تنشر «الصباح» طوال شهر الصيام المبارك فصول كتاب «النّظر الدقيق في سيرة الرّسول محمّد- صلّى الله عليه وسلّم من القرآن الكريم» الصّادر عن شركة المنى للنّشر لمؤلّفه الدكتور محسن عبد الناظر. و الدكتور محسن عبد الناظر أستاذ متميز بجامعة الزيتونة وعضو المجلس الاسلامي الأعلى له عديد المؤلفات في السيرة والهدي النبوي. «الصّباح» تشكر الدكتور محسن عبد الناظر باتاحته هذه الفرصة لقرائها لكي يطلعوا على قيمة أحدث مؤلفاته... الحلقة الثالثة و العشرون التّعامل مع المواقف العدوانيّة: الغزوات والسّرايا ليس من أهداف المبحث سرد اخبار غزوات الرسول (صلى الله عليه وسلم) والسرايا التي وجهها سردا تاريخيا، فقد أنجز ذلك كثير من اصحاب السير قديما وحديثا، فحصروا عددها، وبينوا اسبابها ونتائجها، ووصفوا ما دار اثناءها، وذكروا اسماء من شارك فيها، ومن قتل او اسر، وغير ذلك من الاخبار، لا يكرر المبحث ما تناقله المتقدمون والمحدثون الا اذا كان ضروريا للمسائل التي سيركز عليها، وهي: أ تعريف الغزوات الغزوة ويقال ايضا المغزى، وهما من غزا، يغزو، غزوا، ومغزى، واصل الغزو: القصد، ومغزى الكلام: مقصده، والمراد بالمغازي عند المحدثين والاخباريين» ما وقع من قصد النبي (صلى الله عليه وسلم) الكفار بنفسه او بجيش من قبله، وقصدهم أعم من ان يكون الى بلادهم، او الى الاماكن التي حلوا بها «لا يميز تعريف ابن حجر هذا بين خروج للمعتدين بمقاتلين يقودهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بنفسه، واخر يكون تحت امرة صحابي، ولا يشير الى ان للقتال ضوابط واهداف. عرف بعض المعاصرين الغزوات او المغازي بقوله: «سميت الدراسات الاولى لحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) باسم «المغازي»وتعني لغويا: غزوات الرسول (ص) وحروبه، ولكنها تناولت في الحقيقة فترة الرسالة باكملها، وقام بها بعض ابناء الصحابة البارزين» فهذا التعريف يعطي لفظ «المغازي» معنى اصطلاحيا لا يتقيد بالاصل اللغوي، فيجعلها مرادفة لسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولعل صاحبه استمده من مضمون الدراسات الاولى لسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن العنوان الذي اختاره مؤلفوها، فعروة ابن الزبير (94 ه/712 م) الذي كان محدثا، ألف كتابا بعنوان «المغازي» وصلتنا مقتطفات منه تناولت جوانب مختلفة من حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كبدء الوحي، وبعض الشؤون الخاصة بالرسول (صلى الله عليه وسلم) واخبار موجزة عن بعض الغزوات، فعروة بين الزبير لم يتقيد عنوانه بمعنى اصطلاحي للمغازي، فضوابط المصطلحات لم تنشأ بعد. واذا كان تعريف ابن حجر في حاجة الى اكمال، ولم يتقيد التعريف الثاني بضوابط المصطلحات، فان البحث يعرف غزوات الرسول (صلى الله عليه وسلم) او مغازيه بانها: وقائع قاد فيها جمعا من الصحابة قاصدا اعداء للاسلام لتحقيق اهداف مشروعة مع التقيد باحكام تخص القتال. واذا كلف صلى الله عليه وسلم غيره بقيادة المسلمين في الواقعة، فيطلق عليها مصطلح «سرية». ب حكم القتال و شروطه بعد البعثة باكثر من عشر سنوات، نزل قوله الله تعالى (اذن للذين يقاتلون انهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير) (الحج/ 39) في الاية اعلام للمؤمنين الذين تحملوا اذى قريش قبل الهجرة بانهم ظلموا، وهذا الاخبار كناية عن الاذن بالدفاع، ويفيد ايضا ان قسوة قريش، وامعانها في أذى الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين، كانت سببا في الاذن بالقتال، روي عن ابن عباس انه قال: لما اخرج النبي من مكة، قال أبو بكر: اخرجوا نبيهم ليهلكن، فأنزل الله (اذن للذين يقاتلون..) (الاية) فهذا الحديث يفيد ان المسلمين لم يقاتلوا المشركين الا بعد الهجرة، ودلت الاخبار على انهم فعلوا ذلك بعدها بسبعة اشهر، لما ارسل صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلا على رأسهم عمه حمزة ابن عبد المطلب لاعتراض عير لقريش، في شهر رمضان من السنة الاولى للهجرة، وتعرف بسرية سيف البحر. اما الرسول (صلى الله عليه وسلم) فلم يخرج للغزو الا بعد قرابة الاحد عشر شهرا من قدومه الى المدينة، قال ابن عبد البر: «واقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) داعيا بالمدينة الى الله ومعلما مما علمه الله باقي شهر ربيع الاول وباقي العام كله الى صفر من سنة اثنتين من الهجرة، ثم خرج غازيا في صفر. «الا يدل هذا التريث على ان المسلمين لم يكونوا دعاة حرب، ولم يكونوا متعطشين الى سفك الدماء، فهم يقدمون الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة على الحرب والقتال، وهم يحرصون بالدرجة الاولى على حفظ السلام ونشر العلم، ويستعينون على المعتدين بالصبر الذي اوصاهم به ربهم، ومارسوه لما تحملوا بطش قريش وأذاها. لقد اذن لهم ربهم في القتال، وهذا الاذن لا يفيد