بقلم: الأستاذ محمد الحبيب الأسود انتهى الجزء الثاني من هذا المقال بهذه الفقرة " ظهرت حركة دينيّة وسياسيّة مناهضة للعباسيّين، ومؤيّدة لمذهب الإمام أحمد بن حنبل، الذي لتمسّكه برأيه في قدم القرآن سُجن وضرب في بلاط المعتصم ثمانية وثلاثين سوطا، وقد استنكرالعامّة على العباسيّين سياستهم هذه وتحاملهم على أهل الحديث بالقسوة والشدّة، وهاج الناس وماجوا، فاجتمع نفرمن الفقهاء وفكروا في الخروج على الخليفة، واقترحوا ذلك على الإمام أحمد بن حنبل وهوفي سجنه، فعارضهم ونصحهم «ألا يخلعوا يدًا من طاعة، وألاّ يحرّضوا على سفك دمائهم وسفك دماء المسلمين»... وفي ما يلي الجزء الثالث. هكذا كانت مواقف علماء أهل السنّة عموما متقاربة، فهم لا يحبّذون إراقة الدماء وإرهاب الناس والخروج المسلح على الحاكم رغم مخالفته للشرع ورغم ما يقترفه من مظاهرالظلم والاستبداد، ولا يستثنون في ذلك معارضة الحكام ومراجعتهم بالطرق العلمية والسلمية من غير اللجوء إلى الاقتتال، وكلّ أولئك العلماء كانوا على درجة من التقوى وغزارة العلم ما جعل فقههم وعلومهم إلى يوم الناس هذا مراجع للبحث والتحقيق والاستنباط في القوانين المدنيّة وفي علوم الشريعة وأصول الدّين، وعلى درجة من التقدّميّة والثوريّة ما جعلهم يتبوّؤون منازل الأئمّة الهداة بما قدّموه من تضحيّات وما سجّلوه من بطولات، مع حرصهم في الآن نفسه على سلامة المجتمع من الفتن والحروب الأهليّة، كما كانوا معتدلين ينبذون الغلوّ في الدّين ويعتقدون في التعدّد والحريّة في الإسلام، ولم يكن واحد منهم من حاشية السلطان أومن جلساء البلاط، بل لقد عانى جميعهم من تسلط الطواغيت واستبدادهم، فهذا الإمام مالك يُضْرب بالسّوط حتّى تخلع كتفه لقوله بعدم طلاق المكره (لأنّ الخلفاء العباسيّين دأبوا على أخذ البيعة من الناس بالقسم بالطلاق في حال نقضها)، وهذا الإمام أبوحنيفة يموت في سجنه لمّا رفض ولاية القضاء... وهذا سعيد بن جبير يُؤتى به إلى الحجّاج ليقطع رأسه... وهذا مُحمّد بن إدريس الشافعي يُغلل في الأصفاد ويُقدّم إلى الجلاد... وهذا أحمد بن حنبل يُسجن لاختلاف رأيه مع رأي المعتزلة في قضيّة خلق القرآن... وغيرهم كثير. فخير الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر، ولهذا يتفق أهل السنة وعلماؤها على أنّ الأمربالمعروف والنّهي عن المنكر، وقيام العلماء بواجب النصح والإرشاد، مع إنشاء مؤسّسات قانونيّة وهيآت سياسيّة ووطنيّة ومجالس شوريّة نيابيّة تقيّد الحاكم وتراقبه، وتقوم بواجب المعارضة لانحرافاته، وتحدّ من تجاوزاته، كل ذلك كفيل بإصلاح الحاكم وتغييرما به من فساد أو خلعه، كما جاء في وصيّة الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان لأبي يوسف القاضي حين قال له «... وانصحه في الدّين وناظره إن كان مبتدعا، وان كان سلطانا فاذكر له ما يحضرك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن قبل ذلك منك وإلا فاسأل الله أن يحفظك منه» ولا يقولون بإرهاب الحاكم والعنف وحمل السلاح، لما في ذلك من فساد للعمران واستبدال الأمن بالخوف... ومن أهل السنّة الذين عاشوا بداية حركة النهضة الفكرية في البلاد الإسلاميّة منذ القرن التاسع عشر، والذين تناولوا بالدّرس المسائل السياسية وحللوا أنماط الحكم، نجد ابن أبي الضياف في كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبارملوك تونس وعهد الأمان" لا يقول بمشروعيّة الخروج المسلح على حاكم المسلمين الجائر، بل الخروج على الحاكم العادل «لأنّ في منازعته استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء والفساد في الأرض، وذلك أعظم من الصبرعلى جورالجائر» رغم استحسانه لنمط الحكم الجمهوري، وثنائه على النظام النيابيّ، ودعوته إلى انتخاب مجلس شورى يضمن حقوق العامّة في