هل أن مبادرة الباجي قائد السبسي هي مبادرة «دستورية» أم «تجمعية» والفرق واضح جدا بين الأمرين؟ أم أنها تندرج في إطار أوسع رغم الاستشهادات المتواصلة ب«البورقيبية»؟ وهل أن الباجي هو حقا في حاجة الى التجمعيين، بينما يبدو واضحا جليا أن التجمعيين هم في حاجة ماسة الى قايد السبسي، في محاولة لاسترجاع المصداقية التي فقدوها ولاكتساب عذرية جديدة. إن «استعراض القوة» الذي مثلته تظاهرة يوم السبت الماضي بقصر المعارض بالعاصمة يطرح مثل هذه التساؤلات بقوة. ففي قاعة غصت بمن فيها، أعادت «دخلة» الباجي قايد السبسي الى «الحلبة» ذكريات قديمة جديدة للاستعراضات التجمعية، وما بالعهد من قدم. إلا أن الجديد هو أن من اعتلى المنصة يوم السبت وخطب في الحشود الغفيرة، لا بد من الاعتراف أنه شتان بينه وبين شبح الماضي البغيض. إن المقارنات فرضت يوم السبت الماضي نفسها فرضا بين «الزين بابا».. رجل الماضي ذلك الذي قذفته صدف التاريخ التي لا ترحم أحيانا الى الواجهة ذلك «الرجل دون ماض» سوى ماضي المخابرات البائسة و«دسائس المخادع» وقايد السبسي «رجل المستقبل»، هذا الذي يعيش في حلقة عمره التاسعة، أي «خارج الوقت الافتراضي» على حد تعبير رفيق عبد السلام، فالمفارقة في ذلك اليوم كانت صادمة جدا بين «الجو العام» لهذا الاستعراض الذي يذكّر بالمواعيد الانتخابية التجمعية القديمة، أي مفارقة بين رجع ماض بغيض وبين رجل يجسد «طموحا» و«مستقبلا» لتونس ما بعد الثورة رغم عمره المتقدم. بصمة واضحة إن بصمة «التجمع» في التظاهرة المذكورة كانت واضحة لا لبس فيها، من حيث التنظيم ومن حيث الوجوه الحاضرة، ومن حيث توقيت رفع الشعارات والتصفيق وشحذ الحماسة في الحضور، مما يشير الى أن الوجوه التجمعية وتحت غطاء «الدستورية» تحاول احتواء هذه المبادرة للانقضاض عليها وتوظيفها، وهو ما يجب أن يتفطن اليه «الرجال حول قايد السبسي» قبل فوات الأوان، حتى لا يتم اجهاضها باخراجها عن سياقها والابتعاد بها عن أهدافها. الخلط المقصود إنه يبدو شبه متأكد أن الرجل الوحيد في تونس القادر، اليوم على أن يساهم في تكريس نوع من التوازن في الساحة السياسية و«كسر» الهيمنة التي قد يفرضها حزب «النهضة» على المشهد السياسي لسنوات طويلة، هو الباجي قايد السبسي، ولذلك فقد أصبح يجمع حول شخصه آمالا لا محدودة من جهة وضغائن لا حد لها في الجهة المقابلة، فقد نجح خلال الأشهر المعدودة التي قضاها على رأس الوزارة الاولى اثر الثورة، بفضل «حضوره الركحي» و«موهبته الخطابية» أكثر من أي شيء آخر في الدخول الى قلوب شريحة لا يستهان بها من التونسيين يمكن لها أن تمثل في يوم ما وزنا انتخابيا كبيرا، ولكن هذه الموهبة وهذا الحضور، بالاضافة الى ماضي الرجل لن تكون كافية لوحدها في تجسيد الآمال المعلقة به وبمبادرته التي تمخضت عن حزب «نداء تونس»، إذ لا بد أن تجسم قطعا مع ماض قريب بغيض بكل دلالاته ومضامينه ورموزه. فهناك خلط مقصود في الفترة الأخيرة بين لفظتي «الدستوريين» و«التجمعيين»، رغم الفارق الكبير بين معاني ودلالات كل منهما. أكذوبة نسبة النمو فلئن كان «الدستوريون» هم حجر بناء الدولة التونسية الوطنية الحديثة، دولة التعليم العام والصحة للجميع المجانيين، دولة مجلة الأحوال الشخصية والتحديث والتنوير، مع فاصل العهد الأخير من عهد بورقيبة الذي لا بد من الاعتراف بأنه لم يكن مضيئا، فإن التجمعيين، وخصوصا من بقوا مع بن علي الى آخر لحظة، قد كانوا حجر بناء دولة النهب والفساد، دولة وضعت مصالح عائلتين «مافيوزيتين» (بكل ما لكلمة «مافيا» من دلالات ومعان اجرامية) فوق مصالح البلاد وشعبها، ولا فائدة من «التكرار والاجترار» بإعادة استعراض الأمثلة على ذلك (قضية «عصابة الكسكسي» التي تورط فيها المنصف بن علي، وقضية اليختين التي تورط فيها عماد وحسام بن علي وغيرهما من الأمثلة التي لا تحصى ولا تعد)، فهناك إجماع على أن جريمة كبرى قد ارتكبت خلال العهد «البنعلي»، من نتائجها ما نشاهده حاليا من فقر وتهميش وبطالة تمس حوالي نصف الجمهورية التونسية، أما أكذوبة نسبة النمو المتواصلة طوال هذا العهد، وهي كذلك أي أكذوبة لأن النسبة اقتصرت أولا على نصف بلاد أي الساحلية فقط، ولأنها ثانيا وقفت وراءها المؤسسات العالمية الكبرى، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي المتحكمة الحقيقية في دواليب الاقتصاد الوطني طوال عهد «الزين بابا»، والتي كانت تفرض مراقبة صارمة على طريقة صرف القروض والمساعدات المالية، وتحتفظ بحق النظر في «الموازنات المالية»، وهذا أمر معروف وإن أغلب إن لم تكن كل ما سمي ب«اصلاحات» اقتصادية وهيكلية خلال عقدي بن علي، كانت تقف وراءه وتتابعه هاتان المؤسستان الماليتان وغيرهما من مؤسسات القرض والدعم، كالبنك الأوروبي وغيره. استبلاه وتزييف إن «التجمع» البنعلي الطرابلسي، ما كان إلا فاصلا يريد البعض القفز عليه، بل محوه اليوم، وكأننا قفزنا من العهد البورقيبي الى فترة ما بعد الثورة مباشرة، وهو ما يمثل استبلاها للشعب وتزييفا للتاريخ، وعلى مبادرة قايد السبسي أن تستبطن هذا الأمر إذا أريد لها النجاح، وأن تمثل في يوم ما «خيارا» ذا مصداقية يمكن أن يحقق توازنا للمشهد السياسي في بلادنا ويضمن تداولا سلميا سلسا على السلطة، و«جوابا» معتدلا في وجه كل قوى الجذب الى الوراء.