وجوه اختلاف العلماء في اعتماد الحديث: 1) لقد اختلفوا من جهة الرّواية والنّقل: إنّ تفاوت علم المجتهدين بالحديث كان سببا في اختلاف أحكامهم ومَرَدُّ ذلك اختلافهم في جانب الوثوق بالرّواية. تناولوا الأسانيد بالنّقد والتّمحيص، إذ ليس كلّ الرّواة موفوري الثّقة عندهم، وليس كلّ الرّواة عندهم على درجة واحدة من الضّبط والحفظ، فقد يكون أحد الرّواة مجهول الحال أو معروف بسوء الحفظ والضّبط ممّا يدخل على روايته ريبة وشكّا. ورُبَّ حديث لا يرويه إلاّ واحد، ولا يعرفه غيره فتدخل روايته في دائرة الضُّعف ب) وأكثر ما اختلف فيه الفقهاء هو التّأويل وشرحهم لألفاظ الحديث من جانب فهم الظّاهر والمعنى المجازي. ج) واختلفوا كذلك من جانب العلم بالنّاسخ والمنسوخ منه والخاصّ والعام د) وهناك وجوه أخرى كثيرة متعدّدة الجوانب جمعها الشّيخ محمود شلتوت في هذه الفقرة: "والاختلاف الذي يخصّ السّنّة من جهة النّقل والرّواية يمكن إجماله فيما يأتي: أن يصل الحديث إلى أحد الأيمّة بينما لا يصل إلى الآخر عن طريق تقوم به الحجّة، أو يصل إليهما من طريق واحد ولكن يرى أحدهما أنّ في بعض رواته ضعفا لا يراه الآخر، أو يصل إليهما من طريق واحد متّفق على أوصاف رجاله، غير أنّ أحدهما يشترط في العمل بمثله شروطا لا يشترطها الآخر، كعرضه على كتاب الله، أو فقه المحدّث، أو اشتهار الحديث فيما تعمّ به البلوى، أو الاتّصال وعدم الإرسال، وغير ذلك "وقد نشأ عن هذه الجهة اختلاف واسع النطاق بين أيمّة الحديث، وتبعه اختلاف الفقهاء في العمل بالأحاديث المروية وعدم العمل بها، ولعلّ ذلك أوسع أسباب الاختلاف بين الأيمّة في الأحكام التي للسنّة دخل فيها، إمّا على سبيل الاستقلال، أو على سبيل البيان للكتاب''.(1) 2) السّنّة العملية : لقد صدرت عن الرّسول صلى الله عليه وسلم أفعال كثيرة، كما صدرت أقوال كثيرة متنوّعة، منها ما كان تعبّديا، ومنها ما كان للقربى والزّلفى إلى الله تعالى، ومنها ما كان من قضائه بين النّاس، ومنها ما كان من اجتهاده، ومنها ما كان سياسةً ومنها ما كان من العادة. وقد قسّم الفقهاء في دراستهم لعمل الرّسول صلى الله عليه وسلم فعله إلى ثلاثة أقسام : أ- أفعال اتُّفِقَ على أنّها تشريعية ب- أفعال اتُّفِقَ على أنّها غير تشريعية ج- أفعال اشتَبه على الفقهاء أمرها فاختلفوا فيها أ) العمل الذي اتّفق على أنّه تشريعي في حقّ الأمّة هو الفعل الذي جاء بيانا لنصٍّ من الكتاب، من ذلك عمله في الصّلاة والحجّ والعمرة، وقد صرّح الرّسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحّت إليه نسبته: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي" وقال صلى الله عليه وسلم في الحجّ والعمرة: "خذوا عنّي مناسككم." فكانت صلاته بيانا لأمره تعالى: "وأقيموا الصلاة"؛ وكانت مناسكه التي فعلها وعلّمها لأصحابه وبيّنها لهم تبايانا لقوله تعالى: "وأتمّوا الحجّ والعمرة لله". "حكم هذا العمل حكم النّصّ الذي يُعتبر أصلا له، فإن كان الوجوب فالوجوب، أو النّدب فالنّدب، أو الإباحة فالإباحة" وذكر الشّيخ شلتوت: "هذا، وقد يقع الخلاف أيضا في أنّ الفعل الصادر منه بيان، أو ليس بيانا، فينشأ بذلك في الحكم الذي يدلّ عليه. هذا مثل مداومته صلى الله عليه وسلم على المضمضة والاستنشاق في الوضوء؛ فإنّ "المالكية" والحنفية كذلك قالوا بعدم وجوبها مع مواظبته عليها، بِنَاءً على أنّها ليست بيانا للوضوء الواجب. ورأى غيرهم وجوبها في الوضوء بناءً على أنّ مواظبته عليها كانت بيانا للوضوء ب) الفعل الذي اتّفق على أنّه غير تشريعي هو الفعل الذي ثبت أنّه من خواصّه صلى الله عليه وسلم، وذلك كوجوب صلاة الضّحى، والتّهجّد باللّيل، والتّزوّج بما فوق الأربع، أو بغير مهر. هذا القِسْمُ لا يدلّ الفعل فيه على مشاركة الأمّة له ولكن قد يقع الخلاف بين العلماء في أنّ الفعل خاصّ به، أو عام يشمل أمّته، وذلك كالتّزوّج بلفظ الهبة، فقد أجازه الحنفية بدليل قوله تعالى: " وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ" (الأحزاب، الآية 50) بناءً على أنّ الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم أن تكون تشريعا عامّا، ولم يثبت لديهم خصوصية ذلك به صلى الله عليه وسلم ومنعه غيرهم بناء على انّه خاصّ به صلى الله عليه وسلم كما ترشد إليه الآية في قوله تعالى: "خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ". وعند الحنفية وجه هذا الخلوص إلى سقوط المهر، لا إلى الصّيغة" وينبغي على هذا أنّه يجوز لغيره من أمّته أن يعقد النّكاح بلفظ الهبة على مذهب الحنفية ولا يجوز ذلك على مذهب الشّافعية (وكذلك المالكية) مع اتّفاقهم جميعا على عدم سقوط المهر، وإن لم يَجْرِ له ذلك ذكرٌ في العقد ولا فيما بينهما ج) القسم الثّالث: قسم أفعال لم يثبت فيها شيء ممّا تقدّم، لا الخصوصية ولا البيان ولا معلومية الصّفة الشّرعية "هذا القسم اختلف العلماء في صفته بالنّسبة إلى الأمّة على أقوال: قيل يدلّ على الوجوب، وقيل يدلّ على النّدب، وقيل يدلّ على الإباحة، والمختار أنّه إن كان قُرْبَةً أي من جنس ما يُتَقَرَّبُ به إلى الله، ولم يواظب عليه دلّ على النّدب في حقّ الأمّة، وإن لم يكن من جنس القربات دلّ على الإباحة بالنّسبة لها، وإنّما كان هذا هو المختار، لأنّ المتيقّن منه صدور الفعل من الرّسول صلى الله عليه وسلم يُعْرَف منشأ اختلاف الأيمّة فيما ورد منها بالنسبة للأمّة"(2).... (يتبع) 1 الشيخ محمود شلتوت"الإسلام عقيدة وشريعة"