لم يكن مهرجان توزر الدولي الاول للموسيقى الذي أقيم فيما بين 17 و20 أفريل الجاري تظاهرة ثقافية فحسب فقد كان يحمل عدة طموحات أعلن عنها المنظمون منذ البداية وتتمثل بالخصوص في تنمية السياحة بالمنطقة. فجهة توزر وإن كانت وكما سبق وذكرنا في الجزء الاول من المقال المخصص لهذه التظاهرة وجهة سياحية لا يستهان بها فإنها تطمح لان تتحول إلى قيمة مؤكدة في أجندة نوعية معينة من السياح تسعى مختلف الاسواق السياحية لاستقطابهم مثلها مثل العديد من القرى والمدن المعروفة في العالم كوجهة لهؤلاء السياح الذين من أبرز خصوصياتهم جعل إجازاتهم مناسبة للراحة وللاستفادة خاصة على المستوى الثقافي. يسعى المنظمون لجعل مهرجان توزر الدولي للموسيقى سببا في جلب السياح سنويا لهذه المنطقة تماما كما هو معتاد مع بعض المهرجانات الدولية الاخرى والاستعراضات المشهورة (الكرنافالات) في العالم. أهم ما يميز هذه التظاهرات الثقافية التي تستقطب السياح أنها تشرك السكان المحليين وتقوم بإزالة الحاجز بين السائح وسكان المنطقة، وبناء على ذلك استمد المدير الفني للمهرجان السيد آلان فيبار فكرة فتح المهرجان للعموم مجانا. وقد كان راضيا على ما يبدو عن الاقبال الجماهيري وهو ما أكده لنا عندما سألناه مع نهاية المهرجان عن مدى نجاحه فيما راهن عليه من إشراك جمهور مدينة توزر في هذه التظاهرة الدولية إذ أنه قال أن الاقبال المحلي على مختلف الفقرات فاق ما كان يتصوره. "ماماني كايتا" ثم "اسماعيل لو" ثم الهادي حبوبة في سهرة واحدة عدة عروض كانت فعلا بلا مقابل وشهدت عدة فقرات اقبال عدد كبير من سكان المدينة. وقد كان الحضور ملفتا للانتباه خلال سهرة السبت التي تواصلت إلى الساعات الاولى من صباح يوم الاحد. التأمت السهرة بفضاء يطلق عليه ساحة سميرة التي تقع بالقرب من نزل دار شريط الذي أقام به جزء من ضيوف المهرجان. الساحة كانت شاسعة والارضية من الرمل. كان يحيط بالركح سعف النخيل لكنه كان مجهزا بأحدث التقنيات مع شاشتين عملاقتين على يمين ويسار الركح لتمكين أكبر نسبة من الحضور من متابعة العرض. الجمهور كان في الموعد ليلتها. ولنعترف أن وراء ذلك الاقبال لم يكن اسماعيل لو رغم شهرته الواسعة ولا ماماني كايتا رغم جهودها الاستثنائية خلال العرض للتأثير على الجمهور. السبب يعود ببساطة إلى أن الجمهور جاء لاجل الهادي حبوبة الفنان الشعبي التونسي الذي كان مبرمجا لاخر السهرة. في الاثناء لم يكن للحضور بد من انتظار موعد حلول الهادي حبوبة على الركح وكان ذلك يمر عبر متابعة الفقرات التي سبقت عرضه. ولم يكن ذلك دون تململ وتعليقات نستمع إليها بين صفوف الحضور، إلا أن التململ لم يمنع الجمهور من التفاعل مع عرضي ماماني كايتا واسماعيل لو وكانت الفقرتان من بين أفضل ما في المهرجان من عروض موسيقية. ماماني كايتا فنانة تنحدر من دولة مالي. تربت على الفن التقليدي لبلادها قبل أن تنفتح على أشكال موسيقية مختلفة خاصة لما انتقلت إلى فرنسا. إنها فنانة وكما عهدناها من الفنانين الافارقة الذين يكون الفن ليس مجرد مهنة بل الهواء الذي يتنفسونه فنانة تغني وترقص وتبعث أجواء تلقائية خلال العرض وتخلق حالة من التواصل مع الجمهور حتى يصعب عليه صدها أو عدم التأقلم معها فإذا بالجمهور يقف كلما دعته لذلك ويصفق ويرقص وفق طلباتها. كان عرضها خليطا من الانغام الحالمة والايقاعات الرقيقة التي تبعث الانشراح في النفس، لكنها سرعان ما تغير في الاجواء مع الايقاعات الالكترونية المثيرة ثم تلك العودة إلى ألحان يتمايل معها الجمهور وخاصة مع موسيقى البلوز. ترافق هذه الفنانة فرقة محترفة مختلطة بين البيض والسود لذلك كان العرض متنوعا. وقد كشفت ماماني كايتا عن متعة خاصة وهي تقدم عرضها حتى أنها كانت تعطي الانطباع بأنها لا تنوي مغادرة الركح ومع كل أغنية جديدة تقترحها إلا ويبدو عليها أنها ازدادت رغبة في البقاء على الركح. الموعد الموالي كان مع نجم حقيقي اسماعيل لو الذي يعرفه الجمهور التونسي جيدا كان كعادته قد أعد كوكتالا متنوعا بين ما هي إيقاعات محلية جدا وبين ما هي موسيقات معروفة على