يبدو أن صراع الرواتب والامتيازات على أشده اليوم بين المجلس التأسيسي والحكومة. فبعد ما أثارته الجلسة السرية للمجلس التأسيسي الخاصة بزيادة رواتب النواب من ردود أفعال لدى الرأي العام (موالون ومعارضون على حد السواء) وبعد ما جاء في تصريح حمادي الجبالي رئيس الحكومة المؤقتة عندما وجه اللوم للنواب على هذا الإجراء وقال إنه لن يوقع على أي زيادة، جاء رد مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي الذي دافع عن نواب مجلسه أمام الهجمة التي تعرضوا لها مذكرا رئيس الحكومة بأن المجلس هو السلطة الأصلية.. كما فند النواب صحة ما تم تداوله عن الزيادة في رواتبهم. في الوقت ذاته وفي محاولة لرمي «كرة» الرواتب والامتيازات في ملعب الحكومة بوزرائها ومستشاريها ،شرع في الآونة الأخيرة بعض وجوه المعارضة في انتقاد تركيبة الحكومة وفيرة العدد ويقول هؤلاء أنها تكبد الميزانية مصاريف وامتيازات طائلة في ظروف اقتصادية استثنائية تمر بها البلاد. وبين هذا وذاك يريد المواطن البسيط تبين الحقيقة لا سيما وأن الموضوع يتعلق بأحد أهم استحقاقات الثورة وهي حسن التصرف في المال العام بعيدا عن المصالح الضيقة وتلهف المسؤولين بمختلف انتماءاتهم الحزبية ومناصبهم على الامتيازات. واليوم توجد شريحة واسعة من التونسيين تؤمن إيمانا راسخا أن الكل يريد استغلال هذه المرحلة الانتقالية وشعارهم في ذلك «ذراعك ياعلاف وأحيني اليوم وأقتلني غدوة»... جيش من المستشارين ينتقد كثيرون التركيبة الموسعة للحكومة الحالية وأضحى المرء يستمع في كل يوم إلى رقم حول عدد وزرائها ومستشاريها وكلفتهم على ميزانية الدولة. ولمعرفة حقيقة هذه الأرقام ومن خلال عملية جرد للتسميات في الرائد الرسمي منذ تولى الحكومة الحالية منصبها توصلنا إلى أن التركيبة الأولى للحكومة التي تم الإعلان عنها في الرائد الرسمي والتي ضمت 41 وزيرا وكاتب دولة ،تم تطعيمها -منذ تولى الحكومة مهامها وإلى غاية 22 ماي الجاري - بعدد من المستشارين ومكلفين بمأمورية وملحقين بدوواين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة بلغ عددهم 23 لدى رئاسة الجمهورية و34 لدى رئاسة الحكومة. زد على ذلك 74 بين مستشارين ومكلفين بمأمورية لدى بقية الوزراء. ويعتبر معارضو الحكومة الحالية ان هذا العدد من الوزراء وكتاب الدولة والمستشارين لا يتلائم مع وضعية الحكومة بصفتها مؤقتة ولا مع الظروف الصعبة التي يمر بها الإقتصاد والتي تستدعى اجراءات تقشفية كان رئيس الحكومة المؤقتة قد أعلن عنها منذ بداية التشاور بشأن تشكيل الحكومة وقال أيضا أن حكومته ستعطي المثل بهذا الشأن. الامتيازات و المنح ولئن يعتبر شق آخر أن أجر الوزير في تونس الذي هو في حدود 5.500 دينار لا يعتبر أجرا مرتفعا لكن المشكل يطرح في علاقة بالامتيازات المسندة للوزراء وكتاب الدولة لا سيما وأن هذه الامتيازات غير معلومة رغم أنها محددة بأوامر صادرة منذ عهد المخلوع لكنها ظلت طي الكتمان وغير منشورة(مرسوم 12 فيفري 1992 والمرسوم 183 بتاريخ 31 جويلية 2009). من جهة أخرى تطرح الاستفسارات بشأن امتيازات المستشارين والملحقين بالدواوين خاصة من يتم انتدابهم من خارج الإدارة.لأن من ينتمون إلى هيكل إداري يمكن الحاقهم بديوان وزارة مع الحفاظ على رواتبهم الأصلية والتمتع بامتيازات كمنحة الإلحاق وهي في حدود 350 د بالإضافة إلى أصولات البنزين...الخ أما من يتم انتدابهم من القطاع الخاص فإلحاقهم بالديوان وتعيينهم في صفة مستشارين يتم وفق عقد إسداء خدمة يحدد فيه الراتب والامتيازات وفقا للاتفاق المبرم بين الطرفين؟؟ قد لا يجد هذا الطرح من يؤيده من منطلق أن للحكومة وللوزراء الحق في إنشاء خلية عمل في دواوينهم يلحقون بها من يرونه مناسبا لمساعدتهم على آداء مهامهم. لكن إذا لم يكن هناك قيد قانوني يحدد عدد المستشارين والملحقين كما يوضح ذلك رضا جنيح أستاذ القانون العام "فهناك إشكال أخلاقي في علاقة بالإمكانيات المالية للبلاد" على حدّ تعبيره. و يضيف محدّثنا أنّه في البلدان المتقدّمة -و رغم إمكانياتها الهامة مقارنة بالوضع في تونس- هناك ضغط من الرأي العام على حكوماتهم للحد من استعمال المال العمومي في غير موضعه. بالتالي وبما أن رئيس الحكومة هو عمليا رئيس الإدارة وله امكانية التصرف في دواليب الإدارة وفق ما تقتضيه المصلحة العامة فقد لا تقتضي المصلحة اليوم تعيين عدد كبير من المستشارين برتب وامتيازات وزراء وكتاب دولة. غياب الشفافية المالية.. و تجدر الإشارة إلى أن غياب الشفافية حول الامتيازات المسندة والعقود المبرمة مع المستشارين والملحقين بالدواوين ..تزيد من ضبابية المشهد كما تغذي الشكوك وربما تفتح الباب للتأويلات. ويقول بهذا الصدد الأستاذ رضا جنيح أنه رغم صدور المرسوم 41 المتعلق بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية إلا أنه لا ينسحب للأسف على السلط الدستورية ومن بينها الحكومة والمجلس التأسيسي وبدوره كان النظام السابق قد عمل على إلغاء مسألة الرقابة العامة على المصاريف (حصول الوزراء والمسؤولين على رخصة سابقة من المراقب العام للمصاريف) في الدواوين وفي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزارتي الدفاع والداخلية. وبالتالي فالمراقبة والمطالبة بالوثائق الخاصة بنفقات هذه الهياكل غير متاح للمواطن. خلافا للدول المتقدمة التي تكفل للمواطن حق مطالبة المسؤولين بالوثائق بما في ذلك وثائق النفقات وذلك في مختلف الهياكل العمومية. ويبين الأستاذ رضا جنيح أن الأمر يصل في دول أوربا الغربية حد مطالبة الوزير أو المسؤول الذي سافر للمشاركة في مؤتمر بوثائق توضح أين وكيف أنفق منحة المهمة التي تحصل عليها.وقد يؤدى الكشف عن تجاوزات في التصرف في المال العام إلى حد لجوء الوزير أو المسؤول إلى الإستقالة. نفقات المجلس التأسيسي من جهة أخرى وفيما يتعلق بالمجلس التأسيسي نستطيع القول بأن ما دار من جدل بشأن الزيادة في رواتب النواب مرده طبيعة هذا الإجراء الذي لا يراعى الظروف الحالية للبلاد هذا إلى جانب توخي منطق السرية في تداول هذه المسألة مما فتح الباب للتأويلات. والتبريرات المقدمة من النواب حول الزيادة في الأجور لم تكن موضوعية لا سيما وأن الحديث عن السعي للضغط عن مصاريف الإقامة في النزل عبر إقرار منحة بقيمة 900 د لم يقدم بقية التفاصيل التي تفيد بأن صرف المنحة سينسحب على الجميع(217 نائب) حتى النواب غير المقيمين في النزل كما أن مبلغ المنحة المعلن هو المبلغ الصافي لكن قيمة المنحة خام تناهز 1400 د. كما أن راتب النائب الذي يفوق 5500 د وإذا ما تم احتساب مبالغ المساهمة في أنظمة التقاعد وفي الكنام وفي صندوق تحسين المسكن وبقية الأداءات فعمليا يجب إضافة 25 بالمائة على قيمة الراتب لإحتساب التكلفة الحقيقية لرواتب النواب في المجلس التأسيسي. ويشير بهذا الصدد الدكتور سامي الرمادي رئيس الجمعية التونسية للشفافية المالية أن المصلحة العامة آخر اهتمامات الحكومة والمجلس التأسيسي على حد السواء. ويستعرض محدثنا نفقات التصرف في المجلس التأسيسي التي مرت من حوالي 11مليار السنة الماضية إلى ما يناهز 22مليار خلال السنة الجارية.وتبلغ قيمة منح أعضاء المجلس 13 مليار في حين خصصت لأجور الموظفين أكثر من 6 مليارات وتبلغ مصاريف السفر 100 ألف د ومصاريف الاستقبال 100 ألف د ومصاريف الإقامة في النزل 200 ألف د ومصارف الوقود 150 ألف د ومصاريف الاتصالات 120 ألف د ومصاريف صيانة المجلس 360 ألف د...الخ واتهم رئيس الجمعية التونسية للشفافية المالية الحكومة والمجلس التأسيسي بعدم التجاوب مع طلبات المجتمع المدني في إرساء صيغة جديدة للتعامل تكفل حق المساءلة والوصول للمعلومةوإذا كان هذا الأمر غير صحيح لماذا تناقش ميزانية الشعب في جلسة علنية في حين تناقش امتيازات ورواتب النواب في جلسة سرية" ويضيف محدّثنا أيضا "لماذا كان يُلام على بن علي أنّه ينفق و يقدّم الإمتيازات من المال العام و يسمّى بمراسيم لا تنشر للعموم ويتواصل اليوم بعد الثورة التكتم على هذه المراسيم والامتيازات" و نحن نتساءل بدورنا متى سنصل لجعل الحكومة و المجلس التأسيسي و المؤسّسات السياديّة تعمل في بيت من زجاج..؟؟؟