بقلم: عبد الجليل دمّق رئيس تحرير سابق - في العام 1988، وما زلتُ وقتها رئيسا للتحرير في الصباح- دعاني الأستاذ عبد الرحيم الزواري، (فرّج الله كربه) وكان في بداية تسلمه مسؤوليته في "التجمع" وذلك لحديث ودّي، ففوجئت به يسألني عن"دار الصباح"، كيف تعيش، كيف تتصرف. وطبعا هو كان يعرف أن "الصباح" هي الجريدة الأكثر رواجا في البلاد بينما أمامه الآن ملف الإعلام الحزبي ولا سيما جريدة العمل- وضرورة توزيعها، وهو يتوجّس من هذا الملف بالذات. أجبته بأنه إن كان يستفسرني عن التصرف المالي فإني سأخيب ظنه لأنني غير ملمّ بتفاصيل هذا الموضوع إطلاقا، وأضفت له قائلا: أما إن كنت تسألني عن الجانب الأهم بالنسبة لنا كأسرة صحفية وهو الجانب السياسي، فأقول لك فورا: إن "الصباح" مؤسسة وطنية، وأنت تعرف جيدا أن الفكر السياسي التونسي قد مرّ منها وترك بصماته فيها، فمن ذا الذي لم يكتب في "الصباح" من بين النخبة السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، من؟ كلهم من أهل الفكر وأهل السياسة والعلم والتربية والنقابة، كلهم من مختلف المشارب ومختلف الأعمار ومختلف الاختصاصات كتبوا فيها، من الرئيس بورقيبة نفسه، وحتى ممن كان يسميهم "الغرانطة" أي بقايا أنصار الثعالبي، كتبوا فيها وعبروا عن رأيهم بكامل الحرية، محمود المسعدي كتب افتتاحية العدد الأول من الصباح في 1 فيفري 1952. فرحات حشاد، وصالح بن يوسف، وأحمد بن صالح، والشاذلي القليبي، والحبيب الشطي الذي كان أول رئيس تحرير لها، ومحمد المصمودي، وحسين التريكي، ومحمد مزالي، ومصطفى الفيلالي، والرشيد إدريس، والبشير بن سلامة، والحبيب بولعراس، والهادي البكوش، وفرج الشاذلي، وعبد العزيز عشيش، وزهير الشلي، وعالم الاجتماع المرحوم د. الطاهر الخميري، وغيرهم كثير من أهل الفكر والسياسة والكفاءة في الحزب الحر الدستوري التونسي، وفي الاتحاد العام التونسي للشغل، وفي اتحاد الفلاحين وأذكر منه بالخصوص المرحوم إبراهيم عبدِ الله، وفي اتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الطلبة، والكشافة التونسية وأذكر بالخصوص القائد محمد التريكي، ونُخب من الفقهاء، ومن المربين الأجلاء والأطباء والمحامين الذين أتذكر من بينهم الأساتذة محمد بللونة والشابي وشقرون والهيلة، والقائمة تطول وتطول، كلهم شكلوا الفكر السياسي تركوا في الصباح- بصماتهم. وتواصل الحديث مع الأستاذ عبد الرحيم الزواري الذي لم يخف عني رغبته في أن أقدّم له أفكارا من خلال تجربتي الصحفية تساعده في مواجهة تطوير الإعلام الحزبي. تذكرت هذا اللقاء معه وأنا أفاجأ هذه الأيام بمستشار يصرح علانية على هامش قضية "دار الصباح" متسائلا: من تكون دار الصباح؟ سؤال غريب جدا إن لم أقل إنه سؤال خبيث. مهما كان الأمر ها أنا أجيبك يا سيدي: إن "الصباح" مؤسسة وطنية وإنها الآن مرجع موثّق للفكر السياسي التونسي، بإمكانك أن تعود إليه طلبا لمزيد من الثقافة السياسية من فكر تونسي كان أهله وصحفيوه يفهمون رهانات العصر، وأنه علينا الآن جميعا ونحن نحتضن رهانات ثورتنا أن نفهم، كما فهم الذين من قبلنا، بل أن نقر أن ساعة زماننا الآن متخلفة جدا عن ساعة الزمان الحاضر بعدة قرون، وأيضا عن رهانات ثورتنا، وأن علينا أن نتدارك أمرنا بسرعة وبالعلم والعمل وليس بالقول ولا بالشعارات ولا بالتمني ولا بالتنكّر. وبالمناسبة لا يفوتني وأنا أثير ذكريات عزيزة عليّ في "دار الصباح" التي انخرطت في أسرتها منذ العام 1954 ولم أغادرها إلا في العام 1988 لأسباب ليس هذا مقام شرحها، لا يفوتني إذن أن أحيّي زملائي الشبان وبحرارة المؤمنين بهذا الصرح الذي شُيّد لأن يكون حرا، ولأن يظل لتاريخ الفكر السياسي مرجعا واضحا وصادقا، أحييهم نساءً ورجالا، محررين وتقنيين وإداريين وعمالا.. أحييهم وإني أرى فيهم القوة والجرأة للتشبث بمبادئ الحرية رغم كل التحديات التي تعيشها دارهم كحال أجهزة أخرى في بلادنا، إنهم يشعرونني إنني ما زلت أحمل قلما وأعبّر عمليا عن فكر، وكلاهما، القلم والفكر وأيضا الجرأة، يجابه التحديات ويرفعها في النهاية. وقد مررنا بهذه التجربة وهي مرة وحلوة. إن زملائي المناضلين الآن على جبهة حرية الصحافة لهم في"دار الصباح" تراث واضح لطريقة العمل في نفس الدار، فمدير الجريدة مؤسسها