تنشر «الصباح» مع أول يوم من شهر الصيام المبارك فصول كتاب «النّظر الدقيق في سيرة الرّسول محمّد- صلّى الله عليه وسلّم من القرآن الكريم» الصّادر عن شركة المنى للنّشر لمؤلّفه الدكتور محسن عبد الناظر. والدكتور محسن عبد الناظر أستاذ متميز بجامعة الزيتونة وعضو المجلس الاسلامي الأعلى له عديد المؤلفات في السيرة والهدي النبوي. "الصّباح" تشكر الدكتور محسن عبد الناظر باتاحته هذه الفرصة لقرائها لكي يطلعوا على قيمة أحدث مؤلفاته... الحلقة الأولى الباب الأول: العهد المكّي الفصل الأول: حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي عليه مرحلة الطفولة لم يشر القرآن الكريم الى بيئة محمد (ص) الجغرافية والاجتماعية ولم يذكر أخبار تعرّف بأبيه وأمّه وأجمل في ثلاث آيات خصائص ثلاث مراحل من حياته فقال: "ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى.ووجدك عائلا فأغنى" (والضحى 6-7-8) اشتهر عند علماء السيرة أنّه صلّى الله عليه وسلّم ولد سنة 571 م بمكة وهي أكبر مدن بلاد العرب وأشهرها وتقع في منتصف الطريق تقريبا بين جنوب شبه الجزيرة وشمالها وكانت في الأول مكانا لاستراحة القوافل ثم أصبحت مدينة تجارية واشتهرت بوجود الكعبة فيها وهي التي رفع قواعدها ابراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام كما جاء في قوله تعالى "واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربّنا تقبّل منّا انّك أنت السّميع العليم" (البقرة 127) هذا بالنسبة الى مكان ولادته صلّى الله عليه وسلّم وتاريخها، أمّا اسمه فمتّفق عليه عند المتقدمين، ولكن بعض المعاصرين افترضوا فروضا واثاروا شبهات. إسم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بعد تتبّع الأخبار الصحيحة التي اتفقت على ان اسم الرسول (ص) الذي عرف به منذ ولادته هو "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم من قبيلة قريش، أورد المبحث أقوال الذين أنكروا أن يكون الرسول (ص) من بني هاشم وافتراضات الذين ذهبوا الى أن أباه مجهول وأن أمّه سمّته باسم لم يعرف وللوقوف على دقة هذه الأقوال عرضت على الآيات والأحاديث التي ذكرت اسم الرسول (ص) وعلى ما اتفقت عليه العقول والأعراف الانسانية فتوصل المبحث الى النتائج الآتية: 1- أنّ اسناد اسم للرّسول (ص) عند ولادته أو بعدها بوقت قصير يناسب السّنن الكونية وتفرضه معطيات منها: أنّ الرسول (ص) ولد في بيئة مدنية يرتبط أفرادها بعلاقات تحتّم عليهم معرفة أنسابهم وحمايتها وذلك يستوجب العناية بأسماء الأشخاص والجماعات. 2- أنّ الرسول سمّاه جدّه "عبد المطلب" محمّدا منذ كان رضيعا، وأنّ البعض من بني هاشم ناقشه في وجه هذه التسمية وهذا يدعو الى اشتهار الاسم وصاحبه. 3- انّ نزول الآيات التي أوردت اسم الرسول "محمّدا" بالمدينة دليل على أنّه كان معروفا به ومنتشرا قبل ذلك. 4- أنّ الأحاديث والأخبار تثبت أن الرّافضين نبوّة محمّد يقرّون اسمه ويطلقونه عليه. 5- أنّ ما صدر عن بعضهم من قول بأنّه كان مجهول الأهل،ومن افتراض بأن الاسم الذي سمّته به أمّه ظلّ مجهولا، لايدعّمه لا العقل ولا النقل كما لايدعّمان ماقيل من أنّه وجد لقيطا بالصحراء فقد تواتر أنّه ولد بمكّة بعد أن توفّي أبوه بعدّة أشهر. يُتم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أكد القرآن يتم الرسول (ص) ولم يذكر بدايته وجاء في الأخبار أنّه ولد