السنة التقريرية: يقصد منها سكوت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن إنكار فعل فعله أحد الصّحابة، فقد اتّفق العلماء على أنّ هذا السّكوت يدلّ على إباحة ذلك الفعل لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يقرّ على فعل منكر في الدين قالوا: إنّ التّقرير إذا اقترن بالاستبشار وإظهار الفرح بالفعل الذي رآه كان ذلك أدلّ على الإباحة. وأحيانا يكون مع التّقرير توجيه وإرشاد لِحَلٍّ أفضل ممّا فعله الصّحابي فتكون الإباحة مشروطة "وقد يوجد التّقرير، ويظهر الاستبشار، ولكن يختلف العلماء في مثار التّقرير ومنشإ الاستبشار، أهو مشروعية الفعل على الإباحة، أم شيء آخر وراء المشروعية وأنّ المشروعية لم تكن ذات دخل في التّقرير والاستبشار فلا يدلّ على الإباحة" "ومثال ذلك اختلاف الفقهاء في اعتبار "القيافة" دليلا على ثبوت النّسب. فذهب إليه مالك والشّافعية، وخالفهم في ذلك الحنفية "والقيافة" مصدر قاف قيافة، والقائف هو الذي يَتَتَبَّع الآثار ويعرفها، ويعرف أصحابها ويعرف شَبَهَ الرّجلِ بأبيه وأخيه." فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل عليّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تَرَيْ إلى مجزز المدجلي، نَظَرَ آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: هذه الأقدام بعضها من بعض.'' (وكان كفّار قريش يقدحون في نسب أسامة بن زيد لأنّه كان شديد السّواد، وكان زيد أبيض شديد البياض) ''فقد أقرّ الرّسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة المدلجى على القيافة واستبشر بمقالته، وهذا يدلّ على إباحة الفعل، وتمسّك بهذا مالك والشّافعي واعتبر القيافة دليلا في ثبوت النّسب ولكن الحنفية قالوا إنّ سكوت النّبيّ على فعل مجزز المدجلي وعدم الإنكار عليه، ليس تقريرا لفعله لأنّ نسب أسامة كان معلوما من قبل، وإنّه لِزَيْدٍ، واستبشاره صلى الله عليه وسلم كان لإلزام الكفّار الطّاعنين في نسب أسامة فقط. ومن أمثلته كذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم من حديث عمرو بن العاص صلى الله عليه وسلم، قال: "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السّلاسل (موضع في مشارف الشّام) فأشفقت إن اغتسلتُ أن أهلك، فتيمّمت ثمّ صليّت بأصحابي الصّبح، فذكروا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو صليّت بأصحابك وأنت جُنُبٌ؟ 'فأخبرته بالذي:" وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" (النساء، الآية 29)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا'' ولقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة اجتهادا للصّحابة ولم يقرّهم على فعلهم ووجّههم لما هو أفضل. ومن أمثلته ما أخرجه أبو داود والدارقطني من حديث جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منّا حجَرٌ في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون رخصة لي في التّيمّم ؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلمّا قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخْبِرَ بذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: "قتلتموه قاتلكم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنّما شفاء العيّ سؤال، إنّما كان يكفيه أن يتيمّم، ويعصر أو يُعَصِّبَ. (شَكٌّ من راوي الحديث) على جرحه خرقة، ثمّ يمسح عليها ويغسل سائر جسده..."، فالرّسول صلى الله عليه وسلم لم يعذر هنا المفتين من أصحابه، بل عنّفهم وعاب عليهم أنّهم أفتوا بغير علم، واعتبرهم بمثل القتلة لأخيهم. ولا يعقل أن يجهل فقيه مجتهد بهذا الأصل التّشريعي، أو يتجاهله كالذي نسمعه من بعض من ينسبون أنفسهم إلى طبقة المفكّرين المجدّدين الذين لا يعترفون بتشريع إلاّ ما نصّ عليه القرآن صراحة، وأمّا السنّة فلا يُقِرّون بمشروعيتها ويطعنون في صحة ما يُنْسَبُ للرسول صلى الله عليه وسلم من سُنَنٍ بدعوى تأخّر تدوينها، وبدعوى كثرة ما داخلها من أحاديث موضوعة ومكذوبة. وما أظنّ أنّ الفقهاء المجتهدين لا يعرفون الموضوع من الحديث والمكذوب، وأنّهم لا يستطيعون التّمييز بين الصحيح الذي يعتمد في الاستنباط أو القياس وبين ما لا يُعْتَمَدُ، وأُنَزِهُهُمْ عن هذا الجهل شبهة المخالفين في أن السنة مصدر من مصادر التشريع : كتب الشّيخ محمود شلتوت في كتابه الإسلام عقيدة وشريعة فصلا في هذا الموضوع فذكر: "ويهمّنا هنا أن نعلم أنّ جماعة من الباحثين أبَوْا أن يتّخذوا هذه الأحاديث المروية مصدرا من مصادر التّشريع، رأوا أنّ القرآن بدلالاته المختلفة، وإشاراته المتعدّدة، وما تناقله المسلمون بالعمل، كفيل ببيان أحكام الله، وأنّ ما جاء من هذه الأحاديث لم يكن صادرًا عن الرّسول باعتباره إمامًا للمسلمين، يقدّر مصلحتهم التي تحدّدها الظروف وتمليها الأحوال، وليست من قبيل التّشريع العام الملزم في جميع الأزمنة والحوادث والأشخاص ويستدلّون على هذا بمثل قوله تعالى: "اليَومَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ "(1)، وقوله تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ..."