هناك لبانة تمضغها اليوم عديد الأطراف المرتبطة بطريقة أو بأخرى بالنظام المافيوزي السابق، وهي كلمة «القضاء الشعبوي» التي يتم التلويح بها كلما تحركت آلة المطالبة بالحساب. فالقضاء الشعبي لا الشعبوي كما يرددون هو أحد استحقاقات الثورة، ودوره الطبيعي والشرعي هو رفع المظالم ومحاسبة كل من انحرف وأجرم على حساب المجموعة. فالقضاء العدلي هو بصفة عامة المؤهل لرفع المظالم عن الأفراد، أو عن المجموعات من الأفراد (شركات.. جمعيات.. الخ)، وهذا القضاء يصبح لا محالة شعبيا عندما يتعلق الأمر بالمجموعة الوطنية برمتها. فلا يُطلب منه طبعا أن يتعدى على القوانين ويخرقها، ولا أن يعتدي على حقوق المتهمين المضمونة للجميع، بل المطلوب منه هو أن يقدّر حق قدره حجم الضرر الملحق بشعب كامل ورمزية العقوبة، وعليه ألا يقتصر في مرحلة البحث والتحقيق على ظواهر الوقائع والأشياء، بل أن يتوسع فيها الى أقصى مدى، فكل مرحلة من مراحل الجرائم التي تنسب للفاسدين تكون غالبا محل تهمة أو تهم، أي أن التوقف عند نهايات الأشياء وحصر التحقيقات فيها لا يؤدي غالبا الى النتيجة المرجوة والتي ينتظرها الشعب بعد أن أصبح سيد أمره من قضائه. ولتوضيح الفكرة فإنني سأتخذ الحالة (le cas) قيس بن علي مثالا. فهذا الأخير يوجد اليوم حرا طليقا، بعد أن «بيّضته» العدالة تبييضا، فواقعة الوردانين لا علاقة له بها من قريب أو بعيد، والصكوك دون رصيد التي أصدرها قام بخلاصها، وها هو يعود مواطنا عاديا كغيره من المواطنين. قيس بن علي هذا منحت له على طبق من ذهب بفضل قرابته ل«الزين بابا» ما يشبه احتكارية بيع الخمر بالجملة وحتى المشروبات الغازية في ولاية المنستير، وشملت حدود مملكته في النهاية ولايتي سوسة والمهدية، وكان هذا الأخير في تحد للقوانين وتعدّ عليها، يفتح مستودعاته للبيع بالجملة والتفصيل حتى يوم الجمعة وأيام الأعياد الوطنية والدينية، وكان يكفي باعة الخمر في السوق السوداء أن يقولوا لأعوان المرور «كلمة السر»، وهي أن البضاعة مقتناة من قيس حتى يفتحوا لهم الطريق، ثم أن يكشفوا لأعوان الأمن في قراهم عن مصدر البضاعة حتى يتوقف كل ازعاج. فهل عجز قضاتنا عن ايجاد الوصف القانوني لمثل هذه الأفعال، ومثل هذا الاستهتار بقوانين البلاد والتعدي على مشاعر مواطنيها ببيع الخمر حتى في المناسبات الدينية والأعياد؟ أفلا يدخل هذا الأمر في باب استغلال النفوذ، أم أنه ليست هناك أية إرادة للمحاسبة والمساءلة؟ إن ما سبق يبين حقا غياب الإرادة، سواء كانت سياسية أو قضائية لمطاردة الفاسدين. فاحتكار بيع المشروبات الكحولية والغازية الذي تقرر بجرة قلم، بل بأقل من ذلك، بكلمة بسبب العلاقة الدموية مع زعيم العصابة، ألم يتم على حساب عديد المواطنين ممن يمكنهم تعاطي هذا النشاط، ألا يمثل تعديا على القوانين التجارية وتصديا للسلطة العمومية، ألم يكن ل«الزين بابا» نصيبه من الغنيمة؟ ألا يمثل الأمر أيضا من الناحية القانونية انخراطا في عصابة مفسدين، خربوا الاقتصاد والأمن وجروا الشعب الى التباغض، وما حدث من انتفاضات في الحوض المنجمي ما هو في نهاية المطاف إلا نتاج لهذا. وهل قامت مصلحة مراقبة الأداءات اثر الثورة بمراجعة دقيقة لمدى التزامه طوال ممارسة عمله بخلاص الأداءات لخزينة الدولة؟.. لا أظن ذلك. وهل لا يمثل التهرب من خلاص الأداءات في حد ذاته بحكم رابطة القرابة بالمخلوع نوعا من الاستيلاء على الأموال العمومية يفرض المساءلة القانونية والمصادرة؟ ولكن للذهاب في ميدان المحاسبة الى مداها، لا بد أيضا من انكباب المجلس التأسيسي عن سن قانون رجعي المفعول يغطي كامل سنوات حكم بن علي. حتى يمكن لرجال المراقبة الاقتصادية محاسبة الفاسدين على كل ما سرقوه من الشعب، وحتى لا يهنأوا بأي دينار منه. فلئن كانت جريمة تعذيب الأفراد لا تسقط بالتقادم، فأولى وأحرى أن يسحب الأمر أيضا على من يسرقون قوت الشعوب وآمالها. (٭) كُتبت هذه المقالة يوم أول أمس قبل إعادة إلقاء القبض على قيس بن علي بسويعات.