولونيا والاكوادور إلى أنّ تونس رغم مصادقتها على العديد من الاتفاقيات الدولية الضامنة لحقوق الإنسان، فإن النظام السابق كان يبرر عدم تطبيقها بعدم تلاؤمها مع القوانين الوطنية.. وعوضا عن تنقيح تلك القوانين لتنسجم مع الاتفاقيات الدولية، كان يخرق تلك الاتفاقيات بصورة فاضحة. وفي هذا السياق لاحظت الأستاذة إيمان البجاوي الناشطة الحقوقية وعضو المنتدى، أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كانت الأكثر تهميشا في تونس الأمر الذي أدى إلى انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 ثم إلى ثورة 17 ديسمبر 2010.. ومن خلال الشعارات التي رفعت في الثورة كانت هناك دعوة قوية إلى إرساء اقتصاد أخلاقي يحترم إنسانية الانسان، وأكدت على ضرورة المصادقة على البروتوكول الاختياري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . ونبّه الأستاذ عبد السّتار بن موسى رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، إلى أن تونس في حاجة ماسة الى استراتيجية وطنية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .. لأن الانتقال للديمقراطية يمرّ بالضرورة بتكريس هذه الحقوق على أرض الواقع.. وعبر عن أسفه للممارسات الأخيرة التي تضرب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتعتدي على الحريات الاكاديمية بالجامعات وعلى المبدعين والمعطلين عن العمل.. وفي سياق حديثه عن دسترة تلك الحقوق، لاحظ أن تونس صادقت على الكثير من المواثيق الدولية لكنها في كثير من الأحيان لم تطبق. وأضاف:"نحن في حاجة الى فتح حوار وطني شامل حول منوال التنمية الجديد يشارك فيه المختصون والمجتمع المدني من اجل أن يحفظ المنوال البديل الكرامة ويوفر الشغل".. حقوق أساسية إن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هي حقوق أساسية في تصور المجتمع المستقبلي.. هذا ما أكد عليه الأستاذ سامي الطاهري الأمين العام المساعد المكلف بالإعلام بالاتحاد العام التونسي للشغل، وبين أن الاتحاد بادر بعد الثورة بصياغة مشروع دستور، تم عرضه على لجان المجلس الوطني التأسيسي وهو يأمل أن يقع الرجوع إلى بعض فصوله والاستئناس بالمبادئ التي تأسس عليها.. وأضاف الطاهري:"لا بد من التأكيد أيضا على دسترة الحقوق الثقافية.. إذ لاحظنا في هذه الفترة ردة (بكسر الراء) وفرض تصورات مجتمعية من زوايا محددة يمكن ان تؤول بنا الى مجتمع استبدادي جديد وتحت مسميات مختلفة يمكن ان تعيد انتاج الاستبداد، والحقوق الثقافية من الحق في الابداع والفن رأيناها تضرب امام المسرح البلدي لكن الحكومة تصمت ورأيناها تضرب في كثير من الجهات بتعنيف المبدعين وتكفير بعض العروض ومصادرة الآراء .. وطال العنف حتى المربين الذين يدرّسون الفنون لذلك نهتم في الاتحاد العام التونسي للشغل بهذا البعد الثقافي، ونعتبر تضمين الحقوق الثقافية في الدستور أمر اساسي.. ونرى أن الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية متوازية ولا يمكن أن تسير بسرعات مختلفة ولا يمكن تغليب حق على آخر وتأجيل حق على حق، كما يجب ان تكون صياغتها واضحة في الدستور.. وسيكون المجتمع المدني قوة ضغط يتابع ويراقب ويمنع أي حيف". ولا يختلف ممثل المنظمة الشغيلة في الرأي كثيرا مع ما ذهب إليه خليل الزاوية وزير الشؤون الاجتماعية في الحكومة المؤقتة، إذ أشار إلى أن الدستور لا بد ان يتضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لكن يجب ألا يقتصر الأمر على هذا الحدّ، بل يتعيّن تدارك بعض النقائص المسجلة على مستوى التشريعات وترجمة الحقوق إلى واقع، وعلى المجتمع المدني أن يتجاوز مسألة المطالبة بدسترة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وان يعمل على ترجمتها إلى قوانين وحقوق وآليات.. وفسّر الزاوية أن تونس تعتبر متأخرة مقارنة بالمغرب في مجال امضاء بعض الاتفاقيات المتعلقة بالتفاوض الجماعي والمفاوضات في الوظيفة العمومية وأيضا في مجال طب الشغل والصحة والسلامة المهنية خاصة على مستوى التنظيم والتشريعات .. المجلس التأسيسي والحقوق الاقتصادية والاجتماعية اعتبر الدكتور مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي، أن الثورة التونسية انطلقت شرارتها بسبب تأزم الوضع الاجتماعي، ونتيجة لذلك فان الدستور التونسي الجديد يجب أن يضع المسألة الاجتماعية في صدارة أولوياته وأن يكون معبرا عن مطلب الحرية والعدالة وان يركّز الآليات الضامنة لحقوق الانسان. وأضاف :" لقد عمل المجلس الوطني التأسيسي، منذ جلسته الأولى المنعقدة يوم 22 نوفمبر 2011 صلب اللجنة التأسيسية، على دراسة العهود الدولية والمعاهدات والمواثيق ومشاريع الدساتير والمقترحات الواردة عليها من قبل المجتمع المدني، إلى جانب الاستماع إلى الخبراء والمنظمات الممثلة للمجتمع المدني، وبلورت هذه اللجنة جملة من التصورات تهم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وأوكلت لأربعة فرق