(2)، وقوله عزّ وجلّ: "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ......"(3)، وقوله سبحانه: "إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلتِي هِيَ أَقْوَمُ..."(4)، وغير ذلك مما يدلّ دلالة واضحة على أنّ القرآن فيه كفاية المسلمين في دينهم وتشريعهم، ويرون أنّ البيان الذي كُلِّفَ بِهِ الرسول ما هو إلاّ التّطبيق العملي لما فهمه من القرآن، وهو "السّنّة" بالمعنى المعروف أوّلا ويستدلّون أيضا بأنّ الأحاديث لو كانت تشريعا عاما كالكتاب لأمر الرّسول بتدوينها وحفظها، كما فعل ذلك في القرآن، وليس من المعقول أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم مصدرا لإيجاب أو تحريم يتعلق بِأُمَّةٍ خالدة. ثم لا يأمر وهو الرّسول المكلّف بالبلاغ والبيان - بتدوين ما به البلاغ والبيان، حفظا له من الضّياع والاختلاف ومع هذا فقد وجدت أحاديث تمنع من تدوين الحديث، ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''لا تكتبوا عنّي، ومن كتب غير القرآن فَلْيَمْحُهُ، وحَدِّثُوا عنّى ولا حرج، ومن كذب عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مقعده من النّار" ومنها ما جاء في البخاري عن ابن عباس أنّه قال: لما اشتدّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ قال: "ايتوني بكتاب أكتُبْ لكم كتابا لن تَضِلُّوا بعده" قال عمر: إنّ النّبيّ غَلَبَهُ الوَجَعُ وعندنا كتابُ الله حَسْبُنَا قالوا: ولقد رأينا الخلاف يشتدّ بين المحدّثين بعضهم مع بعض، والفقهاء بعضهم مع بعض، وهؤلاء مع هؤلاء، في تصحيح الحديث أو رفضه، والتّعويل عليه في الدّلالة أو عدم التّعويل، وذلك ممّا يشهد بأنّ الحديث لو كان أصلا في التّشريع والتّحليل والتّحريم، لما تُرِكَ بدون تحديد وضبط، حتى تثور حوله هذه الخلافات الشّديدة ولقد كان من أثر هذا أن رفض جماعة من العلماء كثيرا من الأحاديث المروية، لاعتبارات فقهية لم يعتمدوا فيها على غير الرأي العقلي البَحْتِ.(5) وبهذا ونحوه استدلّت هذه الطائفة، وأسقطت الأحاديث المروية من أصول التّشريع، ورأت أنّ كل ما ورد منها قولا، أو فعلا، أو تقريرا، ممّا لم يتواتر عمليا، فسَبِيلُهُ إن صحّت روايتُه وثَبَتَ اتّصالُهُ - الاجتهادُ الذي يتغيّر تبعا للمصلحة، وليس من التّبليغ الدّائم والتّشريع العام، كما أنّه ليس من الهوى الذي نفاه الله عنه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى"(6)، على أنّ القوم ما كانوا يرمونه بالهوى لا فيما كان ينطق به قرآنا ووحيا من عند الله. "ولا في ما يعظ به، أو يرشد إليه دينا ودنيا" ومن المؤمنين طائفة أخرى يُسَمُّونَ أنفسهم بالقرآنيين لا يرون أنّ السّنّة مصدر للتّشريع بدعوى أنّه قد دُسَّ فيها الكثير من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إنّ إِمَامَنَا هو القرآن، نُحِلُّ حلاله ونحرّم حرامه. ويقفون عند هذا الحدّ. وينتقدون الفقهاء وعملهم بِحِدَّةٍ ويرفضون اجتهادهم وأقوالهم، ويرون في أنفسهم أكثر وعيا وفهما للإسلام وشرع الله تعالى الردّ على شُبَهِ هؤلاء: ولكنّ المحقّقين من العلماء قد أثبتوا بالسنّة قولا وعملا كثيرا من الأحكام التّشريعية الدّائمة، كما اعتمدوا عليها في بيان القرآن بتخصيص عامّه، وتقييد مُطْلَقِهِ، وبيان مُجْمِلِه، وغير ذلك، معتمدين في هذا على القرآن نفسه، إذ يقول الله تعالى:"... وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...'' (الحشر الآية 7) ويقول عزّ وجلّ: " أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ'' (النساء الآية 59)، ويقول سبحانه: "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ..." (النساء الآية 80)، ويقول تعالى: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا'' (النساء الآية 65)، ويقول عزّ وجلّ: "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" (النساء الآية 59) وقد أقرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم معاذا على اعتبار السّنّة مصدرا من مصادر التّشريع حينما بعثه إلى اليمن، واستقرّ ذلك عند الأصحاب حتّى كتبها عمر صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري في عهده إليه بالقضاء، واعتبرها مصدرا تاليا للكتاب. .... (يتبع) 1 المائدة الآية 3 2 النحل الآية 89 3 الأنعام الآية 38 4 الإسراء الآية 9 5 راجع الجزء الثاني من كتاب أعلام الموقعين لابن قيم المتوفى سنة 751ه