معارضة ومحاسبة الحاكم ووزرائه ويحميهم من جورالسلطة واستبدادها... هذا شيء من تراثنا الفقهي السياسي فيما يخصّ الخروج على الحاكم المسلم الجائر، وعلى اختلاف مدارسه ومذاهبه الدينيّة، لا نجد فيه رأيا صريحا أو إجماعا واضحا على إباحة الإرهاب والعنف والقتل بين المسلمين، مهما كانت المبرّرات والدوافع... أن تلاقي ربّك مظلوما، وقد عارضت الظالم بالقلب واللسان والنصح وقول كلمة الحقّ عند السلطان الجائر، خيرمن أن تلاقيه ظالما أو قاتلا لنفس بشريّة نطق صاحبها بالشهادة ولومرّة واحدة في حياته، فلست تدري يومئذ أكنت على حقّ أم على باطل، والخطأ في المسالمة خير من الخطإ في المقاتلة، فحتّى المرتدّون عن الإسلام الذين كانوا في ذلك العهد يشكلون خطرا على المسلمين بمَا كان يعنيه الارتداد من إعلان حرب وتحالف مع الأعداء، اختلف الصّحابة رضوان الله عليهم في قتالهم، وهم يمثلون السلطة الشرعيّة، فكان أبو بكرالصدّيق رضي الله عنه يرى وجوب محاربتهم حتى يعودوا إلى ما كانوا عليه، وتتخلص الأمّة من الأخطاروالفتنة والتفرّق في الدّين، بينما عارضه عمر الفاروق رضي الله عنه ورفض سفك الدماء، وفي هذا الاختلاف رحمة، بما توفرفيه من اجتهاد وتوسعة في الفهم... والشّيعة أنفسهم الذين اشتهروا في التاريخ بالثورات والخروج المسلح على الحكام، وتفرّقوا في ذلك شيعا وفرقا وطوائف من أجل إعادة الاعتبارلآل البيت، نّ فقهاءهم وعلماءهم وأئمة مذاهبهم الأول، كالإمام جعفربن محمد الباقرالمعروف بالصادق لصدقه وفضله، لا يقرّون القتل بين المسلمين، وكان هذا الإمام الجليل يقول: «إيّاكم والخصومة في الدّين، فإنّها تشغل القلب وتورث النفاق» وكانوا يرفضون التبرّؤ من الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى لا يكون ذلك سببا لتناحر المسلمين، ودعامة مذهبيّة دينية لسب الصحابة والسّلف الصالح، كما كان زيد بن علي يجوّز رئاسة المفضّل مع وجود الأفضل إذا اختار المسلمون ذلك، حفاظا على وحدة الأمّة وسلامة المجتمع من الفتنة... إنّ ما نراه وما نسمع عنه في بلاد الله من عنف وحجز وتقتيل للأبرياء وإرهاب للآمنين وسفك للدماء، يعتمده غلاة متطرفون كوسيلة للضغط على حكوماتهم، وأداة لإكراه الناس على مذهب واحد وفهم واحد للإسلام، لا أصل له في شرع الله، وإنّ عملا كهذا شذوذ وفساد في الأرض، لا تقرّه سماحة الإسلام الذي لا تزدهر به الحياة ولا ينتفع به الناس إلا في رحاب مجتمع مدني تتعدّد فيه الأفهام والآراء والأحزاب وتختلف فيه المذاهب، ولا تحكم صراعاته إلا البرامج السياسية، ولا يفوزبالحكم فيه إلا الأصلح والأفضل الذي تقبله الجماهيروتزكيه لولاية أمرها... إنّهم بشذوذ فهمهم للدّين وبممارستهم هذه الفظيعة، أعطوا صورة مشوّهة عن الإسلام والمسلمين، وصار الدّين عند البعض وسيلة رعب وإرهاب بعد أن كان دعوة أمن وسلام، وتخلفا وظلاميّة بعد أن كان نورا وعلما، وإكراها وتعذيبا بعد أن كان سماحة ولينا، وتباغضا وتناحرا بعد أن كان ألفة ورحمة، وتفرّق وتمزّق بعد أن كان وحدة وقوّة، وغلوا وتطرفا بعد أن كان وسطا واعتدالا... إنّ زينة التدّين في الإسلام عدم الغلو في الدّين، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلّم «إن هذا الدّين متين فأوغلوا فيه برفق، نّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» وقال أيضا «إيّاكم والغلو في الدّين فإنه أهلك من كان قبلكم» وزينة العمل في الإسلام التعاون على البرّ والتقوى (وتعاونوا على البرّ والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتّقوا الله، إنّ اللهَ شديدُ العقاب) (المائدة:3)، وخيرالمشيئة أن تضعها وفق مشيئة الله ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعا، أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين (يونس:99)