عمل مهمة الصياغة الأولوية لهذه التّصورات، وينتظر أن يقع عرضها موفى ماي الجاري على اللجنة ".. وتتمحور هذه التصورات في الحق في الشغل والحق في أجر منصف والحق النقابي والمساواة في الحقوق والواجبات وفي التغطية الاجتماعية والحق في مسكن لائق وحق الطفل في التربية السليمة وحق الأمهات العاملات والحق في الصحة وفي مجانية التعليم ذي جودة والحق في بيئة سليمة نظيفة وغيرها، وجل هذه الحقوق مضمنة في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكن تجسيمها يتطلب ارادة سياسية قوية. البروتوكول الاختياري وقدم عدد من المشاركين الأجانب في المنتدى مداخلات تحدثوا فيها عن البروتوكول الاختياري المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحثّت ايلين ويزنكي ممثلة التحالف الدولي للمنظمات غير الحكومية من اجل التصديق على البروتوكول الاختياري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على ضرورة المصادقة عليه و قدّمت تفاصيل ضافية عن مضامينه وقالت إنه يتيح للأفراد والدول آلية انصاف دولية ويضمن اجراءات التظلم من الاعتداءات على الحقوق الواردة فيه بهدف توفير فرص لإنفاذها. وتحدثت ليليان شاوني من جامعة وستراتواند بافريقيا الجنوبية عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب.. وبينت أنه تم التنصيص في هذا الميثاق على جملة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على غرار الحق في التعليم والصحة والملكية والعمل والسكن والغذاء.. لكن تونس لم تصادق عليه. ولاحظت سندرا راتجين ممثلة اللجنة الدولية للحقوقيين أنه لا يمكن لدولة أن تستند إلى قانونها الداخلي لتبرير عدم تطبيقها لمعاهدة دولية صادقت عليها فالتطبيق أمر ملزم لها ولكل هياكل الدولة.. سعيدة بوهلال رئيسة الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان ل"الصباح": لا مجال للتّراجع عن الحريّات الفرديّة في تونس لأنّ المجتمع المدني بالمرصاد للمرتدّين قالت سهير بلحسن رئيسة الفدرالية الدولية لحقوق الانسان إنه لا مجال الآن للتراجع عن الحريات الفردية والحقوق المكتسبة في تونس لأن المجتمع المدني بالمرصاد لكل محاولات الردة. وبينت أن التونسي ثار من أجل أن يكون حرا، ولهذا السبب لا يمكن لأي جهة أن تقيد هذه الحرية أو تحرمه منها بأي شكل من الأشكال وتحت أي مسمّى.. ولاحظت أن هناك حاليا انتهاكات عديدة للحريات الفردية، وعدم احترام لها، وهو ما يجب أن لا يحدث بعد ثورة.. وقالت إنه يتعين على المجلس التأسيسي أن يرتقي بالحقوق والحريات إلى مرتبة دستورية ويجب على المجتمع المدني أن يحرص على تجسيمها في الواقع حتى تكون ثقافة وسلوكا. وأضافت محدثتنا أن الحقوق التي يجب دسترتها لا تقتصر على الحقوق السياسية والمدنية بل ينبغي أن تشمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. وبينت في تصريح ل"الصباح" على هامش مشاركتها في المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية أن تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس يجب أن تنجح لأنه ليس أمام تونس من خيار آخر غير أن تنجح حتى تكون الثورة التونسية قدوة للبلدان التي ثارت بعد تونس على الأنظمة الاستبدادية.. وفسرت أن كل الأنظار متجهة الآن إلى تونس، وأن العديد من الملاحظين يعتبرونها مخبرا للثورات وينتظرون النتيجة. بوهلال الأستاذ الصادق بلعيد: تونس بعيدة كل البعد عن الثورة الثقافية لاحظ الأستاذ الصادق بلعيد أن تونس مازالت بعيدة كل البعد عن الثورة الثقافية.. وإجابة عن سؤال يتعلق بمدى أهمية دسترة الحقوق الثقافية في تونس، بين أنه قبل الحديث عن دسترة هذه الحقوق من المهم جدا الإشارة إلى أن المجتمعات المعاصرة تهتم بالأساس بالحريات السياسية، وفي درجة ثانية بالحريات الاقتصادية والاجتماعية، وهو على حد تأكيده خطأ كبير لأنه لا توجد حريات سياسية دون قاعدة اقتصادية واجتماعية. وأضاف محدثنا:"إن الأخطر من كل هذا، هو أنه حتى حينما يصبح للمجتمع بعض الاهتمام بالحريات الاقتصادية والاجتماعية فإنه يتغافل عن الحقوق الثقافية.. وتبين بالتجربة أن الاهتمام بهذه الحقوق الثقافية لا يتم إلا بعد ثورات.. فحتى في أوروبا كان المثقف سابقا مهمشا.. وعلى سبيل الذكر فإن الفنان موزار رغم درجة الابداع التي بلغها، ظل منسيا وعندما مات لم يذهب أحد إلى جنازته، ولم تتغير النظرة للفنانين إلا بعد 1827 إذ لأول مرة نظمت ألمانيا جنازة وطنية لبيتهوفن". وقال بلعيد إن الاهتمام بالفن في تونس مازال للأسف مقارنة بالبلدان الأوروبية في فترة ما قبل موزار وأضاف أن المجتمع الاسلامي ورث على اليهود منظومة متكاملة فيما معناها أن الفن والجمال من صنع الشيطان ويجب اجتنابهما. ولترسيخ الحقوق الثقافية يحتاج الأمر إلى عمل قاعدي طويل المدى يركّز على التربية على حب الجمال منذ الطفولة المبكرة وذلك من أجل إكمال الثورة.. فالبعد الثوري للثقافة لم يقع الاهتمام به كما يجب إلى اليوم.