الوجوب، بل يترك القرار الاخير للرسول (صلى الله عليه وسلم) وللمؤمنين الذين ادركوا ان للقتال شروطا اجملها قوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين) (البقرة/190) فالقتال المأمور به في الاية، مقيد بثلاثة شروط: الاول ان يكون في سبيل الله أي للتعريف بالدين الذي ارتضاه لعباده والدعوة اليه. والثاني ان يكون «لدفع هجوم العدو» او للتوقي من كيد المستعدين له، والداعين اليه، والحاثين غيرهم على تحقيقه لرد المسلمين عن دينهم، وسلبهم ممتلكاتهم، واخراجهم من بلادهم ويتمثل الشرط الثالث في الالتزام بضوابط تحمي المقاتل المسلم من ان يتحول الى ظالم، فقد بينت الاحاديث ان الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان ينهى عن قتل النساء، والولدان في المعارك، ويحذر من قتال من لم يقاتل المسلمين، ومن اتيان ما نهى الله عنه، كالقتال في الاشهر الحرم، وقتال الذين وادعوا المسلمين وعاقدوهم. بين المبحث ان المقاتل في الاسلام مطالب بالحذر من الغرور، وباعداد العدة للقتال والثبات فيه، وبان لا يكره غيره على الايمان. التحذير من الغرور هو ضابط اساسي وعام، اكده القرآن بالنسبة للمقاتلين في ايات منها قوله تعالى (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ان الله سميع عليم) (الانفال /17) بين المفسرون ان الاية تتصل بامرين حدثا يوم بدر: اولهما وحي الله الى الملائكة بضرب اعناق المشركين وقطع أيديهم، فخاطبت الاية المسلمين الذين قاتلوا يوم بدر، واعلمتهم ان فضل الله كان عليهم عظيما، فقتل المشركين يومها لم يكن على ايديهم، فالله هو الذي قتلهم والرمي، هو رمي الحصباء في وجوه المشركين يوم بدر، وقصته مشهورة فالمقاتلون شاهدوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوم بدر يرمي المشركين بالحصباء وسمعوه يقول: شاهت الوجوه وادركوا ان ما ترتب على ذلك الرمي فيه اعجاز، فقد روي انه لم يبق مشرك يومها الا اصابه شيء من الحصا في عينه، فشغل بعينه فانهزموا. يرجح قوله تعالى (ولقد نصركم الله ببدر وانتم اذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون. اذ تقول للمؤمنين الن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة الاف من الملائكة منزلين) (ال عمران / 123 124) هذا التفسير، ويضيف اليه ان ما وقع يوم بدر له خصوصياته التي لا تتكرر، فالمسلمون اجبروا على الدخول في معركة كانت موازين القوى فيها لصالح خصم متجبر اذاقهم الوان العذاب، ويريد ان يمحقهم، ويقضي، الى الابد، على الدين الذي اعتنقوه ادرك الرسول (صلى الله عليه وسلم) ان قوة المسلمين المادية والعددية ضعيفة جدا بالنسبة لما كان عليه المشركون يوم بدر، وان انكسارهم يؤدي الى سيطرة الشرك على العالم، فتوجه الى الله متضرعا مناديا: اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها وفخرها، تحادك، وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني فاستجاب له ربه وذكره والمسلمين بان النصر من عند الله (ان ينصركم الله فلا غالب لكم) فهو نصر يقوي ايمانهم بان الله تعالى قادر على ان يجعل لهم من ضعفهم قوة، وان يؤيدهم بالاف من الملائكة ينزلون الى موقع القتال ينصرونهم، ويقاتلون الى جانبهم، ولا يخشون احدا. وهو نصر يفرض عليهم ان يتجنبوا الغرور الذي كثيرا ما يتملك بعض المقاتلين، فيولد في شعورهم وباطنهم قسوة وتكبرا، واشار القران الى مثل هذا السلوك في قوله تعالى (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين اذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين) (التوبة /25) سمت هذه الاية غزوة حنين، وسمت اية سورة عمران المتقدمة غزوة بدر، وهما الغزوتان اللتان صرح القرآن باسمهما الى جانب غزوة الاحزاب التي تسمت بها سورة من سوره، أفلا يحق لمن يتدبر القرآن ان يستخرج من الايتين خلقا اسلاميا يدعو المقاتلين الى الحذر من الغرور الحربي الذي لا تخفى اثاره السيئة على الافراد والجماعات، والذي غذته في القديم الملاحم الشعرية، ووجد تربة صالحة في المجتمع الاسلامي هيأتها له بعض الفرق العقدية، وفسحت له المجال في العصر الحاضر بعض الوسائل كالسينما والتلفاز وغيرهما من وسائل الاتصال المتطورة، يحذر الاسلام من الغرور عامة، ويضاعف تحذيره منه في ساحات القتال لانه كثيرا ما يدفع بعض القادة الى اشهار الحرب على غيرهم قبل استنفاد وسائل الصلح والوفاق. وهو سلوك لا يرضاه الاسلام وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يحذر منه، ومن كل سلوك يفقد المقاتلين جانب الرحمة التي فطر الله الناس عليها، ولكن الشياطين اجتالت بعضهم، فنزعتها من قلوبهم ووجدانهم، وزينت لهم التفنن في اختراع اوجه متعددة للاعتداء على غيرهم وخاصة في ساحة القتال، فأوجب الاسلام اتقاء ما يحول المقاتل المسلم الى متلذذ بتعذيب الاخر او التمثيل به. كما اوجب عليه الاعداد لتحقيق النصر.