في الوقت الذي حاز فيه التصور العام للمجلس الأعلى للقضاء صلب الدستور على توافق واسع من قبل أغلب المعنيين بالشأن القضائي باعتبار دوره في تركيز دعائم سلطة قضائية تقف بمنتهى الندية مع السلطتين التنفيذية والتشريعية ليرسموا جميعا ملامح الدولة الجديدة القائمة فعلا وحقيقة على مبدأ الفصل بين السلطات في نطاق ضمان اقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات فقد آلت تصورات صيغ تطبيقه وإدخاله حيّز التنفيذ الى اختلاف في الإجتهاد طال مختلف المسائل التي أوكل الدستور أمر ضبطها في القانون. وأثار المشروع الذي أعدته لجنة التشريع العام المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء والذي صادق عليه مجلس نواب الشعب في جلسته العامة بتاريخ 15 ماي 2015 جدلا بخصوص مدى مطابقته للدستور ولقي جبهة رفض لم تنفرد بالتعبير عنه الهياكل الممثلة للقضاة وفي مقدمتها جمعية القضاة التونسيين وإنما أيضا المؤسسات الرسمية المشرفة على القضاء العدلي وكذلك المنظمات المهتمة بالشأن الحقوقي والقانوني ومن ضمنها اللجنة الدولية للحقوقيين ومنظمة هيومن رايتس واتش. ومن هذا المنطلق تولّدت الحاجة الى الفصل في دستورية هذا المشروع من السلطة ذات النظر وهي الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين عملا بالفصل 184 من الدستور والقانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014 المؤرخ في 14 أفريل المتعلق بالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين. وفي هذا الصدد وبعد تعهد الهيئة بهذا الموضوع تبعا للعريضة التي تقدم بها ثلاثون نائبا من مجلس نواب الشعب بتاريخ 22 ماي 2015 وبعد القرار التحضيري الذي أصدرته بتاريخ 1 جوان 2015 والذي تقرر على أساسه التمديد في المداولة نظرا لكثافة المطاعن وتعددها قضت يوم 8 جوان الجاري بقبول الطعن شكلا وفي الأصل بعدم دستورية إجراءات مشروع القانون الأساسي عدد 16/2015 المتعلق بالمجلس الاعلى للقضاء لمخالفة الفصل الثاني من القانون الأساسي عدد 13 لسنة 2013 المؤرخ في 2 ماي 2013 بإحداث الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي كعدم دستورية عرض مشروع القانون على الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب. وقد اعتبر ت رئيسة جمعية القضاة روضة القرافي في ندوة صحفية عقدتها الجمعية بمكتبة القضاة بابتدائية تونس هذا القرار مكسبا للممارسة المؤسسية والديمقراطية في الرقابة على دستورية القوانين وهي الممارسة التي تصنع التوازن الحقيقي، كما اعتبرت أنه قرار يكتسي أهمية خاصة من الناحية النظرية لما له من اتصال لا فقط بالمبادئ الدستورية الأصولية وفي مقدمتها مبدأ التفريق بين السلط ومبدأ استقلال السلطة القضائية وإنما أيضا بتأصيل الضوابط الشكلية والاصلية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين. ورأت رئيسة الجمعية أنه رغم قرار الهيئة الوقتية لمراقبة مشروع دستورية القوانين فيجب على القضاة أن يبقوا متيقظين لأنه وللأسف حسب تصريحها وكما يعلم الرأي العام فإن الهيئة الوطنية للمحامين وضعت نفسها خارج معركة استقلال القضاء وساندت مشروع القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء واعتبرته يضمن استقلالية السلطة القضائية رغم الخروقات الدستورية الكبيرة التي شابته والتي احتواها ذلك المشروع وشنت حملة ضد ممارسة حق الطعن في هذا المشروع لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وهي اليوم تواصل في نفس الإتجاه بحملة افتتحها عميد المحامين في حوارين أجراهما في صحيفتين