يتيما فقد روى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أنّ حليمة ابنة الحارث قالت وهي تروي قصّة قبولها ارضاع الرّسول (ص):"والله اني أكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقنّ الى ذلك اليتيم فلآخذنّه". ومع تأكيد القرآن يتم الرّسول (ص) بيّن أنّ الله آواه فهيّأ له أسباب الحماية من آثار اليتم السلبية، فكفله جدّه عبد المطلب، وقضى طفولته الأولى خارج مكة، كما هو الشأن بالنسبة لأبناء قريش ثم وجد في بيت عمه ابي طالب خير راع وموجه لمّا فقد جدّه وهو في الثامنة من عمره وفقد قبل ذلك بسنتين أمّه فالرّعاية التي وجدها من أمّه وجدّه وعمّه حمت الرسول من الآثار السلبية لليتم وهيّأته لمرحلة الشباب تحفّه العناية الإلهيّة. أحداث الشباب رجّح كثير من المفسّرين أن قوله تعالى: «ووجدك ضالاّ فهدى» يبيّن حيرة الرسول (ص) من حال الشرك الذي كان عليه قومه يناسب هذا التفسير ما اتفق عليه العلماء من أنّ الانبياء معصومون من الضلال العقدي قبل النبوّة ولكنّه يقصي أن يكون الضلال دالا على حيرة معرفية وشكّ بنّاء، مماثلين لما اعترى ابراهيم ويعقوب عليهما السلام ووقع الرسول (ص) مثله وهو في مرحلة الشباب فانتابته حيرة جعلته يتأمل في ملكوت الله وفي ما عليه أهله من عبادة للأصنام ومن علاقات فيها من الظلم الشيء الكثير ومن مخالفة لما يحكم به العقل والوجدان والذوق السليم المقدار العظيم فوجد نفسه في ضلال تزيده قوى الشباب عمقا، وتجعله أكثر الحاحا فقوله تعالى (ووجدك ضالاّ) يشير الى الحيرة التي لاتكون في الطفولة وانما تصاحب الشباب الذي بلغه محمّد (ص) فاشتغل عقله ووجدانه بقضايا لاتغيب عن متأمل ومتفاعل مع ما يحيط به وتولّدت عن ذلك أسئلة تعدّدت طرق حلّها والاجابة عنها وبذلك نشأ الضّلال. الذي ذكرته الآية وبيّنت أن الخروج منه كان بالهدي الالهي فقوله تعالى "فهدى" يفهم منه أن الله تعالى يسّر للرّسول الوسائل البشرية لاختيار الطريق الصحيح والمنهج المستقيم "وألقى في نفسه طلب الوصول الى الحل ليتهيأ بذلك لقبول الرسالة عن الله تعالى" وكرّه اليه مجالس اللهو وحال بينه وبينها لما هم بالمشاركة فيها وحبب اليه العمل فمارسه وهو في اواخر الطفولة وأول الشباب فقد كان في حاجة الى الكسب للمشاركة بما هو قادر عليه في الانفاق على نفسه فهو يعلم أن العائلة التي تكفلت به لم تكن ذات مال وفير وأنّ العناية الالهية أهلته منذ طفولته وبداية شبابه ليدرك أن العمل يقي الانسان من الخصاصة والقلق والمعرّة ولذلك طلب من عمه أن يصاحبه في تجارته فقد أخرج الترمذي حديثا طويلا جاء فيه: "خرج أبو طالب الى الشام وخرج معه الذّبي في أشياخ من قريش" وجاءت روايات لهذا الحديث عند أصحاب السّير مبيّنة أن الرسول كان في الثانية عشرة من عمره وأن عمّه صحبه نزولا عند رغبته كما نقلوا ما كان فيها من أحداث يقف منها البحث موقفا فيه حذر علمي فقد كانت مصدرا للشبهات ولم يشر اليها القرآن فالأنسب التأكيد على أن أبا طالب كان يعد ابن أخيه للحياة العملية فصحبه في رحلته ليدرّبه على التجارة وعلى التعرف على البلدان والأمم حتى تتسع دائرة معارفه. يتّضح ممّا تقدّم أن قوله تعالى: "ووجدك ضالا فهدى" قد حقّق لمحمّد (ص) القوى البشريّة المحمية بالعناية الالهية، والتي اكتسب بفضلها ما أبعده عن الشرك وعن العبث وعن الفراغ وماسمح له بالتغلب على ما سيعترضه من مصاعب في عهد الكهولة.