من السهل "اجترار" طرح ظاهرة لها وقع على السائد اليومي في عمل درامي والوقوع في فخ المألوف المبتذل.. لدرجة انك تستطيع تجاوز العمل ومتابعة فيلم وثائقي لتعم الفائدة..ولكن ان يتم تناول الموضوع من منطلقات مغايرة للمضامين المعهودة وأن تشد الجمهور في كل التفاصيل فذلك مكمن التميز عن بقية الأعمال.. ولا يمكن أن نتجاوز -في ذات السياق- مسلسل "حرقة" الذي نال إعجاب الجماهير وأثار حتى اهتمام الإعلام الاجنبي.. دون أن ننوه إلى أهمية طرح مسألة الهجرة غير النظامية والآليات التي اعتمدها المخرج لإيصال العديد من الرسائل الموجهة إلى الجهات المسؤولة.. وقد لفت المسرحي رياض حمدي وهو أحد أبطال المسلسل الانتباه بنوعية أدائه وبمقدرته على التأثير في المشاهد. التقيناه بالمناسبة للحديث عن مشاركته في هذا العمل الذي تبثه الوطنية الأولى منذ بداية رمضان. تطرقنا كذلك مع ضيفنا إلى مسائل تهم الدراما التونسية عامة، فكان الحوار التالي: حقق مسلسل "حرقة" نسب مشاهدة جيدة كما أثار تساؤلات متباينة، ما هي برأيك العناصر التي ساعدت على جعل العمل مثيرا للاهتمام؟ -من المؤكد أن هناك العديد من المعطيات التي ساهمت في نجاح "حرقة" اولها التناسق بين المجموعة les maîtres d'œuvre من مخرج وسينياريست وتقنيين..فضلا عن تناغم جل الممثلين الذين شاركوا في مسلسل "مايسترو" فيما بينهم مع عامل الالتزام بالطرح-وهو حسب رأيي السبب الرئيسي في نجاح اي عمل فني- اي الميل إلى التطرق إلى قضايا مصيرية مستلهمة من الواقع..إلى الاشتغال على المادة اليومية أو ما يسمى الميثولوجيا اليومية لتصبح الحبكة الدرامية بمثابة "التأريخ اليومي" وتحيين للآني.. كل هذه العناصر من شأنها أن تشد انتباه المتفرج وتدغدغ ما يخالجه من انفعالات إزاء مسائل مصيرية تهمه بالأساس.. فظاهرة "الحرقة" -وهي محور حديثنا- أصبحت الهاجس اليومي في البلاد، وهي ظاهرة تمس كل الفئات من بعيد او قريب..خاصة وأنها لم تعد حكرا على فئة مهمشة معينة.. أما الجانب المفصلي في كيفية تناول هذا الموضوع الهام والحساس هو أن المسألة يمكن أن تمثل معطى سلبيا كما المعطى الايجابي في اي عمل فني والفرق بينهما يبقى رهين المرجعيات الجمالية والآليات المعتمدة سواء كان ذلك على مستوى التصوير..لإيقاع..تركيبة الشخصيات (شخصيات مختلفة متفاوتة) إلى جانب الحرفية على مستوى اللعب إلى أن نصطدم بمرجعية الواقعية المتحولة.. هذا الى جانب اعتماد تقنية السيناريو المتوازي-وهو حسب رايي من بين عوامل التميز في "حرقة".. ذلك أن الزمن ثابت في حين أن الأماكن تتغير وتغيرها يجعل المتفرج يخرج من دائرة الرتابة ويمنح العمل أبعادا فنية أخرى متميزة خاصة وأن الشخصيات تصبح رموزا وكل شخصية تعكس فئة معينة لكنها ستلتقي في آخر المطاف رغم أنها تمثل خطوطا متوازية.. وهو ما يمثل عنصرا من عناصر التشويق في "حرقة"… *هل من مهام الفنان المثقف اليوم إيجاد الحلول لما يحوم حولنا من مظاهر التخلف والفساد؟ أم أنه يضطلع بمهام أخرى من خلال الاعمال الفنية والابداعية؟ -يجب على الفنان الملتزم أن يأخذ على عاتقه المسؤولية ويطرح الأشياء كما يجب أن تطرح ويوجه أصابع الاتهام إلى الجهات المسؤولة في ظل تخاذلها وفي ظل كل الإحباط الذي نعيش.. ليس بحثا عن حلول سحرية بقدر ماهي إثارة للتساؤلات لأن القاصي والداني يدرك جيدا أنه ثمة انسداد في الآفاق وأن السياسيين مهترئون همهم الوحيد استنزاف ثروات البلاد.. الفنانون المثقفون-بالمرجعية القرامشية- ملتصقون بواقعهم اليومي غالبا ما يطرحون تساؤلات تستدعي الانتباه.. وهو ما نرنو اليه دائما في أعمالنا بل ترجم في أكثر من مناسبة سواء كان ذلك في الاعمال المسرحية مع فاضل الجعايبي أو في بعض الأعمال السينمائية… *ألا ترى أن "حرقة" الذي أسال حبرا كثيرا وأثار اهتمام العديد من وسائل الإعلام الأجنبية يمكن أن يكون فيلما يتجاوز المحلية مثل "دشرة" لعبد الحميد بوشناق والمتوفر حاليا على منصة "نتفليكس"؟ -بالفعل وقع طرح فكرة الفيلم من طرف منظمة الهجرة الدولية وهناك الكثير من متتبعي "حرقة" في الخارج فضلا عن العديد من المقالات التي نشرها الإعلام الإيطالي منوها إلى أهمية العمل ومدى حرفيته خاصة وأن العمل يمثل الهجرة غير النظامية كظاهرة وليست كشأن محلي فحسب فالمسلسل تجاوز المحلية إلى ما هو عالمي ..وحتما- إذا تمت إعادة كتابة وتصوير ومونتاج المسلسل – من المنتظر أن تكثف أهم الأحداث وان تصل مدة العرض إلى ساعتين على أقصى تقدير.. كما يعتمد كوثيقة للدرس لانه ثمة العديد من الجوانب قد كشفت في العمل كانت وراء اتهام العديد من الأطراف بشكل مباشر أو غير مباشر على غرار وزارة التعليم العالي، وزارة الداخلية، وزارة الخارجية..والدولة الايطالية دون ادنى شك… *غالبا ما يكون وراء نجاح اي عمل درامي تميز في تقمص كل الشخصيات سواء كانت ثانوية أو رئيسية..الا ترى أن من "نقاط قوة" المخرج لسعد الوسلاتي حسن انتقاء الممثلين؟ – من البلاهة والقصور أن يتصور اي متتبع أن هناك ادوارا كبيرة واخرى ثانوية فالممثل يستطيع أن يمر في دور ثانوي ولكن في المقابل بإمكانه أن يترك اثرا كبيرا في العمل بفضل حرفيته وإتقانه للدور وهنا يمكن أن نذكر على سبيل المثال الفنانين القديرين كمال التواتي ورؤوف بن عمر اللذين اكدا في اكثر من مناسبة قدرتهما على تقمص الشخصية ومدى تأثيرهما على الأحداث رغم ثانوية الدور.. انا في اعتقادي من أهم عوامل نجاح اي ممثل الاتقان والمصداقية في العمل والحرفية الكبيرة التي من شأنها أن تخلق طاقة ايجابية في اي عمل فني.. وسر نجاح جل الممثلين في "حرقة" في تقمص أدوارهم هو أننا شعرنا اننا في حالة طوارئ لأن طرح ظاهرة الهجرة غير الشرعية يقتضي ذلك..وكل المجموعة كانت تشعر بخطورة الموضوع.. *لماذا كان ظهورك في الأعمال التلفزية متأخرا رغم نجاحك في العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية؟ -لا يخفى أحد أن التلفزة قبل 14جانفي كانت عموما رمزا للابتذال والتهاون في طرح كل ما هو سائد فهي تعكس صورة النظام بل اللافتة الأولى له..تقدم كل ما يشبه الحقيقة..كلها اسباب جعلتنا نتفادى الانخراط في المنظومة لأننا كنا نحمل هاجسا آخر.. متبنين خطابا مغايرا تماما.. وجدنا ضالتنا في المسرح لاننا فوق الركح نشعر باكثر حرية وأكثر مواجهة.. ورغم الرقابة نستطيع أن نكون اوفر حظ.. من جانب آخر كانت التلفزة حكرا على مجموعة معينة وكنا الشق المعارض والطرف المواجه للرداءة والمغالطة..أو "صناديق الأكاذيب" كما يقول صنع الله ابراهيم..إلى درجة أن العديد اليوم لم يستوعبوا بعد قبول عمل "حرقة" في الوطنية الاولى وهو دليل على انه ثمة نقلة نوعية على الاقل من حيث اختيار الاعمال.. وهنا أريد أن انوه أن المخرج لسعد الوسلاتي هو من كان وراء ظهوري في التلفزة من خلال "مايسترو" ثم "حرقة" لانه من متتبعي جل اعمالي المسرحية وكان على يقين بأني سانجح في تقمص الادوار في العملين الدراميين السالف ذكرهما.. رغم ان المشاركة في المسلسلين اول الامر لم تغرني بل اقترحت على المخرجtriologie فما كان الا أن أصر على المسلسل لانه رأى أن أهمية الموضوع تستدعي مسلسلا ومدني آنذاك بثلاث حلقات للاطلاع عليها ليشدني عمق الطرح .. *بماذا تفسر الإقبال غير المعهود في السنوات الاخيرة على الأعمال الرمضانية ؟ -الإيجابي أنه "ثمة نفس جديد ودم جديد يسري في العروق" إلى جانب التنافس "الحلو" بين أصحاب الأعمال الفنية سواء كانت كوميدية أو درامية..ثم إن اللافت للانتباه هو تألق العديد من المتخرجين من معاهد الفنون في العديد من الأعمال الضخمة.. وحسب رأيي-طبعا في ظل الجدية والاحترافية التي بدت جلية في اغلب الاعمال- نستطيع أن نعانق العالمية.. *هل من أعمال فنية في المستقبل؟ اشتقت إلى خشبة المسرح ومن المؤكد اني ساعود إلى الأعمال المسرحية بالأساس..لاني أصبحت مشتتا بين العديد من الاعمال..وحاليا لا أستطيع أن التحق باي مشروع لاني عشت العديد من الانتكاسات وعملت في العديد من المشاريع الفنية التي لم تصل إلى المتفرج لعدة اسباب-وأتحفظ هنا لذكر الاسباب- الا إذا كانت أعمال بنفس درجة عمق الطرح في مسلسل "حرقة"..لذلك سأظل ملتزما في اختيار الأعمال في مسيرتي الفنية..