الأستاذ الحبيب شيخ روحه، رحمه الله، لم يكن يتدخل في التحرير، لم يكن يحضر حتى اجتماع مجلس التحرير إلا لماما. كانت تسعة أعشار نشاطه منصبّة في مسائل الإدارة والتمويل بمساعدة المدير المالي والإداري الأستاذ الصادق الزواوي أطال الله عمره. أما التحرير فنحن كوادر التحرير برئاسة المرحوم الأستاذ الهادي العبيدي كنا مسؤولين عنه وكنا نسيّره، وكان المدير المؤسس قد أطلق لنا هذه المسؤولية الكبيرة نتصرف فيها، وكنا نجتمع به ونستشيره، ونستعين به سواء للبذل المالي الذي تستوجبه مسيرة التطوير، أو عند عظائم الأمور، وحتى أمام القضاء كنا نحن المسؤولين، وكنا نحن الذين نُستجوب. زملائي من الجيل الجديد في الدار الذين يطالبون اليوم بحقهم في تسيير التحرير إنما يطالبون في نفس الوقت بالإبقاء على تقاليد كانت قائمة في"دار الصباح" منذ أن تأسست، فقسم التحرير كان دائما مسؤولا عن نفسه سواء في الموقف أو في التعيين أو في التسيير، كانت الإدارة في هذا المضمار تستشار ولا تتدخل. ولهذا الاعتبار واحتراما لهذا التراث، فإن كوادر التحرير اليوم في "دار الصباح" هم بدون أدنى ريب أحق بالتصرف من الإداريين كلما تعلق الأمر بالتحرير وبالتعيين. أنا مثلا لم يعينّي الأستاذ الحبيب شيخ روحه رئيسا للتحرير في العام 1975 وإنما عينتني "اللجنة المتناصفة" في الدار والتي كانت هي المكلفة بالتصنيف وليس مدير الجريدة، وكان تعييني ذاك باقتراح من رئيس التحرير الأول الأستاذ الهادي العبيدي، لقد عينتني اللجنة في اجتماعها يومها "رئيس تحرير مساعد" فتتدخل الأستاذ العبيدي وكان معنا عضوا في اللجنة، وقال: أقترح أن يكون عبد الجليل "رئيس تحرير". قيل له أنت رئيس التحرير، فأجاب مصرّا: ولكني أريده معي في منصب "رئيس تحرير"، فاستجابت اللجنة. وأذكر أنه كان معنا في اللجنة من كوادر التحرير الزميل عبد اللطيف الفراتي والزميل حسن حمادة أطال الله عمرهما. ويمكنكم أن تراجعوا كراس محاضر جلسات اللجنة لتتأكدوا أن التحرير هو الذي كان يسيّر التعيينات. أما في الموقف السياسي فللتحرير كانت الكلمة الفصل. وعلى سبيل المثال أذكر أنه طُلِب منا في العهدين البورقيبي والتجمعي أن نتصدى لمنصور معلى في موقفين له لم يرضيا القيادة السياسية، فلم نستجب أبدا رغم الإلحاح، وكان هذا موقف التحرير، كذلك حصل معنا في مواقف أخرى تتعلق باليوسفيين وبحركة الديموقراطيين الاشتراكيين بقيادة أحمد المستيري، وكان أن رفض التحرير الاستجابة. وكنا في جميع الحالات متضامنين تحريرا وإدارة. وهكذا كان موقفنا في الخصومات الكبرى مع زعماء أو أشباه زعامات حتى إنهم كادوا لنا وأرادوا بنا شرا. ولكننا قررنا وكتبنا وتصرّفنا بحرية وانتصرنا. ونقول لزملائنا المناضلين اليوم في" دار الصباح" وفي نقابة الصحفيين وحيثما كان النضال في نطاق حرية الصحافة وأهلها إنهم منتصرون ما داموا مثابرين، وأن الرهان ولا شك صعب للغاية، لأن الحقيقة المرعبة يمكن تلخيصها في أن الدكتاتورية وكل ما هو مرتبط بها من ممارسات التعسف والعنف والقمع والإقدام على مصادرة الحريات، ومظاهر غياب القيم وقلة الكفاءة إنما هو نتاج سيء لمن يجعلون مصلحة الوطن خارج حساباتهم !! وهذا النتاج مفزع ومؤلم. ليس في صدورنا غيض ولا في قلوبنا حسرة، لأننا مؤمنون أن القلم لا يُهزم، وحتى إذا اضطررتم يا إخواننا للتخفيف عن أنفسكم، اسألوا أساتذة التاريخ: هل ينهزم القلم أمام السلاح وكم مرة حدث ذلك؟ سيجيبونكم: أبدا ولا مرة. ذلك لأن السلاح الأقوى والأشد قدرة على الدوام هو قوة الكلمة وليست كلمة القوة. ضحكت وأنا أقرأ في إحدى مطالعاتي أن عبد الرحمان الكواكبي شرح في كتابه "طبائع الاستبداد.." أن المستبد في حاجة -فقط- الى عيون في كل ميدان من ميادين الحياة الاجتماعية يتجسسون ويتلصصون على الرعية بما أن الهدف الأسمى له هو إدامة حكمه وتأبيده، أما مصالح الأمة والوطن فهي تحتل مرتبة ثانوية جدا بل هي أحيانا خارج حساباته. وساق الكواكبي مثالا لذلك وهو أننا إذا رأينا في شارع مجموعة من رافعي القمامة يؤدّون عملهم تحت أنظار «كبران» يقف مكتوف الأيدي ويراقبهم، فلْنتأكد أن هذا «العرف» أي المسؤول عنهم هو أرذلهم وأحطهم معدنا وأن «القوادة» هي التي مكّنته من موقع المسؤولية. وقس على ذلك في كافة المجالات".