وضع سياسي غامض ووضع اقتصادي خطير ووضع اجتماعي يكتنفه الشك والخوف.. هذا هو واقع البلاد اليوم. الوضع السياسي وتشكيل الحكومة واغتيال الشهيد شكري بلعيد ألهانا تقريبا عن واقع البلاد وعن تأخر الاندفاعة الاقتصادية التي نتطلع إليها جميعا منذ مدة دون أن تأتي في ظل الضبابية التي تسود السياسة الاقتصادية والغموض الذي يرافق تصريف أهم الملفات السياسية والاقتصادية. لقد انتظر الجميع انجاح الانتقال الديمقراطي وتحسيس الرأي العام أن امكانية تجاوز الوضع الاقتصادي والاجتماعي أمر حتمي.. لكن طال الامر وتعاقبت الحكومات وظل الملف في الادراج يسحب أحيانا لمجرد الابتزاز السياسي والضغط على هذا الطرف أو ذاك. واذا كان المناخ السياسي اليوم في حالة انتظار وترقب لما يمكن ان تسفر عنه مشاورات رئيس الحكومة حمادي الجبالي حول تشكيل حكومة جديدة أو "منقحّة"، فان المرحلة كذلك تفترض تجاوز حالة التردد في التعاطي مع بعض الملفات واساسا ملف العدالة الانتقالية. فالأيام أثبتت أن أكبر شلل أصاب الوضع الاقتصادي وأدخل الشك في القضاء هو ملف رجال الاعمال الذين وجدوا أنفسهم فجأة مطلوبين أمام القضاء دون احالتهم عليه بالنسبة للأغلبية ودون البت في ملفاتهم بالنسبة للبعض وهذا نتيجة بساطة بعض الملفات التي تخفي رغبات تشف شخصية أكثر مما تنطلق من رغبة حقيقية في الكشف عن الفساد والمفسدين ومحاسبتهم في اطار خدمة المصلحة العامة. والابقاء على الملفات في الرفوف دون الاسراع في البت فيها، أبقى كذلك على عدد كبير من رجال الاعمال في حالة منع من السفر مما عمّق حالة الانكماش التي اصابت عالم الاعمال بعد الثورة وادخل الشك في العدالة الانتقالية وحتى في منظومة القضاء ككل. فالقضاء الذي لا نشك لحظة في نزاهته وحياده دخله الشك وباتت قراراته واجراءاته متذبذبة باعتبار ان بعضها بات مصبوغا بالسياسة وبتحركات عناصر خارجية منحت لنفسها الحق في أن تعوض رجال الامن ورجال القضاء وخاصة من اطلقوا على أنفسهم تسمية "لجان حماية الثورة".. ولا أدل على ذلك من قضية رجل الاعمال كمال اللطيف الذي منحت لجان حماية الثورة نفسها الحق في محاصرة منزله ومحاولة القبض عليه.. قبل ان يتدخل الامن ثم تتم احالته في ملف وصف ب"الخطير" يتعلق ب"التآمر على أمن الدولة" ليبقى الملف الفاقد لكل المؤيدات معلقا وكأن شيئا لم يكن ويقتصر الاجراء على حرمان اللطيف من السفر.. وكأن الغاية من كل ذلك هو هذا الاجراء. وضع رجال الاعمال وحرمانهم من السفر زاد في ريبة وشك المستثمرين الاجانب باعتبار أن من بين ابسط شروط جذب الاستثمار الاجنبي تحفيز الاستثمار الداخلي لأن راس المال الاجنبي لا يتشجع ولا يتقدم للاستثمار الا اذا رأى اندفاعا من رجال الاعمال التونسيين وهذا ما لم يحصل حيث لم نشاهد بعد الثورة اي مشروع استثماري يبنى سوى ما قام به رجل الاعمال محمد الفريخة بإنشاء شركة "سيفاكس ايرلاينز" للطيران. مشكل الانكماش الاقتصادي اليوم يجب أن يكون من بين اولويات الحكومة الجديدة وحلّه يكمن في انهاء الاجراءات التحفظية التي تم اتخاذها في شأن رجال الأعمال وحتى الذين ثبت أنهم لم يسيئوا لهذه البلاد بل فقط استفادوا من بعض الصفقات في اطار الاعمال فيمكن أن يعوّضوا للدولة ويسترجعوا حقوقهم في الاستثمار والسفر لإعادة الثقة لأعوان مؤسساتهم اولا وللمستثمرين الاجانب ثانيا. كما أن عددا كبيرا من رجال الأعمال الممنوعين من السفر لا تتعلق بهم تهم الفساد بصفة مباشرة بل وقع الاستماع لأقوالهم في بعض القضايا بصفتهم شهودا أو حول بعض الصفقات في مجال عملهم وتم اتخاذ القرار في شأنهم بالمنع من السفر ليبقى هذا القرار معلقا دون تتبع ودون حسم في الملفات. ويبقى القضاء اليوم واكثر من اي وقت مضى مطالبا بالبت في هذه القضايا نهائيا وفي أقرب الآجال حتى يتمكن كل من لم تثبت إدانته من استرجاع حقوقه في السفر والاستثمار والمشاركة في الصفقات العمومية وعادة نشاطه ومعاملاته مع الحرفاء. فاغلب رجال الاعمال الممنوعين من السفر لا يرون مانعا في أن يقوم القضاء بدوره ولا مانعا في التحقيق والبحث في ما وقع من فساد اداري ومالي وحتى اقتصادي في السنوات الماضية باعتبار أن هذا مطلب شعبي ولكن المطلوب من القضاء أن يسرّع الاجراءات حتى تثبت ادانة من انغمس في الفساد وبراءة من لم يرتكب جرما لتعود عجلة الاقتصاد الى دورانها العادي بعيدا عن الحسابات السياسية وحتى الابتزاز المالي والسياسي للبعض ولنوفر سبل أكثر للاستثمار والتنمية في الجهات الداخلية لإنقاذ الاقتصاد من الوضعية التي آل اليها ولتوفير مواطن شغل جديدة تساعد على التنمية الاجتماعية في ظل وضع معيشي صعب.