غرار "السول ميوزيك" و"الارآن بي" (الريتم آند بلوز) مع مجموعة من الاغاني الملتزمة بقضايا الانسان خاصة الانسان الافريقي.. هذا الفنان العازف الذي يحمل في عروقه دما سينيغاليا - نيجيريا (النيجر) هو من بين هؤلاء الذين صنعوا اسما كبيرا بأوروبا وخاصة منذ صدور ألبومه الشهير "طاجابون". تتمثل نقطة قوة اسماعيل لو في اقتراحه لموسيقى متقنة لكنها تبدو خالية من كل تعقيد فتشعر معه أنك في رحلة أو في حالة هدهدة. كان العرض من طراز راق. الجمهور استمع إلى كلمات جميلة وإلى أنغام لطيفة رقيقة وكانت الدعوات إلى الرقص على أنغام الموسيقى تتم بشكل أنيق وكان هذا الفنان الحامل لالته الموسيقية لم ينفك ليدعو جمهوره لمشاركته متعة الموسيقى كامل العرض... عندما حل موعد الهادي حبوبة كانت الجماهير في أوج حالة الانتظار ومنذ أن أخذ العازفون المرافقون له مكانهم على الركح كانت الجماهير ترقص ثم عن أحوالهم لا تسل عندما هلٌ هذا النجم الشعبي الذي تم تقديمه على أنه ملك "البوب ميوزيك" التونسي. حالة انتشاء قصوى تستعصي أحيانا على الوصف. "دار أنطوان" وأجواء ألف ليلة وليلة. جزء من الجمهور الذي كان حاضرا خلال سهرة السبت الماراطونية أكمل السهرة في المدينة العتيقة بتوزر في منزل مشهور باسم صاحبه "دار أنطوان"، تحلق الجميع حول المسبح الخاص حيث كانت تنعكس الاضواء على صفحة مياه المسبح وبدأت نسائم الصبح الباردة تهب. في البرنامج كانت هناك الموسيقى من خلال فقرة من آداء الفنانة التونسية المقيمة بفرنسا ليلى بوحاجب التي كانت قد قدمت خلال الصائفة المنقضية عرضا لها بقصر العبدلية في إطار مهرجان قرطاج الدولي. ثم عرض إيقاعي هندي. المنزل الفخم الذي حافظ على الطراز المحلي في البناء والذي ذكرتنا السهرة به بالاجواء التي نقرأ عنها في كتاب ألف ليلة وليلة يعود لشخصية فرنسية طاب لها المقام بتوزر فاقتنت البيت وحولته إلى مكان مشهور حتى أنك عندما تعلن لسائق سيارة الاجرة عن وجهتك لا يتردد ولا يطلب تفاصيل أخرى عن المكان. كان لا بد من الاشارة إلى السهرة التي تم إحياؤها ليلة الجمعة في عمق الواحة بمدينة توزر. لقد أضيئت المساحة الشاسعة - حيث مكان الحفل - كلها بالشموع في أجواء رومانسية واضحة وانتصبت خيمة كبيرة فرشت بالزرابي والمفروشات التقليدية وتناثرت الوسائد ذات الطراز التقليدي والكراسي الجلدية. وأمام الجمهور الذي اتخذ موقعه بالخيمة كانت الموسيقى سيدة الموقف. صمم العرض السيد آلان فيبار المدير الفني الذي جرب فكرة المزج بين ثقافات متعددة في عرض واحد. فقدم بالخصوص ثلاثة عازفين على آلة الناي من مصر والهند وإيران. النتيجة كانت كالاتي: صمت مطبق حتى أنك تستمع إلى أي صوت مهما كان خافتا. الكل انساق مع تلك الاجواء الحالمة والانغام الحزينة النابعة من النايات الثلاثة وكأنها اجتمعت في آلة واحدة ثم كان الموعد مع انشاد في المقام الايراني تلته أغان هندية بإمضاء مجموعة من الموسيقيين من بينهم أطفال. من اللحظات القوية أيضا في هذا المهرجان عرض النساء "الطوارق" القادمات من مالي. وقد ظل الجمهور خاصة من ضيوف المهرجان من رجال الموسيقى والثقافة من تونس ومن الخارج ومن الاعلاميين لا يأتون على ذكر هذا العرض إلا ويؤكدون على انبهارهم وإعجابهم بتلك الموسيقى الاصيلة وذلك الاداء المتقن. كانت فقرات المهرجان متعددة ومتوزعة على عدة فضاءات وهو ما تسبب في تشتيت البرنامج وربما عدم تمتع هذا العرض أو ذلك بالمكانة التي يستحقها من الجمهور. النية واضحة وقد أكد عليها المنظمون وهي محاولة الاستجابة لكل الاذواق لكن هذا الهدف وإن كان مشروعا فإنه من الصعب جدا تحقيقه. مع التذكير أن الفنان منير الطرودي كان حاضرا أيضا في المهرجان وقد تمت برمجة العرض الخاص به ليلة الاحد أي الليلة الختامية لكن ما شاهدناه أن عددا من الحضور خاصة القادمين من العاصمة ومن فرنسا قد غادروا مدينة توزر مساء الاحد أي قبل حضور العرض. مهرجان توزر الدولي الاول للموسيقى انتظم تحت سامي اشراف رئيس الدولة وحظي بدعم عدة مؤسسات اقتصادية واعلامية ووزارة السياحة وغيرها إلى جانب بلدية توزر.