لم تمض أيام على لقاء باريس «الغامض» والذي جمع راشد الغنوشي والباجي قايد السبسي بطريقة لم تكن متوقعة وفاجأت الرأي العام الذي انشغل لأيام بفك طلاسم و «شيفرات» لقاء الشيخين في العاصمة الفرنسية، حتى شدّ الرجلان الرحال على التوالي الى العاصمة الجزائرية للقاء بوتفليقة فيما يشبه تكليفه بمهمة وساطة بين قطبي الأزمة السياسية في تونس.. الرئيس الجزائري الذي لم يعد بعد لمباشرة عمله بشكل رسمي منذ تعرّضه للوعكة الصحية الأخيرة وخضوعه لفترة نقاهة رأى فيه البعض الشخص المناسب لاذابة الجليد بين الشيخين تساعده في ذلك خبرته السياسية وحنكته . الأزمة تونسية.. والحلول خارجية ولكن اجتماع بوتفليقة بالغنوشي وبعد ذلك بقايد السبسي أحاطه التكتّم الشديد عن تفاصيله من مختلف الأطراف المجتمعة وأتت كل التصريحات في شكل ديبلوماسي مقتضب زاد في حيرة الشعب التونسي الذي لم يعد يفهم ما يحصل هذه الأيام في الكواليس السياسية ببلادنا.. لكن هل تتطلّب الأزمة الموجودة اليوم بالبلاد والتي لا ينكرها عاقل كل هذا الغموض وهذه المساعي الخارجية وهذه السفرات المكوكية لراشد الغنوشي وقايد السبسي؟ قطعا لا لأنه رغم تعنّت الأحزاب الحاكمة واستماتتها في التمسّك بصولجان السلطة ،وارتباك المعارضة وعنادها وافتقادها للخبرة السياسية الاّ أننا نعتقد أن الأمور لم تفلت من زمامها الى درجة تسمح للأجنبي أي كان بحشر أنفه في مشاكلنا وقضايانا الداخلية..بالاضافة الى أن هناك منظمات وطنية تقوم منذ أكثر من شهر بمساع حثيثة لحلحلة الأزمة وتقريب وجهات النظر ،ولكن اللقاءات التي تمت خارج تونس ولم تبح بعد بتفاصيلها وحيثياتها وكأنها ضرب لأدوار الوساطة التي تقوم بها هذه المنظمات . الجزائر ورغم ثقلها الاستراتيجي في المنطقة المغاربية ومصلحتها المباشرة في استقرار الأوضاع في تونس ودورها الذي لا ننكره منذ الثورة في مساعدتنا على تأمين الحدود المشتركة الاّ أن تدخّلها السافر في الأزمة السياسية التونسية وفي معركة تقليدية تحدث في كل الدول بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة يطرح أكثر من تساؤل حول الدور الحقيقي للجزائر في تونس..وكذلك حول السيادة الوطنية وحول قدرة الأحزاب التي أصبحت جميعها تثير ملل وسخط الشعب التونسي في ضمان هيبة الدولة واستقلال قرارها السياسي دوليا..فلا يعقل أن ينشر غسيل خصوماتنا السياسية على حبال دول أجنبية سواء كانت شقيقة أو صديقة أو جارة... إنهم في «بيتنا».. من جهة أخرى كان الحدث الأبرز خلال الأسبوع المنقضي هو ما كشفته هيئة الدفاع عن الشهيد محمّد البراهمي من أن وزارة الداخلية تلقت تحذيرا لم تعره اهتماما من احدى المخابرات الأجنبية حول نوايا اغتيال محمّد البراهمي قبل قتله بأيام..الوزارة ارتبكت ولم تقدّم في تقديرنا ردّا مقنعا ولكن الأدهى والأمّر والخطير أن الوزير لا يعلم شيئا عن هذه الوثيقة !!! هذا الاستهتار بالمعلومة الأمنية وخاصّة المعلومة الاستخباراتية والتي عادة ما تكون لها قيمة مضاعفة هو في حدّ ذاته جريمة في حق الدولة..ناهيك وأن هذه الوثيقة تكاد تثبت وبصفة قطعية حجم التواجد الاستخباراتي على أرضنا والذي فاق كل التصوّرات..فالمخابرات الأجنبية الكبرى منها خاصّة أصبحت لا تجد حرجا في التعبير عن نفسها على الميدان وأصبح العمل الاستخباراتي الأجنبي والذي يقع إحاطته في العادة بالكثير من السرية والصمت، يجاهر ويتباهى به حتى من طرف الأجهزة الرسمية في الدولة بدعوى التعاون المخابراتي.. الهشاشة الأمنية التي انزلقت إليها البلاد منذ الثورة ساعدت على نسج شبكة عنكبوتية للمخابرات الأجنبية عربية وغربية تعدّ وتحصي علينا أنفسنا دون تسجيل أي مبادرة حزبية أو سياسية للتنديد بهذا الاختراق المفضوح لأمننا القومي بل أن ما يشاع في هذا السياق من تعاملات مريبة لقوى سياسية مع أجهزة استخباراتية زاد في تعميق الأزمة ورفع درجة خطورته بجعل القرار السياسي يرتهن مباشرة لأجندة خارجية.. أمام ضعف واضح لجهاز الاستخبارات التونسي والذي مازال في طوره البدائي وهو ما جعلنا نعوّل على المعلومة الأجنبية لحل مشاكلنا الداخلية..وذاك شكل آخر من أشكال الانهيار المتواصل لمفهوم الدولة على بلاد الثورة.