يوم 13 جوان 2015 وبنفس المضامين خصصا جانبا منها لمهاجمة هيئة الرقابة الدستورية وعلى رئيسها باسمه والتعبير على رفض قرارها وتشويه مضامينه والعودة حتى الى مسالة التواقيع والتأكيد على أنه كان من الضروري سقوط الدعوى شكلا لأن الطعن في ذاته أصبح لدى العميد ذنبا لا يغتفر ومن أخطر تصريحات العميد حسب ذكرها تأكيده على أن هناك خطأ في الدستور يتمثل في احداث المجلس الأعلى للقضاء الذي يتولى تسمية أربعة اعضاء في المحكمة الدستورية فالعميد يعتبر بكامل الوضوح أن تصور النظام السياسي الجديد طبق الدستور الذي يقوم على التوازن بين السلط والذي من آليات تجسيمه أن تكون تركيبة المحكمة الدستورية متوازنة وذلك بإسناد صلاحيات التعيين في تركيبتها بصفة متساوية بين السلط الثلاث وهي السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية والسلطة التشريعية ممثلة في مجلس نواب الشعب والسلطة القضائية ممثلة في المجلس الأعلى للقضاء واعتبرت رئيسة الجمعية أن كلام العميد ينم عن قناعة لديه بان القضاء لا يمثل سلطة من سلط الدولة الثلاث أو هو عدم تمثل من قبله لمبدأ الفصل بين السلط والتوازن بينها كخيار تأسيسي جديد ببلادنا، واعتبرت أنه من المفارقات أن يتمسك عميد المحامين بموقع المحاماة كشريك في اقامة العدل داخل السلطة القضائية وأن يسعى عن قصد واضح الى تغييب هذه السلطة وإنكار موقعها في نظام التوازن بين السلط بما أقر لها في الدستور من صلاحية تعيين أربعة أعضاء بالمحكمة الدستورية، وبنفس الذهنية حسب ذكرها التي تعبر عن عدم قناعة باستقلال القضاء وبموقعه كسلطة في الدولة يعلن عميد الهيئة أنه في صورة تبني مجلس نواب الشعب لقرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين ومراجعة مشروع القانون على أساسه فإنه سيطرح حلا يتمثل في التنصيص صلب القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية بإسناد هذه المحكمة صلاحية مراجعة القرارات التي أصدرتها الهيئة الوقتية لمراقبة مشاريع القوانين وهذا يعتبر حسب رأيها تدخلا تشريعيا لإلغاء الأحكام والقرارات القضائية لأن الهيئة الوقتية للرقابة على دستورية مشاريع القوانين هي هيئة قضائية طبق قانون احداثها وهي بذلك تصدر قرارات قضائية. ولا شك أن التشريع لهذا الوجه من اوجه تدخل السلطة التشريعية لإلغاء الأحكام والقرارات القضائية هو من اخطر انواع التدخل في القضاء وضرب استقلاله. ولاحظت أنه في تاكيد القضاة على خطورة هذا التمشي ورفضه واستنكاره الذي يعلن عنه عميد الهيئة لا علاقة له فقط بالهيئة الوقتية للرقابة على دستورية مشاريع القوانين وقراراتها بل كذلك لما يؤشر له من رفض لمنطق دولة المؤسسات الذي اذا ما تم الإنسياق اليه اليوم فسينطبق مستقبلا على قرار المحكمة الدستورية اذ كلما لم ترض جهة بقرار من قراراتها فستسعى لإلغائه عن طريق التدخل التشريعي اي بواسطة سن قوانين تخالف قوانين المحكمة الدستورية. مشيرة أنه بنفس أدواة التشويه لمضامين قرار الهيئة الوقتية لمراقبة مشاريع دستورية القوانين يعلق العميد على بعض تلك المضامين معتبرة ذلك تشويها سياسيا لأن ذلك التعليق لا يمكن أن يرقى أبدا الى مستوى التحليل العلمي والموضوعي فالعميد يعتبر ان قرار الهيئة ليس فيه النفس الدستوري وأن الهيئة تعاملت مع الطعن بنفس عدلي ولا يخفي ما يمثله هذا القول من عدم احترام لأعضاء هيئة مراقبة دستورية مشاريع القوانين التي أحدثت بعد الثورة وما ينطوي عليه هذا الرأي من مغالطة للرأي العام توحي بأن اعضاء الهيئة هم القضاة العدليين فقط والحال أن الهيئة تتركب من ستة أعضاء.